يا مسكين، أنت تَحتاج لرفع وعيٍ مركَّز، هذه حقيقة غير مفرِحة، ولكنَّها مثبتة، هيَّا ولا تتهرَّب، وهاك أول حقنة وعي ذات إبرةٍ غليظة مسنَّنة طولها ذراع، لا.. لا.. لا تكشف عن سَوءة عضلاتك، أو تبرِز وريدَك الأخضر، ولسوف أغزُّ وأطعُن عينَك بهذه الإبرة، وأحقن بها مخَّك بدواء مرٍّ، لعلَّه يشفيك من تدنِّي الوعي أنت تَحتاج لرفع وَعيٍ يا أيها القارئ، نعم تَحتاج لِرفع وترفيع وارتفاع وعي؛ فوعيُك -بصراحة قاسية وجارِحة مؤلِمة- بسيط وبدائي، ومتدنٍّ ومخجِل. لا تنكِر، لا تُكابِر، ولا تنفعل، ولا تتَّهم غير نفسك، فلقد أهملتَ وعيَك سنينَ طِوالًا، حتى ألقاك موثق اليدين في بئرٍ عميقة، يُسمع ماؤها ولا يُرى! لا تخف، فلن يَطول حزنُك يا صغيري، فأنا الكاتِب الجِهبِذ العَبقري العظيم -ومثلي كثير- هنا لأنقِذك، لكنَّني أدعوك ألَّا تكون جَحودًا، فلا تصرخ، ولا تَشتكِ حين أُلقي حجارةً وسكاكين في البئر، فهي -وإن آلَمَتك، وشجَّت رأسك، وأدمَت أنفك- لِمصلحتك وخيرك ونجاتك؛ فبهذه الحجارة والأسنَّة أعرف مستوى تدنِّي وَعيك، وأقيس بها طولَ الحبلِ اللازم لانتِشالك ورفعك إلى أَدنى مدارج الوَعي والنُّور. يا مسكين، أنت تَحتاج لرفع وعيٍ مركَّز، هذه حقيقة غير مفرِحة، ولكنَّها مثبتة، هيَّا ولا تتهرَّب، وهاك أول حقنة وعي ذات إبرةٍ غليظة مسنَّنة طولها ذراع، لا.. لا.. لا تكشف عن سَوءة عضلاتك، أو تبرِز وريدَك الأخضر، ولسوف أغزُّ وأطعُن عينَك بهذه الإبرة، وأحقن بها مخَّك بدواء مرٍّ، لعلَّه يشفيك من تدنِّي الوعي، تبًّا لك! ها أنت تَصرخ، وتتلوَّى، وتتألَّم مرَّة أخرى، إنَّ حالك تعيسَة حقًّا: وعي متدنٍّ، وقلَّة صَبر على العلاج، وجحودٌ لِفضل المنقِذ البطل: أنا ابن جلا! أكاد أرى بعين خيالي القُرَّاءَ للكلمات الصَّريحة المتقدِّمة أعلاه، وقد ارتفع وانفجرَ ضَغطهم بدلًا من وعيهم، يتطايَر ويتقادَح -بلا سبب مفهوم، أو عذرٍ مَقبول لديَّ- مِن أعينهم نارٌ وشرٌّ وشرَر، فهذا قد سَلَّ سيفه وأشهرَه وقد جحظَت عيناه، وآخر منتفخ الأوداج قابض على قرن «جنبيته»، وثالث يسرِع لمخبأ سلاحه النَّاري، ويعجل في تَلقيمه سمًّا زعافًا، ورابع يزمجر ويقسِم قائلًا: سأخنقه بيديَّ هاتين، وخامس يهذر سبًّا وشتمًا وقذفًا، ويقول: اتركوني عليه، ولسوف يرى ما أنا به فاعل! أعتذر لك عزيزي القارئ المبجَّل وصاحب المقام العالي، فوالله ثمَّ والله ثمَّ والله، أنا لم أعنِ أو أقصد أو أؤيِّد أو أَمِلْ أو أُحبَّ أبدًا أبدًا كلَّ ما قلتُه سابقًا من قول ساقط وأسلوب سخيف، إنَّما هي مقدمة «درامية» مقصودة، مَحبوكة بالمبالَغة، ومَشحونة بأخيلةٍ جارحة ومستفزَّة، أحاول من خلالها أن أوضح مزالقَ ومثالبَ قد نَقع فيها نحن -نعم نحن- معشر الكتَّاب أحيانًا، ونستفز بها القارئ ونَستعديه، ونفقد ثقتَه وودَّه واحترامَه حين يشعر بأنَّنا أهنَّاه واحتقرناه، وتقاللنا فهمه، وبخسنا بضاعتَه، وتكبَّرنا عليه، ولعلَّ هذا يعيد لأذهانكم -يا قرَّاءنا الأكارم في الشرق والغرب- ذكريات مرَّة ومنغِّصة عن كثير من سقطاتنا -نحن الكتَّاب والمفكرين- وغفلاتنا وتجاوزاتنا، وحدَّتنا وغلظتنا، وتعالينا وكبرنا وانتفاخنا. قد يَسأل عاقل: أيُعقل أن يَقع ما سبق ذِكره أو قريبًا منه على أيدي كتَّابٍ مسلمين، مجتهدين وباحثين ومتابعين، يريدون الخيرَ للناس؟ يا لَه مِن سؤال مرٍّ كالعلقَم، والأدهى أنَّ جوابه أمرُّ وأَفظع: نعم، وألف نعم يقَع، ويتكرَّر، ويقع كثيرًا، وكل يوم، لكن اسألني: كيف؟ فأجيبُك لِأذكِّر نفسي وأعلِّمها وأرشدها قبل غيري، لعلَّها تتَّعظ، ولعلها تُصلح ما فسد، وتجبر ما انكسر، وتَستعيد حب القارئ وثِقته واحترامَه. المحبَّة طريق التلقِّي، هذه حِكمة جديرة بالنَّقش بالإبرة العظيمة -المذكورة أعلاه- على جِباه بعضنا -وأنا أولهم- من الكتَّاب والمتحدثين والمصلِحين، والدعاة والمعلِّمين، ومن شاكَلهم، مهما علا شأنهم وعِلمهم، وقَدرهم وسنُّهم. تعني هذه المقولة أنَّ القارئ والسَّامعَ والمتلقِّي لن يَقبل ويتلقَّى ويتفاعل مع ما نهديه من قطاف المعرفة إذا لم يُحِسَّ ويوقِن بأنَّنا نحبه ونجلُّه ونقدِّره. لا تَعجل يا صديقي، فأنا لا أقصد حبًّا وهيامًا عذريًّا، إنما أقصد أنَّ القارئ والمتلقِّي عامَّة بفِطرته الإنسانيَّة يحبُّ مَن يحمل همَّه، ويَصدُقه القولَ ويحترمه، ويَسمع له، ويمدحه، ويعلِي قدرَه، ولا يتعالى أو يعجل عليه، ولا يبخس بضاعتَه، ولا يَصِمه بالجهلِ أو تدنِّي الوعي، وقلَّة البضاعة كما شرحنا في المقدمة سيئة الذِّكر. كما أنَّ المتلقِّي السَّوي لا يحبُّ الكاتِبَ الذي يَمدح ذاته كثيرًا، ويتفاخر عليه بقوله: أنا وأنا وأنا، وليس هناك مثلي أبدًا، ولقد اختاروني ورَجونِي وأحرجوني، ويذكِّره دومًا بعلوِّ مَنصبه، أو شهادته العلميَّة العالية، أو ندرة تخصُّصه أو ذكائه وعبقريَّته، وكذلك لا يحبُّ القارئ ولا يَقبل عطاءَ الكاتِب الذي لا يَقبل النَّقد المغايِر لرأيه، ويتحسَّس منه، ويعتبره معاداة وحربًا، ويشخصِن تعليقات القرَّاء، ويتوهَّم ويبالِغ في تحليلها، فيعزوها للعداوة وللحسَد والكراهية والتآمُر عليه من لدن المعلِّقين، ويشكِّك في انتماءاتِهم ووطنيَّتهم وعقائدهم، ويَطعُن في نيَّاتهم، ويبالِغ بعضُنا -من الكتَّاب- في السُّخرية وسوء الظنِّ والشخصنة، فيُعلنها على المَلأ صريحة قائلًا: أنا لا أردُّ أو أتفاعل مع المعلِّقين على كتاباتي ذوي الأسماء الوهميَّة والمستعارَة، وأصحاب اللغة غير السويَّة، والأخطاء الإملائيَّة المخجِلة؛ فليكشف الجبناء عن وجوههم ويبارزوني مواجهة، يا للعجب ويا للهول، هل القضيَّة مقال وفِكر وتعليق، أم هي حرب البَسوس، وداحس والغبراء؟ إنَّ المرض الذي وصفناه فيما تقدَّم بألمٍ، وشخَّصناه بمرارة -ليس حكرًا خاصًّا لنا نحن مَعشر الكتَّاب فحَسب، بل هو -مع الأسف- مُعدٍ «لبعض» الأصحَّاء والسليمين من القرَّاء والمعلِّقين الأفاضل، ونحن السبب في العدوى لهذا الجذام الفِكري، هيا فلنَشهد بعجب ودهشة كيف يَعمل بكفاءة قانون التجاذُب، فنحن نرى كلَّ يوم في الصحف والمنتديات ووسائلِ التواصل كيف تَنجذب الطاقة السلبيَّة والمدمِّرة من لدن بعض المعلِّقين إلى حرب أمثال هؤلاء الكتَّاب من بَني مِهنتنا، الذين لا يَرفعون إلَّا الضغط بفَخرهم وتعاليهم ووَهمِهم وسخفهم، فيا للعجب، فلقد عاب هؤلاء المعلِّقون صنيعَ أولئك الكتَّاب في أول أمرهم، ثمَّ سرعان ما شاركوهم فيما عابوهم، بل وفاقوهم فيه أحيانًا! إنَّ إصلاح حياة النَّاس وأُخراهم بالتأليف والكتابة، وعَرض الفِكر والعِلم، والتحليل والحوار غايةٌ نَبيلة، ولا يَجوز ولا يستوي عقلًا أو نقلًا التوصل لِمثل هذه الغايات النَّبيلة بوسائل وأساليب غير نبيلة، بعيدة عن جَمال الأدَب، ومَسلك الحِكمة، وأنوار الوحي، هدانا الله جميعا لأحسنها.
مشاركة :