شكلت قضية نهب آثار اليمن وتخريبها هاجساً للكثير من المهتمين بالتاريخ والآثار، نظراً لتعرض الكثير من الآثار لعملية تدمير ممنهجة في أكثر من منطقة، وصلت إليها الحرب التي تدور رحاها في عدد من مناطق البلاد، والتي جاءت إثر إقدام الحوثيين وأنصار المخلوع علي عبدالله صالح على الانقلاب على الشرعية التي يمثلها الرئيس عبدربه منصور هادي في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي. وعادت هذه القضية لتثار في الآونة الأخيرة بشكل أكبر في ظل تمادي بعض الجماعات المتطرفة في تدمير الآثار والمعالم التاريخية، والتي مر على بنائها عقود وقرون طويلة في مناطق تاريخية عدة. وتشير المعلومات إلى أن الحرب التي يشنها الحوثيون وأنصار صالح منذ أكثر من عامين، لا تمس حاضر اليمن فحسب، وإنما تاريخه وحضارته أيضاً، إذ إن أكثر من 25 موقعاً أثرياً وتاريخياً تم تدميرها خلال الحرب الأخيرة فقط. طال القصف مناطق في مأرب، وقلعة القاهرة الأثرية ومعالم زبيد المدرجة على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، ولحقت أضرار كذلك بمباني صنعاء القديمة، إضافة إلى قصر دار حجر بضواحي العاصمة، كما يتم وبشكل متعمد تدمير المناطق الأثرية في كل من مأرب والجوف وحضرموت وغيرها من المناطق التي تحوي كنوزاً من الآثار بحاجة إلى عناية وليس إلى تدمير. عقلية تدمير وهدم منذ بدء حروبهم ضد السلفيين في منطقة دماج، الواقعة بمحافظة صعدة، شمالي البلاد، والحوثيون يزيدون من وتيرة استهدافهم للمساجد ودور القرآن؛ بما فيها تلك المرتبطة بالتاريخ القديم، مثل المسجد العُمري، نسبة إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب، الواقع في محافظة إب. في مطلع العام 2014؛ نسف مسلحو جماعة الحوثي المسلحة مسجداً بناه سلفيون في منطقة كتاف بمحافظة صعدة شمال اليمن بعد نحو يوم من سيطرتهم على تلك المناطق بمشاركة مسلحين يرتدون ملابس الجيش. زرع الحوثيون عبوات شديدة الانفجار في أنحاء متفرقة من مسجد دار الحديث بكتاف، بعد أن استولوا على جميع محتوياته، والمباني المرافقة المجاورة للمسجد، بما في ذلك النوافذ والأبواب والأفرشة والمواد الغذائية، وجلبوا مُصورين تلفزيونيين يعملون لصالح قنوات عدة، بينها العالم الإيرانية والمنار اللبنانية، إضافة إلى مُصور قناة المسيرة التابعة للجماعة، لتوثيقه لحظة التفجير. كان الحوثيون وقت التفجير يهتفون بشعارهم المعروف الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام، بعد تفجير المسجد وتحويله إلى أنقاض، حيث ظهر ذلك على مقطع فيديو نشره أحد عناصر الحوثيين على الإنترنت، وبدا فيه متفاخراً وهو يبدو واقفاً على أنقاض الدار. وأثار ذلك ردود فعل مختلفة، فبينما قال شاهد عيان إنه سمع صوت أحد عناصر الحوثيين خلال تفجير المسجد وهو يقول إنه تفجير لدار الكفر، قال أحد السكان المحليين في المنطقة إن ذلك دليل على روح التدمير التي يحملها الحوثي، حسب وصفه. وفي إب، وسط البلاد، دمر الحوثيون المنارة التاريخية للجامع الكبير، المعروف بالمسجد العمري بمدينة إب القديمة، والذي يعتبر من أقدم الجوامع التاريخية، حيث يعود تاريخ بنائه لعصر الخليفة عمر بن الخطاب في العقد الثاني من القرن الأول للهجرة، وعمر منارته يقارب ال900 عام. وأكد باحث ومحقق بارز في إب، أن خطة هدم الجامع الكبير في مدينة إب القديمة، والمعروف أيضاً باسم الجامع العمري خطة مركزية مرسومة من إيران باعتبار المسجد هو الأثر الأبرز والأكثر في اليمن والشاهد على التاريخ الإسلامي للخليفة عمر بن الخطاب. وقال الأديب والباحث في التراث الإسلامي محمد القادري إن لديه أدلة دامغة على أن جماعة الحوثي الموالية لإيران هي من تقف وراء سقوط تلك المنارة المئذنة، قائلاً: لقد سقطت منارة الجامع العمري في وضح النهار، وفي وقت هدوء تام، وليس هناك أمطار ولا رعود ولا برق، وأيضاً لم تكن هناك غارات حتى يتهم الحوثيون التحالف العربي، والمعروف كذلك أن كل القصف الذي حدث من قبل كان بعيداً عن تلك المنطقة ولا يؤثر على المباني فيها، كما أنه تم ترميم هذه المئذنة مرات عدة، ومن المستبعد أن يكون سقوطها نتيجة عدم الترميم، وعلى الأقل ستكون عمليات الترميم السابقة المصحوبة بمفاعيل الصيانة عاملاً لصمودها لعدة سنين، خاصة أنها تمت قريباً. وأشار إلى أن شخصيات موثوقة من الأهالي المجاورين أكدوا أنهم كانوا خلال الفترة الأخيرة وخصوصاً في آخر الليل يشاهدون تحركات مشبوهة في سطح الجامع، وحول المنارة ويسمعون أحياناً أصوات مطارق وعمليات نخر بسيطة صادرة عن ذلك المكان؛ الأمر الذي يرجح أن يكون سقوط تلك المنارة ناتجاً عن تعرض أسفلها للنخر. وخلص القادري إلى القول: إن الخطة الحوثية تقتضي طمس كل آثار المسجد العمري والترويج لأكذوبة أن التحالف قصفها، ما يعني أن الحوثيين يريدون إثارة نعرات طائفية ومذهبية لم تكن موجودة في قرون طويلة تعايش فيها اليمنيون بمختلف مناطقهم. كان الحوثيون حيثما تصل آلة الموت التي يمتلكونها، يقومون بتدمير المساجد الأثرية تحت مبررات واهية، وظلوا يرددون أن بعض المساجد يتم تدميرها إسوة بهدم الرسول مسجد ضرار، وهم بذلك يرون أن هذه المساجد مساجد للفتنة. تخريب في لحج وحضرموت قبل أيام قليلة أقدم متشددون على هدم أهم معلم إسلامي في مدينة الحوطة بمحافظة لحج، جنوبي البلاد، وهو عبارة عن ضريح يعود للعالم الجليل سفيان بن عبدالله، حيث قاموا بهدم المعلم ونبش القبر وتسوية القبة، وملحقاتها بالأرض في ظاهرة أثارت قلق الكثير من المراقبين والمهتمين بالتاريخ الإنساني. جاءت العناصر المتطرفة، الموالية لتنظيم القاعدة بشيولات وجرافات قبل أن تقدم على هدم الضريح والقباب المحيطة به، وتحيل المواقع كافة إلى أثر بعد عين. لم يكتف متطرفو القاعدة باقتحام الضريح وتفجيره وهدمه، بل قاموا بنبش القبر والقبور المجاورة له، وإخراج رفات الموتى، وهي حادثة تنذر بخطر كبير يتهدد المعالم التاريخية في ظل الفوضى التي تشهدها البلاد. وضريح سفيان بن عبدالله، يعود تاريخه إلى أكثر من 800 عام، وتذكر كتب التاريخ والتراجم عن صاحب القبر، أنه كان عالماً ورعاً ومجاهداً شجاعاً قاتل الفرنجة في دمياط بمصر، وكان ضمن الجيش الذي دخل بيت المقدس بصحبة صلاح الدين الأيوبي، ويعود نسبه، للإمام جعفر الصادق، والذي توفي في سنة 612 هجرية. وفي الثالث والعشرين من شهر سبتمبر/أيلول المنصرم، قام عناصر تابعون لتنظيم القاعدة بهدم وتخريب أضرحة الصوفيين في مدينة المكلا، وسط تجاهل واضح من قبل السلطات المحلية. وقام التنظيم في الشهر نفسه، بهدم قبة ضريح الشيخ الفقيه مزاحم بن أحمد باجابر، والذي يعود بناؤه إلى مئات السنين، ويقع في منطقة بروم الواقعة على بعد 30 كيلومتراً غرب مدينة المكلا، وقد استخدم التنظيم أدوات حفر يدوية لهدم الأضرحة والقباب، التي تعدّ مزارات للجماعة الصوفية بحضرموت. وفي الإجمال فقد هدم تنظيم القاعدة خمسة قبور في ثلاث قبب تاريخية تعود للسلطان عوض القعيطي والعلامة عبدالله الحداد والشيخ يعقوب والعلامة الحامد، كما تم هدم تابوت الحبيب أحمد بن محسن الهدار، وقبر الحبابة علوية، كما عبثت بالقبور التي تضم رفات سلاطين وعلماء وفقهاء وصالحين ومصلحين من أبناء حضرموت. ودانت الهيئة العامة للآثار والمتاحف ما تعرضت له المعالم الإسلامية من قبل جماعات إرهابية، واعتبر رئيس الهيئة العامة للآثار والمتاحف مهند السياني أن هذه الاعتداءات مؤشر ينذر بمؤشرات أكثر خطورة بخصوص التحديات والمخاطر التي باتت تحدق بالبلد على صعيد إذكاء الفتنة، وفي الوقت نفسه تهديد المعالم الأثرية تحت لافتة جديدة من قبل الجماعات الإرهابية، التي ترتكب بهذه الأعمال جرائم جسيمة في حق ثقافة وتراث الشعب وحاضر ومستقبل وأمن المجتمع والبلد. من جانبه قال مدير عام الوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف والإرشاد الشيخ جبري إبراهيم حسن إنه لا يجوز الاعتداء على الأموات، ونبش القبور، والاعتداء عليها محرم في الإسلام، حتى المشي على الأضرحة لا يجوز. ويبدو أن هاجس تخريب الآثار لا يقتصر على الحوثيين فقط، بل بدأ يتسلل إلى الكثير من الفرق الدينية، بخاصة تلك التي يتواجد فيها تنظيم القاعدة في المناطق الجنوبية من البلاد، وقد لوحظ في السنوات الأخيرة تصاعداً في أعمال هدم القباب والأضرحة والمساجد التي يعود تاريخ بنائها إلى مئات السنين. طمس التاريخ في عدن بعد حرب العام 1994 بدأت يد الطمس والتدمير تطال الكثير من معالم المدينة الدينية ذات الطابع الثري، وكان مسجد (أبان) التاريخي العتيق، الذي كان واحداً من أقدم المساجد التي بُنيت في اليمن، أول ضحايا التخريب. يعود تاريخ تشييد مسجد أبان إلى القرن الثاني الهجري، عندما قدم الحكم بن أبان بن عثمان بن عفان إلى عدن في العام 150 هجرية، ليعمل فيها قاضياً، وقام بالبحث عن المكان الذي وضعا فيه أبوموسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، أساس المسجد عندما أرسلهم الرسول عليه الصلاة والسلام لليمن ليكمل بناء المسجد، فشيد الحكم بن أبان المسجد وأسماه باسم والده أبان بن عثمان بن عفان (مسجد أبان)، ولهذا اعتبر أول مسجد بُني في عدن في عهد الرسول الكريم. طمس أثر هذا المسجد التاريخي بعد تدميره، وبيعت أبوابه وأخشابه المنحوتة والعتيقة في متاحف أوروبا، ولم يعد المسجد الذي بني على أنقاضه له علاقة بالمسجد القديم. وهناك معلم تاريخي آخر طُمست معالمه بعد حرب صيف 1994م، وهو (المدرسة الأنجلو - جزراتية) التي بُنيت لأغراض تدريس أبناء عدن الهنود، اللغة العربية وغيرها من المواد العلمية، وتغير اسم المدرسة بعد استقلال جنوب البلاد من الاستعمار البريطاني عام 1967، إلى مدرسة الخليج الأمامي الإعدادية، ومن ثم إلى مدرسة الشهيد مدرم. وكغيرها من المباني التاريخية العريقة في عدن التي طُمست وهُدمت معالمها، قام بعض المتنفذين بعد حرب عام 1994 بهدمها وبدلاً عنها قاموا ببناء مدرسة أخرى مع تغيير اسمها إلى مدرسة عقبة بن نافع الابتدائية حتى لا يبقى للتاريخ أثر. وثالث أحد أهم المعالم التاريخية التي عملت أيادي العبث والحقد بتدميره وطمس معالمه هو المعبد اليهودي الكبير (ماجين أفراهام) في كريتر، الواقع في شارع السبيل 1856، واعتبر المعبد واحداً من أروع وأجمل المعابد اليهودية في العالم ويتسع ل 1000 شخص، وبعد حرب صيف 1994 تم الاستيلاء عليه وتدميره وأُقيم على أنقاضه مركز تجاري معروف باسم الحاشدي. وهناك معلم آخر من معالم عدن التاريخية طالته يد التدمير الممنهج لتُمحي تاريخاً عظيماً ارتكزت على أساسه مدينة عريقة مثل عدن، والمتمثل في المدرسة الإسلامية والتي عُرفت بمدرسة (شيرين بهاي لالجي) تيمناً بها، حيث قامت هذه المرأة العدنية المسلمة الفاضلة بحملة لجمع التبرعات لتؤسس هذه المدرسة عام 1947، وبعد العام 1994، قام المتنفذون بنهبها وتدميرها وطمس كل ما يتعلق بتاريخها وتحويلها إلى سراب.
مشاركة :