بإتاحة العلم وفتح الفرص أمام أبناء المحتاجين سوف تتبدل أحوالهم، وسيكون لديهم فرص كبيرة كي يقوموا ببناء حياتهم في المستقبل. تعتمد هذه الاستراتيجية على تغيير الأجيال المقبلة وليس الحالية وتدارك ما فات.. "لا تعطني سمكة ولكن علمني كيف أصطاد"، يبدو أن وزارة الموارد البشرية سوف تطبق هذا المثل الشائع في سياستها المقبلة حول مستفيدي الضمان الاجتماعي، ولكنها لن تكتفي بتعليم المستفيدين الصيد بل ستعطيهم السمكة كذلك. مؤخراً تم تأسيس جمعية دعم التعليم "تعلُّم"، وفكرة هذه الجمعية تهتم بالتعامل مع المسببات التي تجعل كثيراً من الأسر تتوارث الفقر وتحاول أن تجفف المنابع التي تجدد دورة الفقر، وتقطع السلسلة التي تنقل ثقافة الفقر عبر الأجيال. وأول شيء فكرت فيه الجمعية هو التعليم، إذ إنه من المتفق عليه، أن تسلسل الفقر واستمراره عبر الأجيال داخل أي أسرة هو نتيجة لضعف فرص التعليم لدى أبناء تلك الأسر، وبالتالي فإن مهارتهم تبقى في حالتها البدائية ولا تتطور، ونتيجة لذلك لا تتاح فرص التعليم الكريم لأبنائها. إذاً نحن أمام حلقة مفرغة يستمر داخلها توارث الفقر عبر الأجيال دون وجود فرص حقيقية للانعتاق من هذا الطوق إلا نادراً. ويبدو أن وزارة الموارد البشرية تنبهت لخطورة "سلسال الفقر" هذا، وقررت أن تعمل على قطعه من خلال خلق عمل مؤسسي يفكر لبعيد. إذاً جمعية خدمة التعليم موجهة بشكل مباشر لأولئك الذين يتمتعون بفرص أقل للحصول على مقاعد في كل المراحل الدراسية وأولئك الذين يتسربون من التعليم. وأغلب هؤلاء من أبناء الأسر المستفيدة من الضمان الاجتماعي، فهناك 60 ألف طالب وطالبة من هؤلاء يتخرجون من الثانوية العامة غالباً لا يحصلون إلا على 15 ألف مقعد في الجامعات، وكثير منهم في تخصصات لا تخدمهم من الناحية العملية مستقبلاً، ولا توفر لهم فرص وظيفية سانحة. هنا ستقوم الجمعية بتطوير الفرص التعليمية لهؤلاء ودعم النابهين منهم للحصول على مقاعد في تخصصات مؤثرة، وكذلك ستعمل على متابعة سير هؤلاء الطلاب حتى توظيفهم في المستقبل. من الواضح أن الجمعية تريد أن تجمع بين إعطاء الأسر المستفيدة السمكة وتعمل على تعليم أبنائها الصيد، لكنها تريدهم أن يصلوا في مرحلة ما إلى "الفطام" من الضمان الاجتماعي والاعتماد على الذات والانخراط في التنمية الاقتصادية الوطنية. دعوني أسرد لكم بعض الإحصاءات التي ذكرتها الجمعية، فهناك 95 % من أطفال أسر الضمان لا يتلقون تعليم ما قبل المرحلة الابتدائية، وفي العام 2018م فقط تسرب أكثر من 33 ألفاً منهم من التعليم العام، وهذا يعني أن هناك 26 % لم يلتحقوا بالمدارس الابتدائية، وما بين 11-13 % منهم لم يلتحقوا بالمدارس المتوسطة والثانوية. نتكلم هنا عن نسبة كبيرة تتزايد سنوياً من الذين لا تتاح لهم فرص تعليمية مناسبة، وبالتالي فإن هذا يعني استمرار اعتماد هذه الأسر على الضمان، ففرص كسرها لسلسال الفقر تكاد تكون معدومة. يأتي تأسيس هذه الجمعية كمهمة مؤسسية شاقة من أجل تغيير هذا الواقع المؤلم. إذ يبدو أن إحدى مهام الجمعية هو خلق وعي جديد بين هذه الأسر من خلال إعطائهم أملاً لانتشالهم من واقعهم الصعب والعمل معهم يداً بيد لإيصالهم إلى مرحلة الاعتماد على الذات. لن أقول إن تحقيق هذه المهمة يسير، لكن يجب أن نعي أن مصلحة وزارة الموارد البشرية تكمن في تقليل المعتمدين على الضمان، ومن صالح الاقتصاد الوطني خلق طاقات بشرية تساهم في التطوير والبناء بدلاً من أن يكونوا عالة على هذا الاقتصاد. ثمة علاقة عميقة بين النمو الاقتصادي وتطور صناعة الطاقات البشرية، وبالتالي فتركيز هذه الجمعية على "العلم" كمحرك للاقتصاد يتداخل بشكل عميق مع مفهوم صناعة الطاقات البشرية من خلال التعليم والتدريب. ومن المتفق عليه أن خلق الفرص التعليمية سواء كان ذلك من خلال عقد الاتفاقيات مع الجامعات الحكومية والخاصة لتوفر مقاعد مناسبة لأبناء أسر الضمان، أو من خلال خلق الموارد البشرية لابتعاث بعضهم، وتطوير برامج تدريبية لصقل مهارتهم وإعدادهم لسوق العمل، يمثل استراتيجية بعيدة المدى لتجفيف منابع الفقر ومحاصرة ثقافته. العلم يرفع بيتاً لا عماد له والجهل يهدم بيت العز والشرف وباختصار يلخص أمير الشعراء أحمد شوقي الاستراتيجية التي تتبعها الجمعية، فبإتاحة العلم وفتح الفرص أمام أبناء المحتاجين سوف تتبدل أحوالهم، وسيكون لديهم فرص كبيرة كي يقوموا ببناء حياتهم في المستقبل. تعتمد هذه الاستراتيجية على تغيير الأجيال المقبلة وليس الحالية وتدارك ما فات، فبناء مجتمع حي متطور يبدأ من خلق فرص التعليم بعدالة ومساواة، وهذا لا يمكن أن يتحقق دون وجود عمل مؤسسي منظم يستطيع أن يخطط على مسافة طويلة من الزمن، ويملك من الموارد المالية والقوة السياسية التي تخوله إحداث التغيير، وأحسب أن جمعية "تعلُّم" تسير في هذا الاتجاه.
مشاركة :