حرب أوكرانيا: وجدلية المثقف والسلطة بين دوستويفسكي وبوتين

  • 4/21/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لم يكن قرار جامعة بيكوكا في مدينة ميلانو إعلانها حذف مؤلفات دوستويفسكي من مناهجها الدراسية ضمن حزمة العقوبات التي يسعى بها الغرب الى فرض العزلة على روسيا بعد غزوها أوكرانيا قراراً ارتجالياً يخلو من أثر الاسس الايديولوجية التي طرحها دوستويفسكي في رواياته الكثيرة . فما هي الاسس الدوستويفسكية التي جعلت منه مناصراً لحرب بعد أكثر من قرابة قرنين من الزمان على طرحها ؟ على الرغم من ان قرار حذف مؤلفات دوستويفسكي تم التراجع عنه بعد أن تعرض الى حملة انتقادات عالمية ولكن نحن بحاجة لمعرفة الطروحات الدوستويفسكية التي جعلت من دوستويفسكي يحمل وزر هذه الحرب. تحمل يوميات دوستويفسكي الافكار التي جعلت منه مناوئا للغرب ، يذكر دوستويفسكي في يومياته تحت عنوان ( نحن في أوربا لسنا سوى أسقاط ) حيث يستعرض فيه النظرة الدونية التي ينظر فيها الغرب الى الشعب الروسي. ويوجه دوستويفسكي اللوم الى الطبقات العليا في مجتمعه و تبنيهم الأذواق الأوربية في الملبس والمأكل ،فقد كانت هذه الطبقات في روسيا أسيرة هذا السلوك الذي أستمر قرنين من التأثر مبتهجين بكل ما أفرزته تلك الحضارة ، فكان نتيجة هذا السلوك هو الاحتقار الى أنفسنا كما يذكر دوستويفسكي. لقد تم تقبل الأنموذج الانساني الأوربي العام ، الذي حملته الثورة الفرنسية بكل ابعادها، كما جاء الانقياد الأعمى لمقدمات الثورة الفرنسية فهناك ايمان أعمى بأفكار( روسو وفولتير) فلم يقتصر سلوك الطبقات العليا على الانبهار المجرد ، بل تبعه ممارسات عملية ، فهل يصدق أن أحد المتعاطفين مع الثورة الفرنسية (1789) يحضر أحدى جلسات (الجمعية الوطنية) والابتهاج بدعوة (الولايات الوطنية) وبعد تحطم آمال التقدميين في اوربا في أواخر القرن الثامن عشر أخذ الروس يواسون الأوربيين أنفسهم فيها .وبعد إطلاع الروس على الاشتراكية الفرنسية عن كثب أعتبروها الحل النهائي لمسألة الوحدة الإنسانية العامة ، أي تحقيق الحلم ولكن هذا الحلم الذي يتشدق الروس بتحقيقه يمثل (قمة الأنانية ، و قمة اللا إنسانية ، و قمة التشويش ، والاختلال الأقتصادي ، وقمة الافتراء على الطبيعة الإنسانية ، و قمة تدمير حرية الأنسان بجميع وجوهها) ، فالعلم بالنسبة لهم يستطيع الكشف عن الأسرار قبل أكتمال التجربة ، أي قبل أكتمال جميع مصائر الإنسان على الارض. ومن أجل الدفاع عن الفكر الاوربي يلجأ مالكو الأراضي في روسيا الى بيع فلاحيهم الأقنان ، ويسافرون إلى باريس ليصدروا مجلات اجتماعية ومنهم من يموت على المتاريس هناك . ماذا كان نتيجة سلوكهم هذا كما يجدها دوستويفسكي: 1.فقدان مفهوم الأختلاف بين النظريات الاوربية وروح الشعب الروسي ، وعدم الاهتمام بالطبع الروسي الشعبي ، بل أنكار تمتع الشعب أن يكون له طبع ما. فلكل شعب روحيته الخاصة ولاسيما الشعب الروسي فلم يتم تقدير ذلك ، فكانت النظريات تطرح دون دراسة مدى تلائمها مع طبيعة الشعب الروسي . 2.ممارسة الاستبدادية التامة من قبل المفكرين الروس على الشعب الروسي بأنه سيتقبل على الفور كل ما يشيرون به عليه وفي حقيقة الأمر ، كل ما يأمرون به ، فعليهم الامر وعلى الشعب الطاعة دون إي اعتراض. يلعب المفكرون دور الوصاية على الشعب. ان موقف المفكرين لا يختلف عن موقف ملاك الأراضي الذين يمارسون حق القنانة بعد الغائها. 3.ان الجميع في اوربا ينظرون الى الشعب الروسي بأستهزاء ، وينظرون الى النخب الروسية المثقفة والذين لا جدال في ذكائهم ، نظرة تسامح أستعلائي . على الرغم من أن هذه النخب المثقفة هاجرت من روسيا والتي غدت هذه الهجرة سياسة يعلنون فيها البراءة من روسيا ، فقد بقيت نظرة الاستعلاء الاوربي ازاء الروس واضحة ولن تتغير مع كل هذه التنازلات فلسان حالهم يكمن في مقولة شاعت هي ( اكشط الروسي يتبين أنه تتري ). أو أن الروس أقرب إلى البرابرة المتجولين في شوارع اوربا أو قطيع من المتوحشين أو جحافل من قبائل (الهون) المتأهبين للهجوم على روما القديمة لتخريب المقدسات دون أن يكون لهم مفهوم النفائس التي يدمروها. 4.أن أوربا تتجاهل الافكار الروسية بعكس الروس الذين اطلعوا على افكار اوربا ، فهم يتجاهلون (80) مليون من الشعب (أنذاك) كما يتجاهلون لغتهم في حين أن المثقفين الروس تعلموا لغات اوربا جميعها وهم لا يتكلمون لغتهم الروسية . بل أصبحوا ينعتون الروس بالأعداء ومدمري الحضارة الاوربية مستقبلاً على الرغم من ان روسيا لن تتخلى عن أوربا فتبقى أوربا للروس الوطن الثاني. 5.تبقى مسألة مهمة وهي أن المشكلة تكمن بسلوك المفكرين الروس وهي أيمان دوستويفسكي الكامل في ( قومية روسيا ) فعلى كل واحد من الروس أن يصير روسياً بمعنى أخر أن تصير شخصية الروسي مطابقة لهويته وان يكف الشخص الروسي ولاسيما المفكر منهم عن أحتقار أبناء شعبه . (( فعند احترام شعبك وقوميتك تجبر الأوربي على احترام الشعب الروسي . فعلينا أن نظهر بالهيئة الإنسانية لا بالهيئة القردية سنكتسب مظهر الحر لا مظهر العبد .)) فعلى الرغم من أن أبطال دوستويفسكي هم من المهمشين والمقامرين إذ يصف حالة البؤس الذي يعيش فيه هؤلاء ولكن دوستويفسكي نجح في أن يجعل القارئ يغوص في الشخصية الروسية مما يخلق الاعتزاز بالانتماء إلى روسيا. وهنا يبقى السؤال كيف حُمل دوستويفسكي وزر حرب أوكرانيا وما علاقة بوتين به ؟ وهنا لابد من التطرق الى كتاب ( أسس الجيوبولتيكا.. مستقبل روسيا الجيوبولتيكي) لـ ( الكسندر دوغين) الذي يعد من أهم منظري الفلسفة القومية الروسية والذي يحظى بنفوذ سياسي قوي داخل أروقة الكرملين والدوما والمستوى الأكاديمي فهو أستاذ لعلم الإجتماع . ويعد ما طرحه في كتابه ( النظرية السياسية الرابعة )(4) الذي جسد من خلالها أفكار دوستويفسكي فيما يتعلق بالروح والهوية الروسية التي لها طريق تطور خاصة متفردة تختلف عن طرق تطور أوربا وتنبثق من أصالة الحياة الروسية التي تتميز بالبطريركية (الأبوية) والنزعة المحافظة والأرثوذوكسية وعلاقة روسيا باوربا كما في النقاط الآتية : 1. إحياء الامبراطورية الروسية (الأوروآسيوية الجديدة) وإعادة هيمنتها مجدداً في عالم متعدد الأقطاب وبضرورة سيطرة موسكو على المناطق التي يسكن فيها الناطقون بالروسية في جورجيا وشرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم بالإضافة إلى دول البلطيق. 2.إن الليبرالية والحرية والديمقراطية هي أفكار غريبة عن الثقافة الروسية ، فأن روسيا أقرب ثقافياً الى آسيا منها الى أوربا. فالنظرية السياسية الرابعة جاءت رد فعل على سيادة النظريات الغربية السائدة وهي ( القومية والليبرالية والماركسية ) ،فكلها تعد غربية كونها نشأت في الغرب ، اما النظرية المضادة لهذه النظريات فهي نظرية الثورة وتصفية أثار النظريات الثلاث . 3.تهدف النظرية الرابعة بكل ابعادها فيما يتعلق بالمجتمع الروسي تخليص المجتمع من النزعات الغربية ، فحقوق الانسان كمفهوم يتعلق بالليبرالية يقصد الانسان الفرد نفسه ، وليس الأنسان (الشخصية في مجتمعه )، فلايمكن عزل الانسان عن مجتمعه أو بيئته المحيطة به . 4.تدافع النظرية السياسية الرابعة عن أصالة وقيم الحضارة الروسية في مقابل القيم الغربية ، فالغرب لديه قيم مميزة خاصة بالمجتمعات الغربية حصراً وليست هي قيم شمولية أو الزامية تطبق على جميع المجتمعات ، فلا توجد على سبيل المثال نظرية واحدة لحقوق الأنسان ، فلايمكن فرض أفرازات الغرب على جميع المجتمعات. وعلى الرغم من طرح أبعاد النظرية السياسية الرابعة ، فتبقى هذه الابعاد نظرية تحتاج الى تطبيق عملي ضمن (الأسس الجيوبولتيكا ومستقبل روسيا الجيوبولتيكي) فان المنطلقات الأساسية للجيوبولتيكا هو التأكيد على أن الوضع الجيوبولتكيكي للدولة يفوق في الأهمية أكثر من خصائص البناء السياسي لهذه الدولة . فالسياسة والثقافة والايدولوجيا وطابع النخبة الحاكمة بل والدين نفسه يُنظر اليها جميعاً في عدسة الجيوبولتكيا على أنها عوامل مهمة ، لكنها ثانوية بالمقارنة مع المبدأ الجيوبولتيكي الأساسي – علاقة الدولة بالمكان _ فأحد المطالب الجيوبولتكية الأكثر الحاحا بالنسبة لروسيا هو( تجميع الإمبراطورية) أو قيام (الوحدة الأوراسية) . فإذا ما أختارت روسيا طريقاً آخر غير ( طريق تجميع الإمبرطورية ) فإن دولاً أخرى أو تحالفات دول ستتبنى رسالة الـ ( قلب العالم) القارية . وفي هذه الحالة تغدو الآماد الروسية هدفاً استراتيجياً أساسياً لتلك القوى تعلن نفسها ( قلعة الأوراسيا ) الجديدة . أن توحيد الأراضي الروسية تحت حماية روسيا (محور التاريخ ) محفوف بصعوبات محدّدة إلا أن الصعوبات زهيدة جداً أمام تلك الكوارث التي تحدق بها إذا لم يجر البدء بـ ( تجميع الإمبرطورية ) في أسرع وقت. يلتقي دوستويفسكي بأفكار روايته (الشياطين ) و (يومياته) باسكندر دوغين بمشتركات دقيقة ضمن الاتفاق بينهما في أن الليبرالية وإفرازاتها التي هي نتاج الغرب الاوربي هي غريبة عن المجتمع الروسي فاذا كانت أوربا وعلى الرغم من تعظيمها من قبل الفئات المثقفة الروسية لكنها تبقى أوربا مقبرة وان وصفها بأعز مقبرة. وكما يذكر (ايفان) احد ابطال دوستويفسكي في حوار مع أخيه (أليوشا) في رواية (الأخوة كارمازوف) ((أنوي أن اسافر الى أوربا يا أليوشا . ساسافر الى هناك من هنا رأساً . واني لأعلم مع ذلك أنني لن أجد هنالك الا مقبرة و لكنها أعز مقبرة .)) كما ينقل لنا دوستويفسكي حوارات المثقفين الروس المتأثرين بالليبرالية الغربية في روايته الشياطين حيث كانت الاحاديث تدور ((على أحلال ألف باء اللاتينية محل الأحرف الروسية وعلى ترحيل فلان أو فلان من الناس وعلى أخر فضيحة حدثت وعلى فائدة تقسيم روسيا الى قوميات يضمها أتحاد فدرالي حر وعلى الغاء الجيش والبحرية )) ولكن يبقى دوستويفسكي في تصوره في أن (( الثورة الروسية والرجعية الروسية تنبعان ، في رأيه من منبع مشترك واحد . والسبب الرئيسي هو الانقطاع المزمن عن الشعب . ويترتب على ذلك أن الاحتراب بينهما لن يفضي الى شيء : أنه امر لا طائل تحته لانه لا يستأصل جذر الشر .... فدوستويفسكي لايتعاطف مع الحكومة التي تلجأ الى التدابير الغاشمة بنفس القدر لا يتعاطف فيه مع ضغوط الذين يسعون الى التغير بوسائل العنف. أنه يرفض القبول بأصطراعهما كضرورة تأريخية )). بعد ما اطلعنا على مواقف وافكار المثقف الذي يتمثل في (دوستويفسكي و دوغين ) أين نحن من السلطة المتمثلة في (بوتين) فعلى الرغم من أن وسائل الأعلام الغربية تركز على أن بوتين استحوذ على الأرث الثقافي الروسي لتغذية الشعور بالأعتزاز والأنتماء الى روسيا، فهو أحد شخصيات دوستويفسكي ويطالبون الشعب الروسي بتحرير تأريخهم الثقافي من (بوتين ) ، فهناك أمر مهم وهو أن ( دوستويفسكي) هو القاسم الاكبر لجميع مفكري وسياسي روسيا ، فمن البديهي أن يكون ( بوتين ) متأثراً بكل ما كتبه (دوستويفسكي) ولاسيما الموقف من الغرب وعلى وفق المصالح الوطنية الروسية التي هي ابجديات الفكر (الدوستويفسكي) الذي لايختلف عليه أثنان واما (دوغين) فهو موجود على الساحة قبل أن يظهر( بوتين ) فكتابه (السياسة العالمية ) فهو من اصدارات 1991 قبل ان يضحى (بوتين) رئيساً للدولة . كما ان ( دوغين ) ليس قريباً من دائرة ( بوتين) بالمعنى الوظيفي ، في حين أن بوتين بوصفه رئيس دولة عظمى لا يمكن أن يتجاهل الطروحات المستقبلية فيما يتعلق بالأسس الجيوبولتيكا ومستقبل روسيا الجيوبولتيكي.التي يطرحها (دوغين) فكل سياسي هو بحاجة الى مثقف ليس بالضرورة من الأحياء ، فلا يمكن أن يكون(بوتين) أقتصر بقرارته السياسية على شخصيات دوستويفسكي الروائية فهناك العشرات من الروائيين الروس ممن يعظمون روسيا . فالسياسي ( بوتين) لايقتصر قراءته على أثنين لا ثالث لهما هما (دوستويفسكي ويوغين) ، فنحن أمام مثقف سلطة لا يخدم رجل السلطة لتقتصر العلاقة بـ( فقيه السلطان أو نديمه ) فنحن أمام مثقفان يخدمان وطنهما وأمتهما . أن الدعوات الغربية تجعل من المهمام الوطنية الاساسية تتمثل في خدمة سياسي تضمر له الكره لانه ضد مصالحها الا وهو (بوتين). فلكل بلد ظروفه الخاصة التي لا يمكن تعميمها في المتغيرات السياسية ولا سيما مع دولة عظمى تشكل محور الواقع السياسي الدولي.

مشاركة :