هناك حجر مكعب اليوم بلون الطين، يحويه أحد متاحف أوروبا. إنه جزء من عمود كبير، كان منصوبًا في مكان عام. وترى كلمات باللغة الهندية القديمة على هذا الحجر. ما هذا؟ إنه من بقايا الماضي المجهول، ظهر ليحكي حكاية فريدة. ساد آسيا وأوروبا إمبراطوريات ضخمة قبل 2000 سنة. «إمبراطورية» أكبر من كلمة دولة، وتعني دولة كبيرة، تحوي أممًا مختلفة، عكس الدولة التي يكون عادة لها نفس الدين واللسان والعرق. الكل يعرف الإمبراطورية الرومانية مثلاً، لكن في القارة الآسيوية تركت إمبراطورية أثرًا باقيًا إلى اليوم، معظم الناس لم يسمعوا بها: إمبراطورية الهند بزعامة أشوكا. مَلَكَ أشوكا إمبراطورية شاسعة، تشمل معظم شبه القارة الهندية، وأحسن السيرة في رعيته، لكنه أول أيامه عكس ذلك تمامًا: شيطان بلباس إنسان! إذا حكم العسكريون الدول فهذا عادة أحد أبشع أنواع الحكم؛ لأن العسكري لا يعرف إلا القوة، ويجهل الحنكة السياسية التي يتميز بها الحكام البارعون. وهكذا كان أشوكا؛ فقد كانت خلفيته عسكرية بحتة، مثل جده شاندراغوبتا، ولما آل له الملك سار على طريقته، وتعامل مع كل شيء بالقوة، ولم يسلم قومه؛ ففرض عليهم رأيه، وإذا اعترضوا صب عليهم نقمته. والكتابات البوذية المعاصرة له تخبرنا أنه قتل 99 من إخوته، ويبدو أن هذا يعني إخوته مجازًا، وليس حرفيًّا، أي أصدقاءه وأقاربه. لما وطد ملكه بالعنف أراد إخضاع دولة كالينغا المجاورة، وهي اليوم مكان ولاية أوديشا شرق الهند، فلما قاومه أهلها سحقهم أشوكا بوحشية مريعة، فقتل 100 ألف، وسبى 150 ألفًا. ولما انتهى غبار المعركة تأمل أشوكا جبال الجثث البريئة، وندم ندمًا عظيمًا. لا ندري لماذا تحرك ضميره هذه المرة، لكن نعرف أن تلك الغزوة تركت أثرًا بالغًا معه لم يغادره، وكانت مشاعر الندم تلك هي نقطة تحول الشاب القاسي المتوحش إلى الحاكم المحنك العطوف. وهكذا أتت تلك الأعمدة المذكورة. أصدر أشوكا 7 أوامر إمبراطورية، وأمر ببناء أعمدة كثيرة، عليها تلك المراسيم، والذي بقي منها هو الأمر السادس الذي يقول فيه أشوكا لرعيته: «إنني أفكر كيف يمكن أن أجلب لكم السعادة، ليس فقط لخاصتي أو سكان العاصمة بل حتى البعيدين، فأنا أحترم الناس كلهم، وأحترم كل الطوائف، وسأعامل جميع الأديان بالعدل، وأراه حقًّا لكم أن أزوركم شخصيًّا». يا له من تغيُّر بليغ! آنذاك كان معتادًا أن يقتل الناس أو يعذبوا إذا دانوا بغير دين الدولة؛ لذا فأشوكا حالة نادرة. وقد استمر تأثير هذه السياسة الفريدة إلى اليوم؛ فغاندي صاحب سياسة السلم تأثر بأشوكا، واليوم هناك دولة تستقي سياستها من أشوكا، هي مملكة بوتان بين شمال الهند والصين. لكن ماذا حصل لمملكة أشوكا الضخمة عندما توفي؟ تفتتت وتناثرت. يثير هذا سؤالاً: هل سياسات النزاهة يعجزها العيش وسط الأجواء السياسية المعروفة بالقسوة والخداع؟ يناقش المؤرخون ذلك، لكن ما لا خلاف عليه هو أن أشوكا كان إمبراطورًا ذا قصة فريدة، لا نزال نسمع صداها.
مشاركة :