كانت الزراعة في جنوب العراق "مربحة مثل النفط"، كما يؤكد ذلك قاسم عبدالواحد الذي يمتلك مزرعة تبلغ مساحتها هكتارا واحدا في محافظة البصرة. وكانت تنتج ما يكفي لإطعام أسرته المكونة من ثمانية أفراد. ولا يجد اليوم سوى الغبار تحت قدميه وهو يمشي في أرضه، بعد أن أتلف تفاقم الحرارة الشديدة والجفاف المرتبط بتغير المناخ حوالي 90 في المئة من محاصيله الشتوية، بما في ذلك كل البامية والباذنجان. وقال الرجل البالغ من العمر 50 عاما "كنت أستطيع الجلوس هنا والاسترخاء قبل بضع سنوات. كانت مساحة خضراء جدا وجميلة. لكنني أشعر وكأن أحد أفراد عائلتي قد رحل عندما أنظر إليها الآن". ويعتقد عبدالواحد، الذي أمضى حياته في الزراعة في قرية أبوالخصيب، أنه سيضطر قريبا إلى التخلي عن أرضه في محاولة منه للبحث عن أرض في مكان آخر أكثر خصوبة. وقال "منذ ثلاثة أسابيع بدأت أفكر في الانتقال إلى محافظة بابل للعمل مزارعا. لا أريد أن أقول ذلك أمام أطفالي". ويعدّ العراق الدولة الخامسة في العالم المعرضة لخطر ارتفاع درجات الحرارة ونقص المياه، وفقا لبرنامج البيئة التابع للأمم المتحدة. وتبقى منطقة البصرة (التي تعاني بالفعل خلال فصل الصيف، حيث بلغت درجة الحرارة القصوى 53.8 درجة مئوية) من بين أكثر المناطق تضررا. ولأن الجفاف الشديد والحرارة يؤثران على المحاصيل وعلى دخل الأشخاص الذين يعتمدون على الزراعة، فقد شهدت أسرة واحدة من كل 15 أسرة عراقية في أواخر سنة 2021 هجرة فرد واحد على الأقل بحثا عن فرص اقتصادية جديدة، وفقا للمجلس النرويجي للاجئين. وتظهر المشاكل الطبيعية في أبوالخصيب جنوب مدينة البصرة على طول نهر شط العرب. وقد خسر عبدالواحد هذا الشتاء محصولا متوقعا من البامية والباذنجان بقيمة 3700 دولار، بالإضافة إلى 400 دولار أنفقها على زراعته في الشتاء قبل أن يفقد نصف المحصول من البامية والباذنجان. وقال "نجد المزيد من الغبار الآن بسبب تغير المناخ، وأصبح ارتفاع درجة الحرارة لا يطاق.. كل هذا إلى جانب نوع جديد من الأمراض والعث الذي لم نشهده من قبل". وفي الماضي اشتهرت منطقة أبوالخصيب بالتمر، لكن الغبار يكسو نخلها اليوم ويتلف الثمار. وقال عبدالواحد إن آخر جني للتمور كان أقل بمقدار 350 كيلوغراما عن العام السابق. وتابع "يجب أن أبحث عن بعض الأعمال الأخرى الآن لأنني لم أعد أستطيع الاعتماد على مزرعتي". المواشي تقتات الحصى المواشي تقتات الحصى وقال علي رضا قريشي، ممثل برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في العراق، إن "المزارعين بحاجة إلى المساعدة للتكيف مع الظروف المتغيرة، من خلال تدابير مثل اعتماد أصناف محاصيل مقاومة للجفاف وأنظمة ري أنسب”. لكنه يرى أن نقص الوعي في العراق واستمرار الممارسات القديمة يحولان دون حدوث التغيير. وصرّح "في معظم الحالات لا يزال المزارعون يستخدمون طرقا كانت قائمة منذ قرون، عندما لم تكن المياه شحيحة ولم يكن الطقس حارا". ولمواجهة ارتفاع درجات الحرارة ونقص المياه لجأ عبدالواحد إلى محاولة تظليل بعض محصوله واشترى مياه الشرب وخلطها مع ماء الصنبور لري نباتاته، وهي خطة مكلفة وغير مستدامة. وعادة ما تعتمد مزرعته على مياه نهر شط العرب المجاور، لكن منسوبها انخفض الآن إلى درجة أنه لم يعد بإمكانه ري حقوله. ومن المتوقع أن يشهد العراق انخفاضا في توافر المياه بنسبة 20 في المئة بحلول سنة 2050، مما قد يؤدي إلى تجفيف ثلث أراضيه المروية، وفقا للبنك الدولي. العراق من المتوقع أن يشهد انخفاضا في توافر المياه بحلول سنة 2050 مما قد يؤدي إلى تجفيف ثلث أراضيه المروية وبعيدا عن النهر، حول قرية القرنة حيث يتشكل شط العرب عند تقاطع نهري دجلة والفرات، لا تزال الكثير من الحقول خضراء بالقمح، لكن بعضها تلف نتيجة عاصفة رملية حديثة. وقال المزارع هادي بدر المالكي، البالغ من العمر 57 سنة، "إذا خسرنا القمح، فقد خسرنا كل شيء". ويكافح المزارع أمام ارتفاع نسبة الملوحة في التربة، مما أجبره على ترك أجزاء من أرضه -التي تبلغ مساحتها 1250 هكتارا- غير مزروعة. وقال إن مثل هذه المشاكل قلّصت دخله بمقدار 10 آلاف دولار في الموسم الماضي مقارنة بالعام الذي سبقه. وتابع "أنا قلق بشأن المستقبل. هل علينا جميعا المغادرة؟ هل سيتعين على جميع أطفالي البحث عن وظائف حكومية؟". وذكر أن ابنه الأكبر يعمل بالفعل في وظيفة أمنية خارج المزرعة، على الرغم من أنه يعود إلى المساعدة أحيانا. ووفقا لكارولين زولو، مستشارة السياسة في المجلس النرويجي للاجئين، فقد ما يقرب من نصف مزارعي القمح في القرنة محصولهم الكامل من هذه المادة في الموسم الأخير. وتجبرهم هذه الخسائر على الهجرة إلى الخارج، وعادة ما يجدون أنفسهم بعيدين عن مجال الزراعة. وغادر حيدر صباح الراضي مع زوجته وأطفاله الستة خلال السنة الجارية مزرعته التي تبلغ مساحتها 75 دونما إلى قرية القرنة التي تبعد ثمانية كيلومترات للعمل سائق تاكسي. وباع كل ماشيته في الصيف الماضي، بما في ذلك 90 بقرة و200 نعامة،لأنه لم يعد قادرا على إطعامها. واشتكى قائلا "لا يوجد دعم من الحكومة"، مؤكّدا أنه يخشى أن ينفصل أطفاله الآن عن الحياة الزراعية. ولم ترد وزارة الزراعة العراقية على طلب للتعليق على تدابير دعم المزارعين. محصول تالف محصول تالف ووفقا لتقرير يناير الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، فإن أكثر من 90 في المئة من منتجي الماشية في العراق في أكتوبر الماضي واجهوا صعوبة في الحصول على المياه أو شراء العلف نتيجة الجفاف. وقال قريشي إن تزايد الهجرة المرتبطة بالمناخ واضح بالفعل، وذلك بالتزامن مع تزايد التوترات في المناطق الحضرية وتزايد المنافسة على الوظائف والموارد، حيث يؤدي هذا إلى صراع اجتماعي وتوسّع التفاوت في الدخل. وقالت زولو إن "الكثيرين يخشون ألا تكون المدن قادرة على توفير ما يكفي من العمل والمنازل للنازحين الذين تركوا مهنة الزراعة". وقال عبدالحسن كاظم العبادي رئيس الاتحاد المحلي للجمعيات الزراعية التعاونية في البصرة إن "الدعم الحكومي (بما في ذلك تعويض المحاصيل المدمرة) ضروري للمزارعين كي يبقوا في أراضيهم". واحدة من كل 15 أسرة عراقية شهدت هجرة فرد واحد على الأقل في أواخر السنة الماضية وأضاف أن "عدم توفير ذلك قد يضر بالاقتصاد العراقي بشكل عام إذا تخلى المزارعون عن أراضيهم واحتاجت البلاد إلى استيراد المزيد من الغذاء". وبدأت الأمور تصعب أكثر فأكثر، حيث تجفف الحرب الروسية – الأوكرانية الصادرات من اثنين من كبار منتجي القمح، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الحبوب وغيرها من السلع المستوردة. ومن جهتها تساعد الحكومة العراقية بعض المزارعين من خلال توفير بذور القمح الهجين المصممة لمواجهة تفاقم ملوحة التربة والرياح والعواصف الرملية. لكن مجتبى نوري، رئيس قسم البحوث بوزارة الزراعة في القرنة، قال إنه "لا يمكن لجميع مزارعي القمح الوصول إلى البذور لأنهم غير مجهزين لاتباع قواعد الوزارة بشأن كيفية زراعة الأنواع الجديدة". وقال العبادي إن "20 في المئة فقط من مزارعي القمح في محافظة البصرة تمكنوا من شراء البذور الهجينة". ويتوقّع أن يخسر المزارعون عاما بعد عام إذا لم يكن هناك دعم جاد من الحكومة ولم تمدهم بالبذور.
مشاركة :