لما كرّم اللهُ أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - بأن جعل فتح بيت المقدس على يديه، كان الجيش الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قد حاصرها، لكن النصارى رفضوا الاستسلام إلا لأمير المؤمنين شخصيًا، وكان يمكن للمسلمين الاستمرار في الحصار وفتح المدينة المقدسة عنوة، لكن عمر فضّل أن يتعب في سفر شاق على أن يستمر الحصار الذي يمكن أن يشقّ على الجيش، فركب دابته وانطلق من المدينة إلى بيت المقدس. استمرت الرحلة كاملة عودة وإيابا بضعة أشهر، وذلك لبعد المسافة والحاجة للراحة، وعاد عُمَر بهذا الشرف العظيم. هذه حلقة أخرى من سلسلة «ملوك الماضي يحسدوننا»، حيث نرى النعم التي نعيشها اليوم التي لم يملكها الأولون. من العناصر التي تجذب انتباهي في قصص الأسبقين المسافات التي كانوا يقطعونها والفترة التي تتطلبها. المسافة بين المدينة وبين القدس قرابة 1000كم، واليوم لو كان هناك خط طيران مباشر لها (طهّرها الله من دنس اليهود) لما احتاجت الرحلة أكثر من ساعتين، أما سابقًا فإن الناقة إذا حثت الخطا ومشت بأعلى سرعة ممكنة فستصل القدس بعد شهر. المسافة التي كانت تحتاج ساعات بالخيل تطير الآن في دقائق. السفر لمدينة أخرى كان خطرًا وشاقًا جدًا، فهناك مخاطر السباع، وقطاع الطرق، والأعداء من الأمم المجاورة، ونفاد الطعام والماء، ناهيك عن المشقة العظيمة في السفر على دابة لأيام وأسابيع، خاصة في الأجواء الصحراوية القاسية، فإما حر يغلي الكبد أو بردٌ ينخر العظم. لكن اليوم؟ لا معاناة، تسافر وأنت جالس على كرسي السيارة المريح والنوافذ المغلقة التي تحميك من الحشرات والمكيف الذي يبرد الجو الحار، وربما تستمع لشيء ممتع وأنت تقود أو تحتسي مشروبك المفضل ولا تشعر بالكيلومترات تتبخر بسرعة. أما الطيران بالطائرة فهو الذي سيصدم الأولين فعلاً لو رأوه، وإلا أي شيء يجعلهم يستوعبون أنبوبة معدنية تطير في الهواء يحوي جوفها مئات المسافرين الذين لا يشعرون بالهواء ولا يسمعون صوته، بل ينامون ويتسامرون ويضحكون ويتناولون الغداء والطائرة تطير بسرعة 1000 كم في الساعة، وأسفلها كثبان الرمال أو الصخور أو الجبال التي عذّبت مسافري الأمس وقتلت الكثير منهم. إنها أشياء عجيبة ونعم كبيرة، لكن عيب المواصلات الحديثة هو أنها قللت حركتنا، ففي السابق كان البشر كثيرو الحركة، أما اليوم فالسيارة والطائرة والقطار تحتم على الشخص الجلوس الطويل، وهذا يسبب أمراضًا على المدى الطويل، فيلزم الحذر من كثرة الجلوس، لكن بشكل عام فالمواصلات اليوم مدهشة، وبعد أن تزول التقنية المعاصرة وتختفي الحضارات وتعود البشرية لسابق حالها، سيجلس غلامان في الليل يتسامران وأحدهما يقول للآخر: «سمعتُ أن العصور السابقة كان لديهم مركبات معدنية تسير بهم بسرعة فائقة! سفرنا اليوم الذي يستغرق 5 أيام كانوا يقطعونه في ساعات! هل تصدق؟ مستحيل!»، يرد الآخر: «بلى، سمعتُ هذا من أمي! وقد أخبرها جدها أنه رأى تلك المركبة التي كانوا يسمونها السيارة وهو طفل صغير. ليتنا نرى شكلها!».
مشاركة :