فرسان المسرح العربي: جورج أبيض... رائد التعريب المسرحي

  • 5/12/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

حمل الفنان جورج أبيض شعلة الريادة، ويعد المؤسس الحقيقي للمسرح المصري الحديث، ورائد التعريب المسرحي، وأول نقيب للممثلين في مصر، وتعددت أقنعته بين التأليف والتمثيل والإخراج والإنتاج، وقدّم نحو 130 مسرحية مؤلفة ومترجمة تُعد من روائع المسرحيات العربية والعالمية، واستمر عطاؤه المتفرد حتى رحيله في 12 فبراير عام 1957، عن عمر ناهز 77 عامًا. اتجه جورج أبيض إلى الأعمال المترجمة لكبار الكتاب، منها مسرحية «أوديب ملكًا» للكاتب الإغريقي سوفوكليس، و«تاجر البندقية» و«عطيل» و«ترويض النَمِرة» و«ماكبث» و«الملك لير» للإنكليزي وليام شكسبير، و«دون جوان» للفرنسي موليير، و«المقامر» للروسي فيودور ديستويفسكي، و«شمشون ودليلة» للفرنسي فيرديناند لومير، وغيرها. وكان أبيض من رواد التمثيل السينمائي، ومن أفلامه «عاصفة على بيت» و«أنا الشرق» و«أرض النيل»، وقام ببطولة «أنشودة الفؤاد» عام 1932 أول فيلم عربي غنائي ناطق، ولا تزال تلك الأفلام باقية في ذاكرة السينما، بينما اندثرت أعماله المسرحية، وحُرِمَت الأجيالُ اللاحقة من مشاهدة تراثه الرائد في تاريخ المسرح العربي. القروش الحمراء ارتبط جورج أبيض بالمسرح في سن مبكرة، وساهمت نشأته في أسره تهتم بالعلم والثقافة، باطلاعه على روائع الأدب العالمي، وألحقه والده بمدرسة «الفرير” ببيروت، وانتقل منها إلى مدرسة “الحكمة” وتعلَّم أصول اللغة العربية، وبرع في إلقائها نثرًا وشعرًا، واعتلى خشبة المسرح لأول مرة في حفل مدرسته السنوي للخريجين، وأدى دورًا بمسرحية “القروش الحمراء” في حضور الممثل الفرنسي جان فريج، مؤدي الدور على مسارح باريس، وأثنى فريج على موهبته، وكان لتشجيعه أثر عميق لم يفارقه، وحفزه لدخول عالم الأضواء والشهرة. المهاجر الصغير كان المسرح المصري مزدهرًا قبل جورج أبيض في أواخر القرن التاسع عشر، لأن الكثير من الفرق اللبنانية والشامية شدت الرحال إلى مصر، وحققت شهرة كبيرة، منها فرق سليم النقاش، ويوسف خياط، وأبوخليل القباني والقرداحي وغيرهم، كما أتى عشرات الفنانين اللبنانيين الذين اشتركوا في تقديم هذه المسرحيات، ولديهم خبرات كبيرة بكافة عناصر الفن المسرحي، لأنهم عرفوا المسرح بشكله الأوروبي لأول مرة عن طريق الفنان الرائد فاروق النقاش الذي قدم أول مسرحية عربية «البخيل» عام 1840 المأخوذة من حكايات «ألف ليلة وليلة». في ذلك الوقت، تعلق جورج أبيض بفن المسرح، وتملكته رغبة طاغية في احتراف التمثيل، لكنه انتظر حتى حصل على دبلوم التلغراف من معهد اللاسلكي، ثم عُين في شركة السكة الحديد ببيروت، وبعد شهور قليلة استقال، واتخذ قراره بالهجرة إلى مصر عام 1898 وعمره 18 عامًا. رحلة الاحتراف غادر الفتى الصغير مودعًا أسرته ومهد صباه وطفولته، وحمل معه شهادة دبلوم التلغراف، وانتابته مشاعر متضاربة بين الأسى لفراق عائلته ووطنه، والمضي نحو تحقيق أحلامه في عالم المسرح، والسير على خطى فنانين لبنانيين سبقوه بالارتحال إلى أرض الكنانة، وحققوا الشهرة في عالم المسرح الكوميدي والتراجيدي. وصعد أبيض إلى ظهر باخرة لا يملك ثمن تذكرتها، وحين اكتُشِف أمره، كانت الباخرة تبتعد عن ميناء بيروت، وتمضي في طريقها وسط أمواج البحر المتلاطمة، وتعاطف الربان مع الفتى الصغير، حين استمع لقصته مع التمثيل، وثناء الممثل الفرنسي على دوره في «القروش الحمراء» ومن هنا سمح له ربان السفينة بأداء أدوار تمثيلية يومية لتسلية الركاب. وذاعت شهرة الممثل الصغير بين ركاب السفينة، وفي كل ليلة كان يرتجل «اسكتشات مسرحية» في قاعة تمتلئ بالجمهور، وينال الإعجاب والتصفيق لموهبته في تجسيد شخصيات مختلفة، وعرف لأول مرة طريق الاحتراف، كممثل ومخرج ومؤلف لعروضه التمثيلية، وشغله هذا الأمر عن التفكير في مشروعاته الفنية القادمة، والسفينة تقترب من مرساها في ميناء الإسكندرية. التحق جورج أبيض بوظيفة في السكة الحديد بمدينة الإسكندرية، وانضم لعضوية نادي كلية سان مارك، واستعاد نجاح مسرحية «القروش الحمراء» وعرضها للمرة الثانية على مسرح النادي، وحضر العرض القنصل الفرنسي وشجعه على تعزيز موهبته بالدراسة، وحينها أدرك صواب هجرته إلى مصر، والثقة في موهبته، وكان على موعد مع نجاحات متتالية. وكلفته إدارة النادي بتكوين فرقة مسرحية من الأعضاء في عام 1902، وراسلوا الخديوي عباس حلمي الثاني عن أهمية المسرح ودوره، إلا أن الخديوي لم يرد على رسائلهم، وحينها كانت القاهرة تستأثر بأضواء دور المسرح، وتتجه الأنظار إلى نجومها في ساحات العلم والأدب والفنون المختلفة. واستمر أبيض في نشاطه المسرحي بالإسكندرية، وأرجأ السفر إلى القاهرة، وتولى مسؤولية فرقة «نادي سان مارك» وعمره لا يتجاوز 24 عامًا، وظل يقدِّم عروضه كممثل ومخرج، واستقطب جمهورًا من المثقفين وصفوة المجتمع، وحقق نجاحًا كبيرًا حين خرج بعروضه من أسوار النادي إلى دور المسرح، واتسعت دائرة انتشاره، ولاقى حفاوة بالغة من النقّاد في الصحف والمجلات الفنية. وأرسل أبيض دعوة إلى الخديوي عباس لحضور عرض على مسرح «زيزنيا” في عام 1904. ووافق الخديوي، وجعل المسرحية تحت إشرافه، واختار مسرحية “البرج الهائل” للكاتب اللبناني فرح أنطون، وأُعجِب الخديوي بالعرض، وقرر إرسال أبيض إلى باريس لدارسة الفن، وهناك التحق بالكونسرفتوار ودرس التمثيل والإخراج والموسيقى، وتتلمذ على يد ممثل فرنسي كبير يُدعى «سيلفان» من مدرسة الرومانسية في الأداء المسرحي. «طرطوف»... يحوّل الفشل إلى تفوق واجه جورج أبيض مواقف طريفة، حين ابتُعث إلى فرنسا، وسجلتها ابنته الوحيدة سعاد أبيض في مذكرات عن أيام والدها في باريس، وحدث أن المخرج الذي كان يتولى امتحان الطلاب لقبولهم في المعهد استبعده من أول جملتين ألقاهما في دور «طرطوف” للكاتب موليير، وعندما سأله أبيض عن السبب أجابه المخرج بأن صوته لا يصلح للتمثيل! وفي العام التالي تقدم جورج للامتحان، وفوجئ نفس الأستاذ ببراعة الطالب في أداء دور «طرطوف» والسر أن أبيض خلال فترة استبعاده، كان يراقب أداء الممثلين، ثم انعزل في غابات بولونيا، ليتمرن على أداء الشخصية، وواصل بعدها دراسته حتى حصل على دبلوم التمثيل والإخراج، وعاد إلى مصر عام 1910، ليبدأ إسهاماته الرائدة في تعريب المسرح المصري. الزعيم والممثل عاد جورج إلى مصر عام 1910، وبصحبته فرقه فرنسية تحمل اسمه، وعرض ست مسرحيات على مسرح الحمراء بالإسكندرية، ثم على مسرح الأوبرا الخديوية بالقاهرة، وحضر الخديوي عباس حلمي الثاني عرض «لويس الحادي عشر» لكازمير دي لافين، وألقى أبيض النصوص المسرحية باللغة الفرنسية بإتقان بالغ، ما جعله ظاهرة جديرة بالإعجاب. واستقر مع فرقته بالقاهرة، واقتصرت عروضها على صفوة المجتمع، لأن عروضها باللغة الفرنسية، ما شكَّل عائقًا أمام انتشارها الجماهيري، ووقتها طلب منه الزعيم سعد زغلول وزير المعارف آنذاك، تكوين فرقة مسرحية بممثلين مصريين، وتعريب المسرح بإحلال اللغة العربية بدلًا من الفرنسية، لنشر الوعي والثقافة في الشارع المصري. واستبدل أبيض فرقته الفرنسية بأخرى مصرية في عام 1912، وقدم في دار الأوبرا أول مسرحية شعرية عربية من فصل واحد بعنوان «جريح بيروت»، تأليف شاعر النيل حافظ إبراهيم، وخصص دخلها لإعانة المنكوبين في معركة بيروت ـ آنذاك ـ أثناء الحرب العثمانية الإيطالية، وشكلت المسرحية نقطة تحول في مشواره الفني، وبداية اتجاهه نحو التراجيديا، والنصوص المسرحية المترجمة، وفتح نافذة على الأدب المسرحي العالمي. اتحاد الممثلين رسّخ جورج أبيض قواعد وتقاليد فن المسرح، واهتم بالجانب الدعائي لعروضه المسرحية، وكان يطبع برنامجًا فنيَا خاصًا بكل حفلة، والتزم بموعد ثابت لرفع الستار، وفي فرقته ظهر لأول مرة الممثل المدرب بأسلوب علمي، واهتم بالملابس والديكورات المناسبة لكل مسرحية، وحدّد للممثلين رواتب ثابتة، وكافة المعايير الفنية والتقنية، المتبعة في المسرح الأوروبي. واشتعلت المنافسة بين «فرقة جورج أبيض» والفرق الأخرى، وأبرزها «فرقة سلامة حجازي، واندمجت الفرقتان بعد الأزمة الاقتصادية العالمية أثناء نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914، ولكن «جوق أبيض وحجازي» انفصلا لاختلاف وجهات النظر في أمور فنية، والنزاع على الانفراد بالقرار، وانفضت الشراكة بينهما في غضون شهور قليلة. وكان من الصعب استمرار هذا الاندماج، لفرقتين لهما توجهات مختلفة، ففرقة جورج أبيض تخصصت في الأعمال التراجيدية، بينما اهتم سلامة حجازي بالأوبريت الغنائي، وبدأت الدعاية بالملصقات عن مولد «جوق أبيض وحجازي» وظهر الخلاف أثناء التحضير لعرضهما المسرحي الأول، واتجه كلاهما إلى تكوين فرقة جديدة. واستعاد أبيض نشاطه بعرض مسرحية «لويس الحادي عشر» وحققت نجاحًا كبيرًا رغم الأزمة الاقتصادية، وفي عام1916، انضم للفرقة الملحن سيد درويش، ووضع ألحان أوبريت «فيروز شاه» واشترك بالتمثيل فيه، واتجهت أنظار الفرق الأخرى إلى هذا الملحن الشاب، وطلب نجيب الريحاني وبديع خيري من جورج أبيض أن يتيح لهما الفرصة للعمل مع سيد درويش، فوافق بشرط أن يظل التعاون قائما معه. القصري… نجم كوميدي بعد صفعة جورج عندما قدّم جورج أبيض مسرحية «أوديب ملكًا» حدث في ليلة الافتتاح موقف طريف مع الممثل المغمور آنذاك عبدالفتاح القصري، وحين قال أبيض «صه يابن الجحيم»، رد القصري بصوته المميز «واحسرتااااه أنا تقول لي صه؟»، فانفجر الجمهور ضحكًا، وغضب أبيض، وأمر بإغلاق الستار، وانفعل على القصري وصفعه على وجهه في الكواليس. وسمع نجيب الريحاني بأن فنانًا مغمورًا طرده جورج أبيض لأنه أضحك الجمهور بدلًا من أن يبكيه، فبحث عنه ليضمه إلى فرقته، وبعدما عثر عليه وقع معه عقدًا للعمل في فرقته، ليتألق القصري في فرقة الريحاني ويبدأ مشواره مع النجومية والكوميديا. مسرح الثلاثينيات وأغلقت جميع المسارح أبوابها أثناء ثورة 1919، وبدأ جورج أبيض في تجهيز عروض أخرى، حتى دعته الحكومة التونسية في عام 1921 للإشراف على تأسيس فرقتها القومية، وبعد عودته إلى مصر لعب دورًا كبيرًا في إنشاء معهد التمثيل عام 1932، وكوّن الفنانون في فترة الكساد أوائل الثلاثينات فرقة «اتحاد الممثلين»، وانضم إليها العاملون بالمسرح، وفي عام 1934 قدّمت أولى عروضها على مسرح الهمبرا بالإسكندرية. وضمت فرقة اتحاد الممثلين، عددًا كبيرًا من نجوم مسرح الثلاثينيات، منهم جورج أبيض وحسين رياض وبشارة واكيم ودولت أبيض وعمر وصفي وعبدالوارث عسر وعباس فارس ومحمود المليجي، وساهم أبيض بالجزء الأكبر لتمويل الفرقة، وأعلن حلها بعد عام واحد. وقررت وزارة المعارف المصرية إنشاء فرقة مسرحية حكومية للنهوض بالنشاط المسرحي، فاستعانت به في عام 1935 لتأسيس الفرقة القومية المصرية التي يشرف عليها الشاعر خليل مطران، وانضم للفرقة عدد كبير من نجوم التمثيل المسرحي، منهم حسين رياض ودولت أبيض وزكي رستم وعباس فارس ومحمود المليجي. وقدّم جورج أبيض على مسرح الأوبرا مسرحية «الأب ليبونار” للكاتب الفرنسي “جاك إيكار”، واشترك معه في تمثيلها فتوح نشاطي وحسين رياص وزكي رستم وثريا فخري وزوزو حمدي الحكيم، وتألق أبيض وجميع الممثلين في أدوارهم وكان الإقبال شديدًا وهنأته «لجنة المسرح» لتفوقه على الممثل الفرنسي كوكلان الذي قام بالدور في مسارح باريس. مناصب وتكريمات وبدأت الحكومة عام 1941 في جمع التبرعات لمنكوبي الحرب العالمية الثانية للهلال الأحمر المصري والصليب الأحمر، وطلبت من الفنانين جميعًا المساهمة بإقامة حفلات خيرية يتبرعون بحصيلتها، وكان جورج أبيض وزملاؤه من المساهمين فيها، وتوالت الحفلات التمثيلية والغنائية المتنوّعة على مسرحي الأوبرا والأزبكية والمسارح الأخرى بالقاهرة، واشترك فيها عددٌ كبير من الفنانين ومن أبرزها مسرحية «مصر الخالدة»، بطولة جورج أبيض، واقتباس وإخراج فتوح نشاطي. وانتخب جورج أبيض بإجماع الأصوات عام 1943 كأول نقيب للممثلين في مصر، وعُين أستاذًا للتمثيل والإخراج بالمعهد العالي لفن التمثيل عند افتتاحه عام 1944، ومنحه الملك فاروق في العام التالي رتبة البكوية من الدرجة الأولى، وبعد ثورة يوليو 1952 أصبح مديرًا للفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى، إلا أنه استقال في منتصف عام 1953 لظروف صحية. وقد كرّس حياته للمسرح لأكثر من 50 عامًا، وحين بلغ من العمر 43 عامًا، تزوج من الفنانة دولت أبيض عام 1923، التي شاركته بطولة العديد من أعماله المسرحية، وأبرزها مسرحية «الإسكندر الأكبر»، وفي أعوامه الأخيرة تفرغ للتدريس بمعهد الفنون المسرحية حتى رحيله، وكرمته الدولة المصرية بإقامة تمثال نصفي له في بهو المعهد، وتمثال آخر بالمسرح القومي، وسُمي مسرح الأزبكية باسمه في عام 1972، وتم وضع صورته على طابع بريدي، ولا تزال إسهاماته الرائدة حاضرة في ذاكرة المسرح العربي.

مشاركة :