يعد الكاتب المصري توفيق الحكيم من الأسماء البارزة في تاريخ الأدب العربي الحديث، وأحد رواد الرواية و«المسرح الذهني»، وقد مزج في أعماله بين الرمزية والواقعية واستلهام التراث عبر عصور مختلفة، وامتدت مسيرته الإبداعية أكثر من نصف قرن من الزمان، قبل أن يرحل عن عالمنا في 26 يوليو 1987. تفرَّد توفيق الحكيم بأسلوبه الإبداعي في نصوصه المسرحية والأدبية، وكتب عشرات النصوص بين التراجيديا والكوميديا الاجتماعية، فأحدث طفرة في جماليات ومضمون التأليف الدرامي، ومهّد لبزوغ العصر الذهبي للمسرح في ستينيات القرن الماضي. ظهر الحكيم في وقت سادت فيه الأعمال المقتبسة، وكان أول كاتب مسرحي عربي يستلهم التراث في أعماله، واستطاع أن يملأ هذا الفراغ في مجال الأدب التمثيلي، ويقدِّم إبداعه المتفرد، ليعبِّر عن خصوصية المجتمع المصري في حقب مختلفة. «أهل الكهف» ارتحل الحكيم بين فنون الأدب والمسرح، وحالت الظروف الاجتماعية والسياسية في الثلاثينيات دون استقراره على اتجاه واحد، وفي عام 1932 صدرت له مسرحية «أهل الكهف» المستلهمة من القَصص الديني، و«عودة الروح» كأول رواية عربية بمفهوم حداثي، وتدور داخل منزل عائلة مصرية، يتجمع أفرادها لاستعادة روح الوطن أثناء ثورة 1919، ورفض التبعية للاحتلال البريطاني. وتحمس الفنان زكي طليمات لإخراج مسرحية «أهل الكهف» عام 1935، وشاركت في بطولتها عزيزة أمير وعمر وصفي وعباس فارس، وتدور أحداثها حول ثلاثة من القديسين يهربون بدينهم من ملك ظالم ويلجأون إلى كهف ينامون فيه مدة ثلاثة قرون ويستيقظون في زمن غير زمانهم، ولكنهم يشعرون بالغربة والوحدة في هذا الزمن الجديد ويؤثرون العودة إلى الكهف مجدداً. وظلت «عودة الروح» في نطاق الكتاب «المقروء»، وكان لها تأثير كبير في جيل الثلاثينيات، ولكنها منعت من الظهور على خشبة المسرح حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952، وتصدى لإخراجها الفنان جلال الشرقاوي عام 1963، وشارك في بطولتها صلاح قابيل ونعيمة وصفي وسعيد صالح ونور الدمرداش. انحاز توفيق الحكيم للموضوعات الذهنية، وعبَّر خلالها عن أفكار مجردة كالعدل والحرية، واستلهم أساطير اليونان القدماء في مسرحيات «أوديب ملكًا» و«بِجماليون» و«براكسا أو مشكلة الحكم»، ومن الشرق حكايات ألف ليلة وليلة في مسرحية «شهرزاد»، والقصص الدينية في «أهل الكهف» و«سليمان الحكيم»، و«إيزيس» من عصر الفراعنة. وظل حالة استثنائية بين كتاب المسرح، فعلى الرغم من إنتاجه الغزير، وجد المخرجون صعوبة في تحويل معظم أعماله إلى عروض مسرحية، وكان يدرك ذلك جيدًا، وتوالت تجاربه في تيار «المسرح الذهني»، وجعل الممثلين أفكارًا تتحرك في المطلق من المعاني مرتدية أثواب الرموز، واتسعت الهوة بين نصوصه وخشبة المسرح، وتواصل مع جمهوره من خلال الكتاب المطبوع. «الضيف الثقيل» وُلد توفيق الحكيم في مدينة الإسكندرية الساحلية عام 1898، لأم تركية الأصل شديدة الحزم، وأب مصري كان يعمل وكيلًا للنائب العام، ثم قاضيًا، فمستشارًا، وكانت هذه الأسرة ميسورة الحال، وحرصت على تعليم ابنها في أرقى المدارس، لكي يتبع خطوات أبيه في السلك القضائي. وانتقل إلى القاهرة، والتحق بمدرسة القانون، وكان مهتمّا بالفنون الأدبية خصوصًا فن المسرح، واعترضت أسرته على هذا الاتجاه، لكنه لم يأبه لاعتراضها، وبعد أن تحرَّر من رقابة والدَيه، شارك مع بعض زملائه في الحركة الوطنية عام 1919، وبدأ في كتابة الإرهاصات الأولى لروايته الأشهر «عودة الروح». ووثّق الحكيم هذه المرحلة من حياته وحياة جيله في «عودة الروح»، ومع ذلك فإن القصة لم تكن الفن الأدبي الذي استهواه في حداثته المبكرة، بل كانت المسرحية التي أخذ يكتبها منذ عام 1918، وبدأ إنتاجه بمسرحية رمزية يسخر فيها من الإنكليز المحتلين بعنوان «الضيف الثقيل» ولم يدفع بها للنشر، لكنه تحدَّث عنها في مقدمة كتابه «مسرح المجتمع». وترمز «الضيف الثقيل» إلى رفض الاحتلال، وتدور حول محامٍ هبط عليه ذات يوم ضيفٌ ليقِيم عنده يومًا، فمكث شهرًا، وما نفعتْ في الخلاص منه حيلة ولا وسيلة. وكان المحامي يتخذ من سكنه مكتبًا لعمله، فما إن يغفل لحظة أو يتغيَّب ساعة، حتى يتلقَّف الضيف الوافدين الجدد، فيوهمهم أنه صاحب الدار ويقبض منهم ما يتيسَّر له من مقدَّم الأتعاب. وكتب طالب مدرسة الحقوق لفرقة عكاشة، مسرحيته الثانية «المرأة الجديدة» عام 1923، ولاحقًا نشرها مع مسرحيات «جنسنا اللطيف» و«الخروج من الجنة» و«حديث صحفي» في مجلد واحد عام 1952، ثم أعاد نشرها في مجلده الكبير «المسرح المنوَّع». «عدو المرأة» يتخلى عن موقفه! اشتهر توفيق الحكيم بلقب «عدو المرأة» حتى أنه تزوج بعد تخطيه مرحلة الشباب، وأنجب ولدًا وبنتًا، وتخلى عن موقفه الساخر من مشاركة المرأة في المجتمع، ولم يَعُد يزهو بأنه عدوها ولا يُمعِن في محاربتها بمسرحياته والتهوين من دورها في الحياة، أو السخرية من نهضتها واقتحامها في شجاعة وإخلاص الكثير من ميادين الحياة العامة. اتضح هذا التطور في موقف الحكيم خلال مسرحياته العديدة التي تمتد من «المرأة الجديدة» في عام 1923، إلى «جنسنا اللطيف» و«حديث صحفي» و«الخروج من الجنة» و«النائبة المحترمة»، ثم «إيزيس» في المرحلة الأخيرة من مشواره الإبداعي. علي بابا وفي تلك المرحلة الأولى، أراد الحكيم أن يحقق انتشاره الفني، وحينها كان جمهور المسرح شغوفًا بالمسرح الغنائي، واستجاب لرغبة الفرقة التمثيلية، وكتب مسرحية «علي بابا» وضمّنها أشعارًا بالعامية المصرية. ومن خلال هذه المسرحيات الثلاث، بدأ توفيق الحكيم مشواره الإبداعي، وحينها كان غارقًا وسط بيئة المسرح المصري، مخالِطا لأهله عن قرب، مما أفزع والديه، وبعد حصوله على ليسانس الحقوق عام 1924، قررا إرساله إلى باريس لمواصلة دراسة القانون بجامعتها والحصول على درجة الدكتوراه. ولكن الحكيم خيَّب ظن والديه مرة أخرى، وبدلًا من أن يدرس القانون انصرف إلى الأدب والمسرح وخالط الأوساط الأدبية والفنية في باريس، وسجَّل ذكريات تلك الفترة الخصبة من حياته، في كتابيه «عصفور من الشرق» و«زهرة العمر»، وحينها اتصل عن قرب بفنون الأدب العالمية، خصوصاً الأدب الفرنسي، ودفعه طموحه الأدبي إلى التخلي عن القضايا الاجتماعية المباشرة، واتجه نحو الأدب الإنساني العام، وتمثَّل في مسرحياته الذهنية التي تعتبر نقطةَ الانطلاق نحو مجده الأدبي. حكايته مع عبدالناصر من «عودة الروح» إلى «عودة الوعي» أصدر توفيق الحكيم «عودة الروح» عام 1933، ومهّد بها لظهور البطل المنتظر الذي سيحيي الأمة من رقادها، وبعدها أنزله الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر منزلة الأب الروحي لثورة يوليو 1952، ومنحه العديد من الجوائز والأوسمة. لم يُذكر أن عبدالناصر منع أي عمل لتوفيق الحكيم، حتى عندما أصدر مسرحيته «السلطان الحائر بين السيف والقانون» في عام 1959، و«بنك القلق» عام 1966، وانتقد فيهما النظام الناصري ودافع عن الديموقراطية، ووصل الأمر إلى حد أن عبدالناصر كان يستقبل الحكيم في أي وقت ومن دون تحديد موعد مسبق، وهو ما أكده الحكيم نفسه في جريدة الأهرام بعددها الصادر يوم 15 مارس 1965. وبعد وفاة عبدالناصر عام 1970 وفي أثناء تأبينه، سقط توفيق الحكيم مغشيًا عليه من شدة التأثر، وحين أفاق ألقى خطبة رثاء طويلة، وفي عام 1972 أصدر كتابه «عودة الوعي» مهاجمًا فيه عبدالناصر، وأحدث ضجة إعلامية، واختزل موقفه من التجربة الناصرية بأنها كانت مرحلة عاش فيها الشعب المصري فاقدًا الوعي، وأنه أخطأ بمسيرته خلف الثورة من دون وعي. نائب في الأرياف عاد الحكيم من باريس عام 1924، وعمل وكيلًا للنائب العام في المحاكم المختلطة بالإسكندرية مدة عامين (1927 إلى 1929)، وفي تلك الفترة فقد الاتصال بالشعب المصري عن قرب، واقتصر عمله على الجاليات الأجنبية، والمتمتعة بامتيازات جعلتها لا تخضع للقوانين والنُّظم الأهلية، بل إلى ما كان يُسمَّى بـ«نظام القضاء المختلط». وفي عام 1929، انتقل من القضاء المختلط إلى القضاء الأهلي، وعمل فيه أربعة أعوام وكيلًا للنائب العام في مدن طنطا ودمنهور ودسوق وفارسكور، وخلال هذه الفترة جمع الملاحظات التي استخدمها في كتابة روايته المتفردة «يوميات نائب في الأرياف» التي صدرت عام 1937. وفي عام 1934 انتقل من السلك القضائي إلى وزارة المعارف العمومية ليعمل بها مديرًا للتحقيقات، حتى نُقل منها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية عند إنشائها في عام 1939، وتولى وظيفة مدير مصلحة الإرشاد الاجتماعي، ولكنه طوال عمله موظفًا في الحكومة كان أكثر انشغالًا بالأدب وفنون المسرح. شمس النهار استقال الحكيم من وظيفته الحكومية عام 1943، وصار كاتبًا متفرغًا، ونشر سلسلة من المقالات والمسرحيات في جريدة «أخبار اليوم»، وظل يعمل في هذه الصحيفة حتى عاد إلى الحكومة عام 1951 مديرًا عامّا لدار الكتب، واتسع وقته للاطلاع والمعرفة، وكتب العديد من المقالات، ضمّها إلى كتبه «تأملات في السياسة» و«حماري قال لي» و«شجرة الحكم»، و«فن الأدب» و«عصا الحكيم». وعندما جرى إنشاء المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب عام 1956، نُقل إليه توفيق الحكيم عضواً دائماً متفرغاً بدرجة وكيل وزارة، وفي عام 1959 عُيِّن مندوبًا مقيمًا للجمهورية العربية المتحدة لدى اليونسكو في باريس. ولكن فترة إقامته هناك لم تَدُم طويلًا، حيث فضَّل العودة إلى القاهرة في أوائل عام 1960 عضوًا متفرغًا في المجلس الأعلى كما كان من قبل. وفي الستينيات انتقلت نصوص الحكيم إلى خشبة المسرح المصري، منها «السّلطان الحائر» (1960)، إخراج فتوح نشاطي وبطولة سميحة أيوب ومحمد الدفرواي وعبدالمنعم إبراهيم وسعيد أبوبكر وفاخر فاخر، وفي عام 1962 «يا طالع الشجرة» إخراج سعد أردش وبطولة صلاح منصور ونجمة إبراهيم. ودفع الحكيم بمسرحيته «الطعام لكل فم» إلى المخرج محمد عبدالعزيز، وعُرضت على خشبة المسرح عام 1963، وشارك في البطولة أمينة رزق وعبدالمنعم إبراهيم وهالة فاخر وعبدالعزيز مكيوي وهدى عيسى، وتدور أحداث المسرحية في إطار تجريبي، كأنها مسرحية في داخل مسرحية، حيث يكتشف الموظف «حمدي» وزوجته «سميرة» ظهور رشح مائي في جدار يفصلهما عن جيرانهما، وينتهي الخلاف من دون حل المشكلة، ويبقى الأمر على ما هو عليه. وفي عام 1965، عرضت مسرحيته «شمس النهار» إخراج فتوح نشاطي، وبطولة سناء جميل ومحمد الدفراوي وفؤاد شفيق وعادل المهيلمي، وتدور في إطار خيالي حول الأميرة شمس النهار، التي ترفض أن تتزوج مثل شقيقتيها من شخصين لهما نفوذ وثراء، بل تريد أن تتزوج شخصًا تختاره، ويخضع والدها لإرادتها، ويقرر الموافقة على طلبها بأن يتقدم إليها أي شخص من أي بلد من البلاد. بنك القلق وتوالت أعمال توفيق الحكيم على خشبة المسرح المصري، منها «الورطة» (1966)، و«بنك القلق» (1967)، و«مجلس العدل» (1974)، وآخرها «إيزيس» (1986) قبل عام من رحيله، وقام بإخراجها كرم مطاوع وبطولة سهير المرشدي وحمزة الشيمي وأحمد حلاوة ورضا الجمَّال. وتتناول المسرحية فترة مُظلمة من التاريخ الفرعوني، حيث يعيش الشعب في قهر وظلم من الحاكم «طيفون»، بينما يحاول «توت» وشقيقه شق طريقهما للوصول إلى الحكم، وتتصاعد الأحداث. المحطة الأخيرة مزج الحكيم بين الإبداع والتنظير، وظل يدافع عن «المسرح الذهني» ويؤسس لكتابة مسرحية تحمل خصائص المجتمع المصري، وفي الوقت ذاته منفتحة على تيارات مسرحية مختلفة، وترجمت الكثير من أعماله إلى لغات عِدة، وكان من الكتاب العرب المرشحين للفوز بجائزة نوبل في الآداب. وتناغمت حياته مع إبداعه، وانتهت على نحو مأساوي، بفقد ابنه إسماعيل، وبعدها دخل في نوبة حزن واكتئاب حتى رحل في عام 1987، تاركًا بصمته الإبداعية المتفرده، وحضوره المتوهج في ذاكرة الأدب المسرحي والثقافة العربية. مسيرة حافلة بالمناصب والجوائز تبوأ توفيق الحكيم العديد من الوظائف الحكومية والمناصب الرفيعة، وبدأت بعمله في السلك القضائي، وانتقل بعدها إلى وزارة المعارف، وشغل منصب رئيس اللجنة العليا للمسرح بالمجلس الأعلى للفنون والآداب سنة 1966، ومقرر لجنة فحص جوائز الدولة التقديرية في الفنون، واختير نائبًا فخرياً بمجلس الأدباء، ورئيس المركز المصري للهيئة العالمية للمسرح، ورئيسًا لمجلس إدارة نادي القصة. وحصل على جوائز وتكريمات عِدة، منها قلادة الجمهورية عام 1957، وجائزة الدولة في الآداب عام 1960، ووسام الفنون من الدرجة الأولى، وقلادة النيل عام 1975، وفي العام نفسه نال الدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون المصرية. كما أطلق اسمه على فرقة «مسرح الحكيم» في عام 1964 حتى عام 1972، وأطلق اسمه على مسرح محمد فريد اعتبارًا من عام 1987. كما نال إبداع الحكيم اهتمام الباحثين والنقّاد، وكُتبت عنه العديد من الدراسات منها «مسرح الحكيم» للناقد الدكتور محمد مندور، ورسالة الدكتوراه «توفيق الحكيم والأدب الشعبي: أنماط من التناص الفولكلوري» للباحث محمد رجب النجّار.
مشاركة :