المثقفون الأوروبيون: أوقفوا الحرب ولكن لا تسألونا عن أسبابها

  • 4/24/2022
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

للحرب في أوكرانيا تداعيات عميقة خاصة على المشهد الثقافي، إذ أوقدت هذه الحرب حربا ثقافية في أوروبا كشفت وجوها غير مألوفة في الخطاب وردات الفعل التي بدت غريبة للكثيرين فيما رآها آخرون تصديا للحرب، وقد نشرت “العرب” في عدد الخميس الرابع عشر من أبريل الجاري ملفا كاملا عن تفاعل المثقفين العرب مع هذه الحرب، وفي هذا التحقيق نواصل سبر آراء المثقفين الأوروبيين حول تداعيات هذا النزاع العسكري وأسبابه ومآلاته. بين المثقفين والمتعلمين والمتنورين يصعب أن نجد هناك من لا يعارض الحرب، ومن لا يحذر من تبعاتها، ومن لا يقف مدينا للعدوان والمعتدي ومتضامنا مع المعتدى عليه، وهذا ما شاهدناه في كل الحروب التي نشبت، خاصة في الثلاثين سنة الأخيرة بعد انفراد الغرب الذي تتزعمه الولايات المتحدة، بالهيمنة على العالم. وبخلاف أبواق السلطة ومن وظفوا تعليمهم ومعرفتهم للأهداف الأيديولوجية، كان المثقف واقفا على الضد من أي حرب. وهنا في أوروبا، لم يكن الأمر مختلفا، فقد وقف المثقفون ضد حروب التسعينات جميعا، ابتداء باجتياح صدام حسين لجارته الكويت وحرب الخليج الثانية، ثم الحرب الشيشانية الأولى والثانية ثم الحرب اليوغسلافية، وإلى الحروب الأهلية في راوندا وإثيوبيا وأفغانستان والصومال، كما هو الحال في حروب هذا القرن، والتي تصدرتها أحداث غزو العراق وأفغانستان. وهذا موقف يجب أن يتبناه المثقف، وأن يكون الداعية ضد أي عدوان، وصوتا يحث على نصرة المعتدى عليه. هستيريا حقيقية نيلس هاو: الآن نرى أن براءة العالم الساذجة تتلاشى كالسراب الحال اليوم ونحن نشهد ما يدور في أوكرانيا منذ الاجتياح الروسي لها، لا تختلف تبعاته عن أي عدوان آخر في العالم، ولذا لا يمكن إلا إدانته والعمل على فضح المتورطين فيه، إن كانوا من الروس أو الأوكرانيين أو من الغرب. غير أنه من الملاحظ أننا لم نشهد سابقا إجماعا كهذا الذي نشاهده اليوم من قبل كافة المثقفين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الفكرية، حول ما يدور اليوم في أوروبا منذ ساعة الاجتياح. وليس الإجماع وحده هو الذي يثير الدهشة، وإنما الوقوف المعلن إلى جانب أوكرانيا، رغم أن الحكومات الأوروبية جميعها أعلنت وقوفها ودعمها المادي والعسكري لأوكرانيا، حتى قبل أن تندلع الحرب، عندما بدأت المساعدات تتدفق على أوكرانيا من كل الدول الغربية. ولم تكتف الدول الأوروبية بذلك وحسب، بل سعت إلى تغيير العديد من قوانينها لتتماشى مع ما يمكن أن تقدمه لأوكرانيا، من تغيير قوانين اللجوء إلى السماح بمرور القطعات العسكرية في أراضيها وإلى منح الأسلحة أثناء الاقتتال.. إلخ. وقد تم هذا التغيير دون أي اعتراض برلماني من المعارضة. ورغم أن أوكرانيا ليست من دول حلف الناتو ولا هي من إحدى دول الاتحاد الأوروبي، وكانت إلى عشية الحرب تعتبر من الدول التي تعاني من الفساد السياسي ونقص العدالة الاجتماعية وضعف المؤسسات المدنية، الأمور التي لم تؤهلها لعضوية الاتحاد الأوروبي، ولكن كل هذه الأسباب لا تمنع من التضامن مع الشعب الأوكراني ومساندته وتقديم كافه العون لضحايا الاجتياح والحرب. أما التعاطف والتضامن وتقديم المساعدات اللامحدودة للحكومة الأوكرانية يمكن أن يكون موضع نقاش، فهو أمر لم تشهده أوروبا من قبل، ولم يجمع أي حدث أو أي حرب كافة مثقفي أوروبا في كتلة واحدة ليصرخوا بصوت واحد وعبارات متشابهة. وهذا ما يدهش في الأمر. كيف تسنى لكل مثقفي أوروبا أن يتحدوا؟ هناك حكمة لا يمكن إغفالها اليوم، والتي تقول “إن تملك الرعب من الناس جميعا فسيصبح الأمر هستيريا”، وهذا ما يلاحظ اليوم في أوروبا، هستيريا حقيقية. نحن هنا لا هدف لنا في إلقاء اللوم أو تعنيف أو انتقاد من أظهر ومن لم يظهر ردة فعله على حد سواء، بل هدفنا أن نفهم دور المثقف وأن نستخلص دوره الفعّال أو المكتسب، وأين ذهبت قدرة “التفكير النقدي” في ظروف تتطلب التمحيص أكثر من غيرها. لارس راون: التعليم وتوزيع الثروات والبيئة أجدر باهتمامنا من الحروب من خلال مطالعة الصحف اليومية ومتابعة الإعلام الدنماركي والحديث مع العديد من المثقفين هنا، لم أجد إلا أصواتا قليلة جدا، أقل من أصابع اليد الواحدة، تتحدث بلغة مختلفة عما يدور وعما يأتي على لسان جميع المثقفين. ومع ذلك فإن تلك الأصوات الخافتة، لم تجرؤ أن تعلن مواقفها، وربما لم يسمح لها من قبل وسائل الإعلام كافة، بعد أن كان لهذه الأصوات مكان في الإعلام قبل الاجتياح، ولكنها اختفت مع بدء اجتياح الجيوش الروسية للأراضي الأوكرانية. وهنا سنستعرض بعضا مما أرسله إلينا بعض الكتاب والفنانين، لكي نعطي صورة واضحة لما نتحدث عنه. الحرب هي الحرب يتمتع الشاعر نيلس هاو بشعبية عالية، ويعرف عنه وقوفه بجانب الحق ومساندة الضعفاء، يقول “الحرب على أوكرانيا مثلت صدمة عنيفة للطريقة التي يسير عليها الاقتصاد الليبرالي، الذي ومنذ سقوط جدار برلين في عام 1989 كان مهيمنا على المناخ السياسي في حلف الناتو وفي الغرب، كذلك دمرت هذه الحرب نظام العولمة الجديد، لتعيد انغلاق الأمم على نفسها وعلى مشكلاتها الداخلية. وهذه بعض تداعيات هذه الحرب، والتي تذكرنا بالحرب العالمية الأولى (1914-1918)، حيث كان العالم منفتحا على بعضه قبل قيام الحرب وكان بريئا. والآن أيضا نرى أن براءة العالم الساذجة تتلاشى كالسراب”. ويضيف “كل ما أستطيع أن أقوله عن هذه الحرب هو قصيدتي هذه: ـ الحرب ـ لحسن الحظ/ منعت روسيا كلمة الحرب/ وكان عليها أن تمنع كلمات أخرى مثل/ الرعب والصراخ ودوي القنابل/ أغبى ما يمكن فعله هو التفكير/ كلمة الاجتياح أصبحت منذ البدء ممنوعة/ وذكر خسائر الجيش ممنوع/ وبكاء الجنود ممنوع/ الجثث في الشوارع والأطفال المصابون ممنوع/ والرعب في الأقبية وفي محطات المترو/ كلمة الموت لحسن الحظ ممنوعة/ فالموت غير مسموح به في روسيا”. أما الفنان التشكيلي لارس راون، والذي ازداد اهتمامه بالسياسة الأوروبية بعد أن انتقل للعيش في الصين منذ أكثر من خمس سنوات، فهو يرى أن “الحرب هي الحل الأسوأ لحل أي نزاع، وخلفيات هذه الحرب سببها وجود ساسة سيئين ومستشارين سيئين ودبلوماسيين سيئين. وهذا يشمل السيد بوتين أيضا، فهو يتحمل جزءا من الذنب. لنا أن نعترف بأن جنون العظمة والتسلط المطلق لا يزالان متواجدين بيننا، ولنا أن نعترف بأن الساسة الأوروبيين قد فشلوا أيضا، كما نشهده في مسيرة هذه الحرب”. ستي دال أيه: هذه الحرب ستترك عواقب سياسية ونفسية وثقافية أما إن كان لهذه الحرب أن تغير من النظام العالمي، فيصعب التخمين في الوقت الراهن، في رأيه. يقول “هناك الكثير من الشعوب التي تعاني وبأشكال عديدة، فهل ستكون هذه المعاناة مجتمعة كافية لكي تغير العالم؟ لا أدري، وهل سيتحسن وضع العالم، فأنا أشك في ذلك. ومن ناحية تغيير وجهة نظر الأوروبيين عن أنفسهم وعن العالم بسبب هذه الحرب، ففي الوهلة الأولى رأينا كيف تجمع الأوروبيون واتحدوا، ولكن هل سيقفون مع بعضهم عندما يأتي يوم تسديد الفواتير؟ أشك في ذلك أيضا”. ويضيف “بالنسبة إليّ أجد أن أهم الأمور، وأكثرها إلحاحا هو ما يتعلق بالمشكلة المناخية، وكيف سيتعامل الإنسان مع الإنسان من ناحية ومع الطبيعة من ناحية أخرى. وهنا أجد أن التعليم وتوزيع الثروات هما الأجدر باهتمامنا من الحروب. أدعو إلى انفتاح أكثر بين العالم، تعليم أوفر للناس، حماية أفضل للضعفاء وحماية أوسع للبيئة، وإن كنّا، كبشر، سنستمر في العيش على هذا الكوكب، فعلينا أن نتعلم كيف نعيش مع بعضنا ومع الطبيعة وليس باستغلالها. للأسف نرى أن طبيعة الإنسان السيئة والمتمثلة بالجشع تزدهر، ولذا يصعب القول، إن كانت هذه الحرب قادرة على استبدال هذه الطبيعة بعناصر أكثر إنسانية”. يرى الكاتب والروائي ستي دال أيه، والذي يعتبر من أكثر المنتقدين للسياسة الدنماركية والأوروبية، خاصة في ما يتعلق بالشؤون الإنسانية وحقوق اللاجئين، أن “الاجتياح الروسي لأوكرانيا وقصف المدن الذي أدى إلى نزوح الملايين من الأوكرانيين، إضافة إلى الخسائر في الأرواح والمعدات، لهو أمر مستنكر، ويمثل خرقا لكل لوائح الحقوق الإنسانية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها. خاصة وأن قيام هذه الحرب يستند إلى ادعاء كاذب من قبل الروس، الذين مارسوا وإلى حد الآن أعمالا لا يمكن للفرد إلا أن يزدريها، ويجب تقديم المسؤولين عنها إلى المحاكم الدولية لنيل عقابهم”. ويتابع “جريمة روسيا لا تقتصر على ما حدث في أوكرانيا، فقد قامت الحكومة الروسية بمنع الصحافة الحرة في روسيا، رغم أنها كانت محدودة نسبيا، وبهذا حجبت المعلومات الحقيقية للحرب عن المواطن الروسي ورمت به في براثن الجهل. إنني أرى أن هذه الحرب ستترك عواقب سياسية ونفسية وثقافية في المستقبل، وقد لمسنا عواقبها الآن في ازدياد التوتر بين الشرق والغرب بما يشابه ما عشناه في فترة الحرب الباردة. وهذه المرة يتسم الأمر ولسوء الحظ بالعزل التام لروسيا وبالتسلح غير المعهود لأوروبا ولأميركا، حتى ألمانيا التي لعبت دورا إيجابيا كوسيط بين الغرب والشرق، اختارت اليوم طريق التسلح لأول مرة، وتبعتها دول أوروبية أخرى، مثل الدنمارك، رغم أن التوازن العسكري بين روسيا والغرب اليوم يؤشر إلى نسبة مقدارها 1 إلى 14 لصالح الغرب، فما هي الحاجة للتسلح يا ترى؟ وهل ستقودنا زيادة التسلح إلى حالة السلم في أوروبا أو في العالم؟”. ويشدد دال أيه على أن الطريق إلى السلام لا يعبده سباق التسلح، وإنما يمر من خلال المفاوضات والحوار البناء بين الدول، كما أشار الأمين العام الأول للأمم المتحدة داغ هامرسكيولد قبل سبعين عاما. إن الرؤساء الأميركيين، بمن فيهم أوباما، لم يسعوا إلى حوار مثمر مع بوتين من أجل حل ما يعرف بالمسألة الأوكرانية. وكان على أميركا، بمشاركة الحكومة الأوكرانية، أن تجد طرقا أفضل للتفاوض مع روسيا حول قضية شبه جزيرة القرم، للوصول إلى استقرار في المنطقة، ولكننا لم نشهد مثل هذا التوجه. والآن رجعنا إلى الوراء، إلى فترة الحرب الباردة، مع الفارق، أن تهديد الحرب النووية أصبح أكثر إلحاحا. ولهذا السبب علينا أن نعزز دور الأمم المتحدة ونعيد هيكلتها كممثل للمجتمع العالمي ولمصالح الشعوب في السلام، لأن نجاة البشرية هو في نهاية الأمر الأهم. سفن مادسين: هل كانت الحرب هناك على الأرض أم في دواخلنا ويعلق الفنان سفن مادسين على ما يجري بأسلوب فني بحت، وذلك لأنه لم يتمكن من مواجهة ما يحدث بطريقة عقلانية، ولذا نراه ينشغل بالحديث مع ذاته، ويسألها إن كانت الحرب هناك على الأرض أم في دواخلنا؟ بعد أن قرأ لوحة تعليمات في أحد مطاعم المدينة تشير إلى “أن التباعد الاجتماعي الذي بات يحتم مسافة المترين قد انتهى، وسنعود إلى وضعنا الطبيعي الذي يحتم الخمسة أمتار”، ولم يجد مزحة في هذه اليافطة لأنه على علم برعب الأوروبيين من تقلص المسافة مع الآخرين، خاصة في البلدان الأسكندنافية، فهل هذا ما ينعكس في فهم الحدود، وكيفية المحافظة عليها؟ وقد ملأته الحرب بالغضب والحزن والألم وخيبة الظن بعد مشاهدة القنوات الإعلامية ونشرات الأخبار اليومية تعرض “حربا جديدة”، يقول “وكيف لا يمكننا أن نحلم بطاقة جديدة مستمدة من الطبيعة، بماء منقى وماء للسقي من بحار العالم، فلم لا يمكننا التعويل على قدرة الإنسان لإيجاد الحلول، ورئيس الوزراء الإيطالي يسأل شعبه: هل تريدون السلام أم مكيفات الهواء؟”. ويشير إلى أن قطع استيراد الغاز من روسيا سيكلف المواطن الإيطالي التضحية براحته تحت مكيفات الهواء التي يشغلها طوال الصيف. فإن فعلوا ذلك، فهل يمكن أن يُجبر بوتين على إيقاف الحرب؟ كل شيء ممكن. أما رئيسة الوزراء الدنماركية فإنها مؤخرا وعدت الجيش بمئات الملايين من اليوروهات من أجل تعزيز ترسانتهم العسكرية وتطوير أسلحة دمار جديدة. فكيف للأسلحة أن تحمينا؟ كيف لها أن تخفف من رعبنا؟ وإلى أين ستجرنا عملية التسلح؟ ويتابع “في ما يتعلق بالنظام العالمي، فإن هذه الحرب ليس لها أي دخل فيه، إن شئنا أن نحافظ عليه أو نغيره. إنها مسألة خيار، أن نختار طريق التغيير ونعتمد على إنسانيتنا التي تحتم تبادل الثقة مع الآخر واعتماد التعاون بين شعوب العالم. إنني أتطلع لرؤية مسؤول سياسي يعد المواطنين بمئات الملايين من اليورووات من أجل تطور التكنولوجيا التي في عقولنا وفي جامعاتنا وفي مختبراتنا ومصانعنا من أجل خدمة الإنسانية. إنها مسألة خيار حقيقي من أجل توزيع عادل للثروات يضمن حياة كريمة في العيش لكافة البشر. في البلد الذي أعيش فيه، أجد الصراع يوميا بين الثقة بما نملك من قدرات ذاتية وبين الاستسلام عندما يتحتم العمل على التغيير. فالديمقراطية تؤدي إلى التطور، هذا ما تعلمناه، ولكن ماذا تعطينا الديمقراطية؟ المشاركة، التعاون، الانفتاح، الخيال، المعرفة، الفضول.. ولكن كل هذا محكوم بالحفاظ على المسافة بيننا وبين الآخر! فكيف لنا أن نمارس الديمقراطية ونحمي حدودنا في نفس الوقت؟ فكل خلاف يغير النظام القائم، وإن المضي إلى الأمام أو إلى الخلف مسألة خيار بحت“. العقلية الأوروبية ◙ الحرب هي الحل الأسوأ لحل أي نزاع ◙ الحرب هي الحل الأسوأ لحل أي نزاع مجتمعة هذه الملاحظات وما يكتب يوميا في الصحف وينشر في الإعلام الغربي، أجد أن الجميع يدين الحرب وينشد السلام، وهذا أمر إنساني رائع، ولكني أجد الجميع يتجنب، بوعي أو بتأثير المد العام، ذكر الأسباب الحقيقة للحرب ودور أوروبا والغرب في ذلك، إلا ما ندر، وهذا يمثل انعكاسا حقيقيا لمجرى التاريخ الاستعماري الإمبريالي الذي سار عليه الغرب منذ أكثر من ثلاثة قرون، والذي لا يجد المثقف الأوروبي نفسه معنيا به أو معنيا بتغييره، رغم الادعاءات الإنسانية التي تطلق هنا وهناك. حملات الإدانة وحملات التبرعات التي تمت وتتم في أوروبا من أجل دعم أوكرانيا لم تكن لها أي سابقة في التاريخ الأوروبي، إضافة إلى تغيير القوانين الآني والعاجل بموافقة الحكومات الأوروبية ومعارضيها البرلمانيين والمثقفين قاطبة. وعندما نوجه سؤالنا، أين كانت هذه الحملات من الاجتياحات والحروب التي شنها الغرب على دول العالم خلال العقود السبعة الأخيرة، نجد الجواب دفاعيا بحتا، ويشترط ألا تخلط الأوراق. نعم، هناك دوما من يتعاطف مع شعوب العالم الضعيفة، ومن يدين السياسة الأوروبية والغربية، ولكننا لم نشهد مثل هذا الإجماع التام على أي حرب قام بها الغرب. أما ما يتعلق بتغيير النظام العالمي، فنجد الغالبية العظمى تتجنب التفكير فيه، وذلك خوفا من أن تتأثر المصالح الشخصية أو القومية بمثل هذا التغيير. وأخيرا يمكن لنا أن نستنتج أن العقلية الأوروبية، أو بالأحرى الغربية لن تحيد عن نهجها الذي سلكته خلال القرون الثلاثة الأخيرة، ما لم تجبر عليه من الخارج أو من الداخل. وسنناقش هنا هذين الاحتمالين بالتفصيل: ما نعني به من الخارج هو نهوض دولة أو عدة دول، أو تحالفات، إلى الحد الذي يهدد مصالح الغرب، وفي نفس الوقت لا يستطيع الغرب أن يزيحه أو يفعل شيئا حياله. ويكون هذا التهديد ليس فقط بالحجم والقوة التي يتمتع بها الغرب، وإنما بالحنكة والأخلاق التي يتمتع بها الغرب. وقد شهد العالم خاصة خلال بدء هذا القرن نشوء مثل هذه القوى والأحلاف، على رأسها روسيا والصين في مجموعة ما يسمى “البركس” والتي تضم كلا من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. هذه الدول التي يمثل حجم اقتصادها ما يقارب العشرين في المئة من الاقتصاد العالمي، إضافة إلى أنها تمتلك أعلى طاقة بشرية في العالم. الجميع يدين الحرب وينشد السلام، وهذا أمر إنساني رائع، ولكنهم يتجنبون بوعي أو بتأثير ما ذكر الأسباب الحقيقية للحرب وبعد ذلك، وخاصة بعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم إبان انتهاء العقد الأول من هذا القرن، انتبه الغرب لهذه القوة وبدأ العمل الحثيث على إضعاف هذه الدول. فعلى غفلة حدثت التغييرات السياسية في الهند وفي البرازيل وفي جنوب أفريقيا، ثم بدأت إشاعة استراتيجية الخوف من الصين اقتصاديا، ومن روسيا عسكريا، وطرحهما كحكومتين غير ديمقراطيتين لهما أن يهددا الاقتصاد والأمن الغربي. وما آلت له هذه السياسة من تحرشات واستفزازات عسكرية استطاعت الصين أن تحتويها، إلا أن روسيا وقعت في هذا الفخ بعد أن زحفت قوات الناتو إلى حدودها. وهذا يوضح أن التهديد الخارجي للغرب لا يمكن له أن ينجح، وذلك لأن الناتو لا يزال متفوقا على جميع دول العالم مجتمعة، ولن يسمح يوما لأي تفوق اقتصادي أو عسكري يهدد مصالح الغرب. أما على الجانب الداخلي، فإن ما نعنيه هو ظهور قوى داخلية، تغذيها الفئة المثقفة والأكاديمية لكي تطرح رؤية جديدة للنظام العالمي القائم على احترام حقوق الآخرين بغض النظر عن مستوى القوة العسكرية التي يتمتعون بها، وألا تكون القوة العسكرية هي الامتياز الوحيد الذي يتمتع به من يهيمن على مجرى الأحداث في العالم. لأن نظام القوة هو نظام بدائي ولا يصلح لتطور البشرية وما وصلت اليه اليوم. هذا هو الاحتمال الوحيد المتبقي لإنقاذ البشرية من الوحشية والبربرية التي يعيش فيها منذ نشوء الأمم والامبراطوريات والقوميات ولاحقا التحالفات. وقد جاء هذا المقال هذا والحديث عن رؤية المثقف الأوروبي للمستقبل مخيبا للظن، لأنه لم يكشف عن أي تغيير في الرؤية الأوروبية لمستقبل يختلف عنما تعود عليه الغرب من هيمنة وحق تقرير مستقل العالم!

مشاركة :