عانت القاهرة خلال السنوات الماضية من مشكلات مختلفة في إدارة علاقاتها بالعديد من الدول الأفريقية، الأمر الذي ظهرت تجلياته في تداعيات أزمة سد النهضة الذي تشيده إثيوبيا على نهر النيل، ومتوقع أن يؤثر سلبا على حصص مصر من المياه. قيل إن الإخفاق في التعامل مع الأزمة جاء بسبب عدم وجود باحثين وخبراء يرفعون الالتباس وينبهون الدولة إلى المخاطر التي ينطوي عليها هذا السد، بينما كان حلمي شعراوي في مقدمة من حذروا من تداعيات هذا المشروع على الدولة المصرية. وشعراوي يخالف من يضع الإخفاق على عاتق النخبة المصرية، لأن هناك أسماء لامعة برعت في مجال الشؤون الأفريقية، وكلية متخصصة تابعة لجامعة القاهرة تحمل اسم كلية الدراسات الأفريقية قدمت باحثين حذروا منذ سنوات من الورطة التي يمكن أن تعاني منها القاهرة جراء عدم الاكتراث بما يجري في القارة. عندما يأتي ذكر أفريقيا وهمومها وشجونها وتوتراتها ونزاعاتها يقفز إلى الذهن محمد فايق وعبدالملك عودة وإبراهيم نصرالدين وحورية مجاهد وعراقي الشربيني، والقائمة تطول، لكن يظل شعراوي، مدّ الله في عمره، في مقدمة هذا الصف. وهب الرجل الجانب الأكبر من حياته للاهتمام بالقارة وشعوبها وتطورات الصراعات فيها، ولم تتوقف صلاته بالبحوث والدراسات الأكاديمية، وشملت معها جولاته في القارة، من شمالها إلى أقصى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، ويعلم القريبون منه أنه لم يترك دولة إلا وقد وطأتها أقدامه، بما وفر له مخزونا معرفيا كبيرا. أفريقيون بامتياز قاده شغفه بأفريقيا إلى تأسيس مركز للبحوث والدراسات خاص بها في القاهرة خرجت منه دورية “أفريقيون”، ويقدم جائزة مالية خاصة لأفضل الدراسات الأفريقية كنوع من التشجيع للباحثين من مصر وغيرها، وجعل من المركز والدورية منبرين يلتف حولهما المغرمون بالقارة ومتابعة التطورات المتسارعة فيها. هو أحد الشيوخ والعارفين بالكثير من الدروب والدهاليز السياسية والأمنية والاجتماعية الوعرة في أفريقيا، ويعتبره البعض أحد أهم الرهبان في محرابها، ووهب حياته للجري وراء أحداثها، لم ينصرف عنها في أي من مراحله العملية، وحتى أموره الخاصة باتت تدور في هذا الفلك وتكاد لا تنفصل عنه، فقد تحول منزله في حي العجوزة بالجيزة الملاصقة للقاهرة إلى مقصد لكثير من محبيه وأفريقيا. عرفته عن قرب منذ أكثر من عقدين، وتشاركت معه في ندوات ومؤتمرات بمركزه البحثي في حي المنيل بالقاهرة، وعرفت كم هو متيّم بالقارة، حريص على فهم وتحليل صراعاتها وفك ألغازها، يتحدث عن بعض الزعماء السابقين في القارة باعتباره يعرفهم عن كثب، وعاصر غالبيتهم في قمة السلطة وعند سقوطهم، كأنه ولد من أجل أفريقيا، لم يحل مرض أو قسوة سياسية بسبب توجهاته اليسارية دون غرامه بأفريقيا. يشير بعض أصدقائه إلى أنها تجري في شرايينه كدليل على الرابطة العضوية بينه وبين القارة، وأنها لن تنفصل عنه أو ينفصل عنها طالما أن قلبه ينبض بالحياة، ومكنته دراسته لعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا في كلية الآداب بجامعة القاهرة من الإلمام بكثير من عادات وتقاليد القارة وفهم أنماط مختلفة من الشعوب والثقافات المتلاطمة التي تعج بها، ويستطيع التفرقة بين الإريتري والإثيوبي، وسكان جنوب السودان وشماله، فمن كثرة جولاته في ربوعها توافر له مخزون معرفي كبير. عشق إلى الأبد ولد شعراوي عام 1936، وعندما أصبح شابا كان الفوران الثوري في مصر على أشده، حيث اندلعت ثورة يوليو 1952 التي ألهبت مشاعر الشباب، وأدت إلى صعود طبقة جدية تولت الحكم بقيادة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر منحت القارة الأفريقية مكانة متقدمة في أولوياتها. لا أحد يعلم من أين استقى شعراوي عشقه بالقارة، هل من النخبة المثقفة التي كانت مهمومة ببلدها واشتباكاته في معارك خارجية وكانت تلتقي في أحد مقاهي القاهرة ويجلس معها شعراوي، أم من طبيعة عمله في رئاسة الجمهورية، أم من حالة خاصة تملكته ودفعته إلى الاستغراق في تفاصيل القارة والأحداث فيها، أم أن كل ذلك تضافر معا لينتج لنا حالة أفريقية نادرة اسمها حلمي شعراوي. دائما ما تحدث عن شغفه بدراسة علم الأنثروبولوجيا وكيف أنه كان يتمنى أن يتخصص ويصبح أستاذا في هذا العلم، وقد ساعده هذا الغرام على دراسة الفلكلور والدراسات الأفريقية ومتابعة التطورات في العديد من الدول، وهي القاعدة التي جعلته يفهم الكثير من الكواليس في القارة التي بدت عصية على فهمها عند كثيرين. بدأت علاقته بالقارة الأفريقية وما يجري فيها من صراعات سياسية وعسكرية وتعقيدات اجتماعية في سنوات شبابه الأولى عندما ذهب مع أحد رفاقه إلى مقر الرابطة الأفريقية في حي الزمالك بالقاهرة، وأخذ ينخرط في اجتماعات الرابطة التي وفرت له قاعدة جيدة للاطلاع على أنواع متعدد من الثقافات في القارة، ومنها انتقل إلى الإشراف على بيت الضيافة الخاص بالأفارقة في القاهرة وعرف بـ”بيت شرق أفريقيا”، ولم تقتصر اهتماماته على الشرق فقط، إذ امتدت إلى الغرب والجنوب أيضا. أما النقلة الكبيرة في حياته المهنية والعلمية فجاءت بالتحاقه بدائرة الشؤون الأفريقية في رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس عبدالناصر في أكتوبر 1959، وأصبح مسؤولا فيها عن متابعة دول شرق أفريقيا. تزامن ذلك مع عمل محمد فائق مديرا لمكتب الرئيس للشؤون الأفريقية، والذي عرف بشغفه بالقارة وأسهم بدور كبير عندما كان وزيرا للإعلام في توطيد العلاقات بين القاهرة ودول عديدة فيها، ويعد من أهم المسؤولين الذين نبهوا إلى أهمية تعزيز دور مصر في أفريقيا، وكان وجوده بالقرب من الرئيس عبدالناصر من أهم الأدوات التي وضعت مصر في قلب القارة، لاسيما أنه أحاط نفسه بعناصر لا تقل تعلقا لها. أسندت إلى شعراوي مهمة المنسق العام لمكاتب التحرير الأفريقية في القاهرة، وعددها 23 مكتبا، الأمر الذي ساعده على الاطلاع على حقيقة التطورات في معركة التحرير ضد الاستعمار، والتي قدمت مصر عبدالناصر خلالها مساعدات سخية للعديد من حركات التحرير الوطنية. لعب هذا المكتب دورا مهما في تحقيق حضور سياسي واسع لمصر، وتحولت القاهرة إلى ما يشبه القبلة التي يقصدها الكثير من الزعماء، خاصة الذين تولوا قيادة بلدانهم إلى التخلص من الاستعمار، ولا تزال تحتفظ ذاكرة الشعوب الأفريقية بهذا الدور. ساعده قربه من فايق وعمله في رئاسة الجمهورية، من 1959 إلى 1975، على التجول في ربوع القارة الأفريقية، وجاءت أولى رحلاته إلى “تنجانيقا” (تنزانيا حاليا) للمشاركة ضمن الوفد المصري في احتفالات استقلالها عام 1961، حيث كانت مصر حريصة وقتها على إرسال وفود رسمية وشعبية في هذه المناسبات كنوع من الدبلوماسية التي تعزز علاقاتها، وتؤكد عمق الروابط مع دول القارة. السيرة الأفريقية ◙ الانهماك المصري بترتيب أوضاع الداخل مكّن إثيوبيا من تدشين سد النهضة وتفويت الفرصة على القاهرة كتب خلاصة تجربته مع القارة في مذكرات حملت عنوان “حلمي شعراوي.. سيرة مصرية – أفريقية” صدرت منذ ثلاث سنوات، وأشار فيها إلى أن رحلته الطويلة مع أفريقيا مكنته من اكتشاف الكثير من المبالغات والتناقضات فيها. ضرب مثلا ما تردد حول أثر اللغة العربية على اللغة السواحلية التي يستخدمها أهالي تنجانيقا، إلا في ما ندر من كلمات، مثل “خباري” ومعناها ما أخبارك، و”اسنتو سانيا”، ومعناها أحسنت، وهو ما يصلح القياس عليه في مبالغات أخرى تتعلق بفهم الأوضاع السياسية والأمنية، والتي جعلته يضاعف من تكريس جهوده لتوصيل رسائله لمن تشغلهم أحوال القارة. انتقل إلى التدريس في جامعة جوبا عام 1975، ووقتها كانت لا تزال جوبا جزءا من دولة السودان قبل أن تنفصل وتصبح عاصمة لدولة جنوب السودان. جاءت هذه الخطوة بعد إقالة شعراوي من عمله في رئاسة الجمهورية خلال عهد الرئيس أنور السادات الذي حمل معه توجهات مختلفة عن سلفه الرئيس عبدالناصر من بينها التخلي كثيرا عن الدائرة الأفريقية التي كانت تحتل المكانة الثانية في اهتمامات السياسة الخارجية المصرية بعد الدائرة العربية. يرى شعراوي أن فترة حكم الرئيس السادات شهدت إهمالا في المجالين السياسي والثقافي في علاقات مصر بأفريقيا، وأن فترة الرئيس حسني مبارك من بعده شهدت تدهورا كبيرا في علاقة القاهرة بدول القارة وغياب الرؤية الاستراتيجية. مع محاولة الاغتيال التي تعرض لها مبارك في أديس أبابا عام 1995 واتهام السودان بالضلوع فيها شهدت الفترة التالية وحتى سقوط نظامه في فبراير 2011 تراجعا لافتا، حتى أنه غاب عن حضور جميع القمم الأفريقية بما أفضى إلى تدهور ملحوظ في دور مصر بالقارة وتأثر مصالحها الحيوية بما جرى من متغيرات. وفوق ذلك أدى انهماك الدولة المصرية في ترتيب أوضاعها الداخلية بعد الثورة الشعبية على مبارك إلى تمكين إثيوبيا من الإعلان عن سد النهضة والشروع في وضع الهياكل الرئيسية له، وتفويت الفرصة على القاهرة لتعطيله أو التفاهم حول الآليات الواجبة لتنفيذه من دون حدوث أضرار بالغة في حصص مصر التاريخية من المياه التي باتت مهددة بعد أن قطعت الحكومات الإثيوبية المتعاقبة شوطا كبيرا للانتهاء من بناء السد. لدى شعراوي رؤية مختلفة بشأن ما ردده خبراء حول المفاجأة التي داهمت الإدارة المصرية بسبب قيام إثيوبيا ببناء مشروع سد النهضة، مؤكدا أن الأزمة لاحت ملامحها مبكرا وكانت مطروحة منذ مؤتمر المياه الدولي الذي عقد في لاهاي عام 2000 الذي رأس أعماله وزير الري المصري الأسبق محمود أبوزيد، ووقتها تمت مناقشة تقرير للجنة دولية تحت عنوان “إقامة الخزانات والمشروعات على الأنهار”. أرجع تعنت إثيوبيا في هذا المجال إلى افتقاد مصر لعناصر القوة في أفريقيا التي كانت تتحلى بها من قبل، وضعف دورها الدولي بشكل عام أمام عجرفة القوة الإثيوبية. لم تستفد الحكومات المصرية من شعراوي وخبراته، ربما لأن ميوله معارضة للأنظمة السياسية التي تلت حكم الرئيس عبدالناصر وحرصه على الاحتفاظ بهامش كبير من الاستقلال الذاتي، لكن ذلك لم يمنعه من التنبيه والتحذير في محطات كثيرة من مغبة التدهور الذي وصلت إليه علاقة مصر بأفريقيا، وهو الذي تمثل في كتاباته الصحافية المتعددة ودراساته الأكاديمية وندواته العلمية التي لم تتوقف. يميل شعراوي إلى الهدوء في حياته وإنتاجه العلمي ولم يكن في يوم من الأيام صاخبا للفت الانتباه إليه، وقد تكون هذه الخصال أحد العوامل التي جعلته فترة طويلة بعيدا عن الأضواء الرسمية، غير أنه احتفظ بتقدير النخبة والأوساط الشعبية، ويظل في الدراسات الأكاديمية من أهم الأسماء التي قدمت إنتاجا غزيرا للوطن ولأفريقيا.
مشاركة :