اعتمد فكر الخوارج حين ظهورهم على «إن الحكم إلاَّ لله»، مستشهدين بقول الله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلهِ)، والتي جاءت في عدة آيات تبيّن أن الحكم لله -عز وجل- في أمره، وقضائه، وخلقه، وأمّا الحكم بين الناس فيطبّق حكمه من جُعل قاضيًا، وحتمًا هو من البشر، يطبّق أحكام الله الواردة في النصوص باجتهاده، فإن وفق إلى مراد الله من ذلك، فله عظيم الثواب، وإن أخطأ فله أجر المجتهد، أمّا إن حكم ظلمًا -وهو يعلم- فذاك من القاضيين اللذين أخبر سيدنا رسول الله عنهما حينما قال: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة، قاضٍ قضى بغير الحق، وهو يعلم فذاك في النار، وقاضٍ قضى وهو لا يعلم فأهلك حقوق الناس، فذاك في النار، وقاضٍ قضى بحق فذاك في الجنة)، وتحكيم كتاب الله إنّما يجري باستنباط واجتهاد، لذا قال سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حول خوارج عصره، وهم أصل الخوارج في كل عصر بعد ذلك: (هذا القرآن إنّما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، وإنما يتكلّم به الرجال)، وقد قال الصحابة يومئذٍ عن دعاواهم: (إنّها كلمة حق أريد بها باطل)، ومن يكن خيرًا من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تطبيقهم لأحكام الله المرصودة في كتابه، وسنّة رسوله -عليه الصلاة والسلام- وكلّما انطفأت نار لهؤلاء الخوارج، جاء فيمن لحق بهم في أعصار المسلمين من يقودهم، وأول مَن تحدّث عن الحاكمية، وأنّها أصل العقيدة الإسلامية، وألّف وحاجج في ذلك إنّما كان يُحيي منهج الخوارج، فدعا إلى إنشاء جماعة إسلامية بعد أن اتّهم كافة المسلمين في عصره بالنفاق، وتزكية النفس، والتناقض في الأعمال، لأنه زعم أن كلهم يعيش راضيًا مقتنعًا في ظل النظم العصرية الباطلة التي لا سلطان فيها للدِّين، بل يرى أن المسلمين يتظاهرون بالإسلام، ويتفاخرون به، ولم يخلصوا دينهم لله، ولم يزكّوا أنفسهم من شوائب النفاق، وأثنى على هذه الجماعة الإسلامية التي دعا إليها قبل أن تنشأ، وجعلها البديل لعصبة الصحابة -رضوان الله عليهم- الذين يعيدون الإسلام بعد أن فقده أهله، وجعل لها نظامًا دقيقًا يعلوه أميرها، وتصل إلى كل موطن من الدولة، وكل قرية يكون لها فيها أمير يبايع، لتكون الجماعة نظامًا يحل محل الحكومة حينما يأمر الأمير بذلك، فالجماعة بديل جاهز لأيّ حكومة في بلاده، بل ادّعى أن المسلمين منذ زمن طويل لم يعرفوا المصطلحات الأربعة التي تتردّد في آي القرآن الكريم وهي: الإله، والرب، والدّين، والعبادة، ولم يعلمها سواه، ولذلك فهم لا يعرفون الإسلام، ويحتاجون لعصبة مؤمنة سمّاها الجماعة الإسلامية، ورأى أنها مَن ستعيد المسلمين إلى دينهم، وتقودهم إليه بالسلاسل، وحشد كل كتاباته على هذا النحو، وحتمًا هو لم ينجح في مراده برحمة من الله، وعناية بالمسلمين، وإلاّ لقاتلوا بعضهم بعضًا أمداً طويلاً، ولكن دعوته أحييت في بلد عربي هو مصر، فتبعه أحد زعماء الإخوان المسلمين الذي رسم لهم طريق العنف بعد مرشدهم الأول، الذي نشأ تحت بصره وعلمه ما سمّي (النظام الخاص)، والذي لما استفحل عنفه قال لهم مرشدهم: لستم إخوانًا، ولستم مسلمين، ثم جاء بعده مرشد آخر ألّف لهم منشورًا بعد أن رأى تكفيرهم للناس، وشدتهم عليه عنونه: (دعاة لا قضاة)، ورحم الله مرشدهم هذا لو سمعوا نصيحته لما آل أمرهم إلى ما آل إليه اليوم، فجاء من كتب كتابًا أحيا به منهج الخوارج، ورسم فيه لهم طريقًا إلى أن يعادوا الأمة كلّها، فهو قد رسم لهم الطريق لتطبيق ذاك المنهج، فدعا إلى إنشاء الجماعة التي أثنى عليها، ورآها العصبة التي سيربيها على الإسلام، كما ربى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، ونادى من أول لحظة أنها لن تعيد المسلمين من جاهليتهم إلى الإسلام، إلاّ بأن تكون قوية قادرة على أن تعيدهم، ولو بقوة السلاح، يضرب لهم الأمثلة، ويحرّضهم على ذلك بعد أن رأى أن المسلمين يعيشون كما زعم في جاهلية عمياء، ودعا إلى تنظيم الجماعة لتكون بديلاً لنظام الحكم القائم، فالعالم كله، والمسلمون جزء منه (يعيش اليوم كله في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة، وأنظمتها جاهلية لا تخفف منها هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع الفائق)، ويؤكد كأستاذه الذي تبعه فكرًا بأن الحاكمية هي أساس المنهج والمعتقد، بل جعلها مع أستاذه أُسّ العقيدة، ودعا جماعته إلى العزلة عن هذه الجاهلية، حتى يكتب لهم التمكين، الذي ظلوا ينتظرونه ثمانين عامًا، ولم يحظوا به، ولا أظنهم سيحظون به أبدًا، ففكر الخوارج لا يرسم طريقًا إلا للفناء، والإسلام بحقيقته في مصدريه الكتاب والسُّنَّة يبني الحياة، وما انصرف الناس عن حقيقته إلى بنيات الطريق إلاّ ضلوا، فاللهم اهدِ كلَّ ضالٍّ عن هديك ومنهجك، وردّه إليك ردًّا جميلاً. alshareef_a2005@yahoo.com
مشاركة :