أمير العمري* يمكن القول إنه على الرغم من التقدم الهائل الذي حدث خلال الثلاثين عاما الأخيرة في وسائل الاتصال وتكنولوجيا الصورة والعرض السينمائي، فقد تراجعت الثقافة السينمائية بشكل لافت للنظر. ورغم أننا دخلنا بكثافة عصر الرقمنة، أي أصبح من الممكن تصوير فيلم بواسطة الهواتف المحمولة (يسمونها الهواتف الذكية!)، وعمل المونتاج لها باستخدام جهاز الحاسوب الشخصي وعرضه من خلال جهاز عرض رقمي صغير في المنزل، أصبحت فكرة الذهاب إلى دور السينما جزءا من الماضي. لقد أصبح الحصول على الأفلام الجديدة ميسورا الآن بعد الانتشار الكبير للأسطوانات المدمجة، والأخرى الأكثر تقدما التي تستخدم تقنية الـ بلو راي- (الشعاع الأزرق)- عالية الجودة، والتي يمكن عبرها مشاهدة الأفلام في أنقى صورة ممكنة داخل المنازل على جهاز التلفزيون، بل ويمكن أيضا تحقيق المشاهدة التي تشبه العرض السينمائي لو توفرت لك شاشة عرض كبيرة تستقبل الإشارات الكهرومغناطيسية من أجهزة العرض الحديثة التي تعرض أسطوانات الـ بلو راي. كنا في الماضي نحلم بأن يصبح عندنا، نحن هواة السينما، مكتبة سينمائية تحتوي الكتب والمطبوعات المهمة وأفلامنا المفضلة أيضا، فقد كان الحصول على المعلومة يقتضي توفر أحدث الكتب والقواميس السينمائية التي كانت تصدر في الغرب بلغات أخرى. وفي حالة الحصول عليها، وقد كان أمرا صعبا ومكلفا، وكان يتعين تكديسها في مكتبة ضخمة، والحرص على تنظيف أرففها يوما بعد يوم من الأتربة التي تتراكم فوقها. اليوم، أصبحت المعلومات والمطبوعات متوفرة بسهولة على شبكة الإنترنت الدولية، ولم تعد مكتبات الأفلام تحتل مكانا في البيت، فقد أصبح تخزينها يتم على ذاكرة إلكترونية. وصار من الممكن تحميل الكثير من الأفلام الحديثة من شتى بلدان العالم عبر شبكة الإنترنت، سواء بطرق قانونية أم غير قانونية. العالم العربي بعد هذا كله.. هل ساهمت كل هذه الاختراعات والوسائل في اتساع رقعة الثقافة السينمائية في بلادنا العربية؟ في تصوري أن الثقافة السينمائية انخفضت كثيرا، في حين كان ينبغي أن تتوسع وتتعمق أكثر. والسبب أن فكرة السينما نفسها ضُربت في الصميم، وهي الفكرة التي تقوم على مبدأ المشاهدة الجماعية على شاشة كبيرة، فمشاهدة الأفلام على شاشة الحاسوب أو على شاشة التلفزيون أو اللوح (تاب) يختزل الفيلم والصورة، فالفيلم السينمائي يُصنع لكي يُشاهده الجمهور على شاشة كبيرة، والمقارنة بين عرضه السينمائي وعرضه على الحاسوب كالمقارنة بين متعة التأمل والاستمتاع بمقاييس الصورة وأبعادها وعمقها، وبين الفحص السريع للمادة المصورة، بين لوحة أصلية، وصورة ضوئية ملتقطة لها. لقد ظهر الفن السينمائي أصلا كتطور من المسرح، لكنه حافظ على علاقة العرض بالجمهور، أي على طقس المشاهدة الجماعية، والتفاعل الجماعي مع الفيلم المعروض، بينما أصبحت مشاهدة الأفلام اليوم تتم بشكل انفرادي، أي كلٌ على حدة، فأصبح الفرد يجلس ويغلق عليه باب غرفته ليشاهد فيلما على شاشة جهاز الحاسوب، أو حتى عبر شاشة التلفزيون مع الأسرة والأولاد وقت تناول الطعام والثرثرة والرد على الهاتف.. إلخ. لقد لعبت نوادي السينما التي انتشرت في العالم العربي، في الستينات والسبعينات، دورا رائدا في دعم الثقافة السينمائية، ثقافة الفيلم وثقافة الصورة وثقافة المشاهدة وتقاليد المشاهدة، وكانت المناقشات التي تعقب عروض الأفلام جزءا أساسيا من ثقافة السينما. وتعد تلك المناقشات ركنا أساسيا في عملية المتعة الثقافية التي تنتج من مشاهدة الفيلم، خاصة تلك الأفلام الفنية التي كانت تُنتقى بدقة من بين آلاف الأفلام التي تظهر في العالم. اليوم، تقلصت وتضاءلت نوادي السينما التي بلغ عدد أعضائها في تونس وحدها في السبعينيات أكثر من ثلاثين ألف عضو، والأمر كذلك في المغرب التي عرفت في الماضي نشاطا كبيرا للأندية السينمائية كان وراء تأهيل الكثير من السينمائيين والنقاد، واليوم لم يعد هناك سوى عدد محدود من الأندية التي لاتزال تمارس نشاطها وسط معوقات كثيرة. أما في مصر، فقد اختفت تلك الأندية من الساحة تماما، بينما أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي اليوم بديلا عن نوادي السينما، ولكن على نحو عشوائي يضر أكثر مما يفيد، فأصبحت الغالبية العظمى من الشباب يكتبون انطباعاتهم السطحية السريعة عن الأفلام دون أن تتاح لهم الفرصة لتعميق رؤيتهم للفيلم. ثقافة سطحية وأصبح إصدار الأحكام السريعة هو الهدف من الكتابة عن الفيلم وليس تحليله، تأثرا بطريقة منح النجوم كوسيلة صحفية استهلاكية سريعة للحكم على الأفلام، بدلا من مناقشة الفيلم مع نقاد متخصصين، أو القراءة عنه في المطبوعات السينمائية المتخصصة كما كان يحدث في الماضي. في الوقت نفسه، أصبح الإعلام التلفزيوني يتبنى نمطا واحدا من البرامج التي تهتم بالسينما، وهو نمط يهتم بالسينما الأميركية فقط، وبتيار واحد من الأفلام التجارية التي تأتي من هوليود، مع إغفال التجارب المستقلة والجديدة التي تنتج خارج هوليود. وتتفق هذه البرامج في إغفال قيمة النقد، والإعلاء من أهمية النجوم، وتشترك جميعها في الاعتماد على فتيات حسناوات لتقديم تلك البرامج، يتشبهن بنجوم السينما ويتفقن جميعهن، في الحديث أمام الكاميرا بدلال، واستعراض زينتهن وملابسهن أمام المشاهدين، تتسابقن على إجراء حوارات سريعة مع نجوم هوليود في هذا المهرجان أو ذاك. لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن معظم ما تعرضه البرامج التلفزيونية من لقاءات مع النجوم هي مقابلات تنجزها شركات التسويق والدعاية الأميركية، وترسلها مجانا لكل من يطلبها، وتقوم كل قناة بترجمة حديث النجم، وإدخال لقطات لمقدمة البرنامج في وضع يوهم المشاهدين بأنها تجلس قبالته توجه له الأسئلة، وبأن المقابلة بالتالي أجريت خصيصا لصالح القناة! وقد أصبح يكفي أن تظهر المقدمة الدعائية لفيلم من الأفلام الأجنبية لكي يهرع كثير من شباب الإنترنت إلى الاحتفاء بالفيلم والإعلاء من شأنه، حتى قبل أن يشاهدونه، وهم يعتمدون في معظم الأحيان على اسم مخرجه، أو على أسماء الممثلين المشاركين فيه، خاصة لو كانوا من مشاهير النجوم! من النظرة السطحية، زادت وسائل المعرفة السينمائية، وفي العمق، تضاءلت الثقافة السينمائية. وهو وضع مؤسف دون شك. _______________ * كاتب وناقد سينمائي
مشاركة :