لقد قرأت كتابًا عنوانه نظام التفاهة للدكتور آلن دونو ترجمته د. مشاعل الهاجري وهو يتحدث عن نظام التفاهة من حولنا اليوم وكيف تؤثر في عقولنا وأفكارنا وحتى في تعاملاتنا مع أنفسنا أو مع الآخرين.. ولو نظرنا إلى نظام التفاهة الذي أصبح مستفحلاً على مواقع التواصل الاجتماعية أو في الرسائل النصية سنجدأن هناك العديد من الرسائل التي تصلنا وهي غير موثَّقة وغير مدروسة وغير حقيقية أحيانًا ويتناولها الكثير ويعيد إرسالها وهو لا يدرك بأنها رسائل كتبها البعض لِلَّعب في عقولنا والاستخفاف بها...بلغةٍ أشبه بتحصيل حاصل لما يُروى..لن يقبلها ولن يقتنع بها من كان مدركًا بأنها تافهة لأن نظام الإقناع للعقل البشري عند سقراط ثلاثة وهي: العقلانية:أي معالجة الحقائق والشواهد الملموسة أو المدركة. والمصداقية: تعني أن الشخص الذي يرسل تلك الرسائل أو الصور أو المقاطع ذو مصداقية عند المجتمع… والعاطفة:القدرة على تحريك المشاعر عند الناس واستمالتهم للتصديق من خلال المواقف المؤَّثرة.؛ لذا نجد أن التضارب في الأفكار عند التافهين واختلاق القصص والروايات والمواقف من بنات أفكارهم تخاطب مشاعرهم أكثر من عقولهم لكي يصدقها الناس وهي كثيرة.. وقد أوردت المترجمة للكتاب أن تلك اللغة التي يخاطب فيها التافهين الناس هي لغة خشبية جوفاء صالحة لكل زمان ومكان، محملة بحقائق وتأكيدات غير صحيحة ,, وقد صنف الكاتب الناس التافهين إلى قسمين:ماديين يبحثون عن المال والثروة.ومعنويين يبحثون عن السمعة والشهرة والعلاقات الاجتماعية . وأن الهدف الحقيقي هو إيقاظ اهتمام الرأي العام برأي سائد غير صائب.. وإسباغ التفاهة على كل شيء، والخطورة تكمن هنا في كون هذه المهمة سهلة وممكنة التحقق بسلاسة داخل أي مجتمع؛ بسبب الانقياد الفكري الأعمى، لتُقلب الحقائق وتضيع بين تلك الأكاذيب والتفاهات.وقد يكون الوضع الحالي اليوم بين أوكرانيا وروسيا هو الأكثر دليلاً على ذلك من خلال محادثة الأحاسيس وإثارة المشاعر عند الناس بقصص تروى أو صور قديمة أو كاذبة تؤثِّرُ في مشاعرهم وتثيرها فتجعلهم يستجيبون لها ويصدقونها فورًا وقد تكون كلها كاذبة أو بعضٌ منها.. ، وقد تكون خطب الإخوان المسلمين سابقًا هي أكثر دليلاً على ذلك أيضًا، حين صدقها الكثيرين وانقاد ورائها وهم لا يدركون خطرها والأهداف الفظيعة التي من وراءها، حتى انكشفت للعامة أخيرًا وبفضل الرحمن وتم القضاء على تلك الأفكار المسمومة وتجريدها من تلك اللغة والفكر؛ لتُفهم الحقائق منها فينبذها الناس بل ويعاديها. وما أكثر تلك اللغة اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر وفيسبوك وإنستجرام وتيك توك…وغيرها) تداولاً لأيشخصيات مغمورة وغير ناجحة ليصبحوا مشاهير السوشيال ميديا والفاشينستات ناجحين بتفاهتهم، أو لأي مقطع أو صورة أو خبرٍ غير مؤكد أو كاذب أو يحمل الادعاء والتخمين فقط، فيتكلمون في المجالس فيما لا علم لهم به ويسمعهم الناس ويصدقونهم، وأصبح مروجو التفاهة يدعون الثقافة والرقي في الفكر وهم فارغون مجوفون من الداخل. حتى في المجال العلمي والطبي لقد ظهر لنا الكثيرين من التافهين الذين حاولوا أن يشوهوا الحقائق والمعلومات العلمية والطبية ويستخفون بعقول المتلقين من الناس ليصدقوا رواياتهم، وما أفظع أن يتكلم في علم أو صنعةٍ من ليس من أهلها ويحكم أو يتحدث في تفاصيلها وهو غير عارف بأصولها، ولربما أكثرهم من الذين يدعون الانتماء إلى الطب الشعبي ومعالجة الأمراض به؛ فيتسببون بالكوارث من الأمراض أو الانتكاسات تصل لحد الموت أحيانًا. وفي عالم الصحافة نجد أن بعض من الصحفيين من يتعمد وضع عناوين عريضة تثير انفعالات الناس أو اقتطاع الكثير من المعلومات لتصل إلى المتلقي غير كاملة مصاغة بطريقة احترافية تجعله يصدقها سريعًا وقد يظهر هذا بشكل ملحوظ في الصحف الأجنبية فمثلاً عندما هرب نابليون بونابرت من منفاه في جزيرة ألبا كتبت الصحف الفرنسية في عناوينها ” الوحش يهرب من ألبا ” وعندما اقترب من فرنسا كتبت ” نابليون يهرب إلى فرنسا ” ولكنه عندما دخل فرنسا فعلاً كتبت ” الإمبراطور يدخل البلاد “، كما أنه عندما أقيم معرض لفنانة شابة تقيمه لأول مرة كتب عنها أحد النقاد ” فنانة موهوبة ينقصها بعض العمق ” فأخذ الكتاب ينشرون العبارة الأخيرة فقط ويرددونها في الصحف حتى أصيبت بالاكتئاب ثم انتحرت؛ لتنشر الصحف في اليوم التالي عن ” انتحار فنانة واعدة كان ينقصها بعض العمق ” وهكذا صارت العبارة التافهة الصادرة من كاتب تافه أداة قاتلة قضت على الفنانة الشابة في مقتبل عمرها. حتى في التلفاز نرى أن بعض القنوات تنشر أخبارًا غير مؤكدة بل كاذبة وغير موثقة تتسبب في نشر البلبلة بين الناس، أو إذاعة البرامج أو المسلسلات، أو الشخصيات التافهة التي لم تكن يومًا ذات قيمة لتصبح مشهورة ولها متابعين بالملايين.أما في الفن فحدث ولا حرج من عروض موسيقية رخيصة أو فن هابط وأصوات نشاذ أو أغاني بكلمات مبتذلة وغير محترمة، أو لائقة..قد يكون ما سبق له ارتباطٌ وثيق بالإشاعة ونشرها ومن حررها ونشرها عارف بكذبها وسيحمل وزرها ووزر من عمل بها، ويحملها الآخرين وينقلونها بحسن نية للأسف الشديد.علمًا أن تلك التفاهة في الفكر ليست حصرًا على المجتمع العربي فحسب بل سبقه إليها المجتمع الغربي المدعي الثقافة والعلم والمعرفة.. فمثلاً كلمة أرنب أصبح لها معنىً آخر عند الكثير من الناس (اللعب بالمال أو المليون منه).. وكلمة فائدة لها معنىُ مخالف لها تمامًا (مرابحة).. فأصبح تشويه الوعيوالتضليل والكذب على الناس هواية وتصل إلى الاحتراف المهني؛ مما أثر على سوق العمل والعاملين بها، حتى أصبحت المهنة بعيدةً كليًا عن الحرفة بمفهومها العلمي.كيف نتخلص من التفاهات من حولنا؛ لابد من التحقق مما يُنشر وإعمال العقل والفكر والرجوع للمصادر الأصلية الحقيقية والتريث قبل قبول أي خبرٍ نسمعه أو نقرأه أو نشاهده، كما لابد من محاربة الإشاعات والتفاهات على السوشيال ميديا أو على الواتساب، فلقد اضطرت دولتنا الرشيدة حفظها الله أن تخصص لنا موقع هيئة مكافحةالإشاعات والأكاذيب المنشورة ووضع الصورة والخبر الحقيقي مقابل الصورة والخبر الكاذب.. أخيرًا أوصي بقراءة الكتاب لمن يرغب بالاستزادة والمعرفة عن نظام التفاهة اليوم، حفظنا الله وإياكم من تلك التفاهات وحفظ علينا عقولنا بما هو مفيد وحفظ بلادنا وحكومتنا ومليكنا من تلك الأقاويل التافهة.
مشاركة :