أنت أيها المخاطب: علاقة إيروتيكية بين الكاتب والقارئ بقلم: محمد الحمامصي

  • 6/18/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

الباحث المصري خيري دومة يرى أن طبيعة الأنت قد تغيرت في السرد المعاصر، حيث كانت فيما مضى جزءًا من علاقة المصاحبة والزمالة والتشويق والحنو.العرب محمد الحمامصي [نُشر في 2017/06/18، العدد: 10667، ص(13)]بحث في صيغ الاتصال السردي بين الكاتب وقرائه أكد خيري دومة أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة القاهرة أنه سعى في كتابه “أنت: ضمير المخاطب في السرد العربي” ببساطة إلى الإمساك بمؤشرات لغوية واضحة ودالة في صيغ الاتصال السردي بين الكاتب وقرّائه، وبين الراوي وأبطاله، وبين الشخوص بعضهم البعض. وقال إن الكتاب وإن كان يستند إلى مرتكزات نظرية فإنه ينطلق في الأساس من تحليلات لنصوص وأنواع ممتدة على مدار تاريخ السرد العربي كله، بدءًا من أحاديث العرب وأخبارهم المنثورة فيما تركوه من كتب موسوعية، مرورًا بالمقامات والحكايات الشعبية وكتب التاريخ وكتب المتصوفة، وصولاً إلى لقائهم الخاص بأنواع السرد التي جاءتهم في العصر الحديث من الغرب. ورأى في كتابه الصادر عن الدار المصرية اللبنانية أخيرا أن ضمير المخاطب في الأدب، أو حتى في السرد، ليس ظاهرة جديدة، ولا ظاهرة خاصة بالأدب العربي؛ فقد ألفنا “الحديث” إلى القارئ وبضمير المخاطب في كل الثقافات الشفاهية التي تقوم على لقاء حيّ بين متكلّم ومستمعيه. وكان من الطبيعي أن تنهض البلاغة القديمة في كل الآداب على حضور المخاطَب ورغبة المتكلم في إقناعه بكل السبل. واتخذ هذا التفاعل بين المتكلم والمستمعين صورًا متعددة على مدار التاريخ، وجدت أبرز تجلِّ لها في نوعين من الأدب القديم على وجه الخصوص، هما “الشعر الغنائي” و”الخطابة”. وكذلك لم يكن السرد ببعيد طوال تاريخه، ومنذ الملاحم اليونانية، عن هذا التفاعل بين متكلم ومستمعين، فكثيرًا ما قطع الراوي/الشاعر سرد الحكاية، متجهًا بضمير المخاطب إلى المستمعين أحيانًا، وإلى إحدى شخصياته أحيانًا أخرى، وإلى العالم بأشيائه وأحيائه مرة ثالثة. وحين وصلنا إلى العصر الحديث، عصر الكتابة والاتصال عن بعد، لم يلتزم السرد -ولا الشعر طبعًا- بما تفرضه علاقة الكاتب/القارئ الجديدة هذه، وظل لعقود طويلة، محكومًا بتلك الرغبة العميقة في الحفاظ على العلاقة الأصلية الأقدم بين المتحدث ومستمعيه. وأشار دومة إلى أن هذه الرغبة قد عبرت عن نفسها في كل مراحل الأدب العربي الحديث واتجاهاته، بدءًا من التجارب الروائية الأولى، سواء تلك التي انبنت على الأدب الشعبي أو تلك التي انبنت على الموروث النثري الفصيح والتي وجدت شكلها النهائي في كتاب “حديث عيسى بن هشام” لمحمد المويلحي، ثم مرورًا بعد ذلك بما كتبه مصطفى لطفي المنفلوطي وطه حسين ورفاقه، من أعمال كانت في حقيقة أمرها “أحاديث” أكثر منها “قصصا”، وانتهاءً بكتابات يوسف إدريس الذي استخدم “فن الحديث” إلى القارئ بشكل أكثر مكرًا وخفاءً، بحيث وضعه في إطار موضوعي صلب ومشوِّق اقترن برؤية المدرسة الواقعية في خمسينات القرن العشرين وما تلاها، وبحيث اختفى ذكر القارئ/المخاطب في شكله المباشر، ونابت عنه كما رأينا مؤشرات أخرى غير مباشرة، ربما كانت أعمق أثرًا.ما معنى أن يختار كاتب ضمير المتكلم أو ضمير الغائب أو ضمير المخاطب ما لم يكن لهذه الوسائل البلاغية أو اللغوية علاقة بالمعنى والدلالة والرؤية؟ وأوضح أنه في كل هذه الحالات كان ضمير المخاطب يُستخدم بصور ودرجات ولأهداف مختلفة ويتوجه في الأساس إلى القارئ، وظل الأمر كذلك إلى أن تم اكتشاف تقنية سردية بالغة القسوة والضراوة، عرفت باسم “تيار الوعي”. وكانت تلك هي النقطة التي صعد عندها ضمير المخاطب في السرد، إذ أصبح من الممكن أن يخاطِب الراوي نفسَه، في مونولوج أوتوبيوغرافي مطوّل قد يستغرق النصَّ كله، قصة كان أو رواية. وأصبح ضمير المخاطب هذا يشير إلى الراوي المتكلم وهو منقسم على ذاته يكلّمها ويذكِّرها، كما يشير وفي اللحظة نفسها إلى القارئ الذي لا يستطيع أن يتفادى الاصطدام بهذا الضمير، إذ يتوجه إليه بالخطاب، فيفاجئه ويربكه. ومن هذا المونولوج الأوتوبيوغرافي نفسه اشتُـقَّت صيغ أخرى مربكة من ضمير المخاطب في السرد مثل الصيغة الطلبية التي تأخذ شكل أوامر ونواه ونصائح وإرشادات وتساؤلات، لا تدري مِمَّن ولا إلى من تتوجه، قد يتجه بها الراوي إلى نفسه أو إلى شخص آخر، هو في الحقيقة جزء من ذاته، يستحضره وكأنه يدلي إليه باعتراف أو يحكي له ما حدث أو يشركه في التجربة أو يتخذ منه ذريعة للتذكر أو ربما يوبخه ويسخر منه ويشتمه. وقال دومة إنه في هذه الحالة تتحول القصص إلى عالم مربك على حافة الحلم أو الجنون، لأنك لا تعلم مَن يتحدث إلى مَن في هذا العالم القصصي، أو -على الأقل- لأن شخصيات هذا العالم محمومة لا تكف عن حديث المحمومين إلى أنفسهم، ولكن أمامنا نحن القراء، وعلى مسمع منا، وبطريقة تكاد تمحو المسافة المستقرة نسبيًّا، بين الراوي والبطل والمروي عليه والقارئ الفعلي. وفي هذه الحالة أيضًا يتغير معنى ضمير المخاطب؛ فبعد أن كان جزءًا من حالة الشعر والمناجاة الغنائية التقليدية التي يتوقف عندها تقدُّم السرد ويحل التأمل والغناء والوصف بدلاً منه، أصبح جزءًا من حالة التشظي والسخرية والعبث والعدوان والقبح والفظاظة، وكلها خصائص اقترنت بما سُمِّي “ما بعد الحداثة”. وأضاف “من هذه الخصائص وغيرها، تشكَّل ما سمَّاه النقاد المعاصرون ‘السرد بضمير المخاطب’، وهو نوع من السرد يكشف عن أمور جديدة، أهمها استخدام ضمير المخاطب وسيلة للسرد، وسيلة لحكي القصص نفسها، وليس مجرد الاتصال مع القارئ أو الالتفات إليه، أو حتى مخاطبة الأشياء والمجردات، كما كان يحدث في صيغ المناجاة التقليدية. هكذا اتسعت المساحة التي يحتلّها السرد بضمير المخاطب على نحو لافت في العقود الأخيرة، بحيث أصبحت ‘الأنت’ جزءًا من القص، وليس مجرد ‘أنت’ اتصالية بين الكاتب والقارئ، وبحيث تجاوز كلام الراوي المناجيات والتساؤلات والأوامر، وغيرها من الصيغ الطلبية المعروفة الموجهة إلى هذا القارئ. أصبح كلام الراوي بضمير المخاطب تمثيليًّا أو تقريريًّا (خبريًّا وليس إنشائيًّا إذا استخدمنا لغة البلاغة الكلاسيكية)؛ فهو يحكي القصة ويرسم الشخوص ويحدد الأحداث ويعيِّن الزمان والمكان والظروف مستخدمًا ضمير المخاطب، تمامًا كما يفعل الراوي بضمير المتكلم أو بضمير الغائب، ولكن مع إضافة بعد جديد وهام يرتبط بحضور هذه ‘الأنت’. وحين يكون ضمير المخاطب شخصية داخل قصة فإنه لن يكون شخصية بالطريقة التي يكون بها ضمير الغائب أو ضمير المتكلم؛ لأن هناك علاقات محتملة ومربكة يتفرد بها ضمير المخاطب حين يستخدم ويثيرها لدى القارئ”."الأنت" جزءًا من القص ورأى دومة أن طبيعة “الأنت” قد تغيرت في السرد المعاصر؛ ولفت إلى أنه من الغريب أن “الأنت” التي كانت -هي نفسها- فيما مضى جزءًا من علاقة المصاحبة والزمالة والتشويق والحنو، أو حتى التعالي، التي تجمع المتكلم بالسامع، أو القارئ بالكاتب، قد أصبحت في الأدب المعاصر جزءًا من علاقة جديدة بينهما، علاقة قائمة على “التغريب” و”كسر الألفة”، إن لم نقل قائمة على “التهديد” و”الانتهاك” و”العدوان”، وكلها كلمات يستخدمها نقاد ما بعد الحداثة لوصف جوانب من هذه العلاقة، بل إنهم يقولون إن هذه العلاقة العدائية الظاهرة، قد تستخدم كاستراتيجية “إغرائية”. إن علاقة العدوانية هنا ربما تكون -شأن الشجار بين عاشقين- جزءًا مكملاً للعلاقة الإيروتيكية بين الكاتب والقارئ عبر النص، أي جزءًا من “لذة النص”. “العدوانية” و”الانتهاك” و”الاستجواب” و”الاتهام” و”الانتزاع″ هي -كما يقول برايان ماكهيل- صورٌ للعلاقة الجديدة بين الكاتب والقارئ، صور سالبة ربما، ولكنها أفضل من لاشيء، خصوصًا حين يكون البديل هو انعدام العلاقة تمامًا. وتساءل دومة: ما معنى أن يختار كاتب ضمير المتكلم أو ضمير الغائب أو ضمير المخاطب ما لم يكن لهذه الوسائل البلاغية أو اللغوية علاقة بالمعنى والدلالة والرؤية؟ وقال “بعض النقاد ومنذ عقود (واين بوث خصوصًا في كتابه الرائد “بلاغة السرد”) كان قد لاحظ هذا الاهتمام المتزايد بضمائر السرد ووجهة النظر والصوت.. إلخ، ونبهنا إلى أن هذا قد لا يعني أيّ شيء، وسخر من النقاد الذين ينصبّ عملهم على إحصاء المرات التي ترد فيها ‘الأنا’ في رواية ما. والواقع أن المسألة ليست مجرد استخدام ضمير بدلاً من ضمير آخر في حكي القصة، كما تصوَّر بوث ودارسون وآخرون. أبرز الدارسين الذين هوّنوا من شأن الموضوع وأقدمهم، كان واين بوث في كتابه الرائد ‘بلاغة السرد’؛ فبعد أن يقسم ضمائر السرد إلى قسمين كبيرين وأساسيين: متكلم وغائب، يضيف في الهامش قائلاً ‘لم يحدث أبدًا أن نجحت محاولات استخدام ضمير المخاطب نجاحًا باهرًا، بل إن من الغريب أن استخدام هذا الضمير لا يفضي إلى فارق حقيقي؛ فحين يُحكى لي في بداية أحد الكتب: ‘ها أنت تضع قدمك اليسرى.. تمر عبر الفتحة الضيقة.. عيناك فقط نصف مفتوحتين’ يكون هذا الوضع غير الطبيعي مزعجًا لبعض الوقت. ولكن عند قراءة رواية ‘التعديل’ لميشيل بوتور، التي جاءت فيها هذه السطور الافتتاحية، يعجب المرء لأنه سرعان ما يندمج في وهم القصة ‘الحاضرة’، ويكاد يتماهى مع ‘الأنت’، تمامًا كما يتماهى مع ‘الأنا’ أو ‘الهو’ في قصص أخرى!”، ولو كان الأمر كذلك فعلاً لما حظي هذا “الأسلوب” السردي بعناية أحد”. وأكد دومة أن أسلوب “السرد بضمير المخاطب” قد حظي في العقود الأربعة الأخيرة بعناية كثير من الدارسين، خصوصًا بعد صدور رواية “التعديل” للكاتب الفرنسي ميشيل بوتور عام 1957، وبعد أن استخدم هذا التكنيك في أماكن مختلفة من العالم وبلغات مختلفة (خوليو كورتاثار في كثير من قصصه القصيرة، وكارلوس فيونتيس في روايتيه ‘أورا’ و ‘موت أرتيميو كروث”، وجورج بير يك في روايته ‘النائم’، ونور الدين فرح في روايته ‘خرائط’، وهذه كلها أعمال ترجمت إلى العربية. أما ما لم يترجم فكثير ومن لغات مختلفة (انظر هنا الببليوغرافيا الشاملة التي أعدتها مونيكا فلوديرنيك حول السرد بضمير المخاطب، ونشرت في عدد خاص من مجلة ‘الأسلوب’ حول السرد بضمير المخاطب، صدر عام 1994”. يتتبع دومة صعود ضمير المخاطب بصوره المختلفة في كتاب من ستة فصول بلغة نقدية موضوعية وشيقة ومثيرة للخيال. كاتب من مصر

مشاركة :