هناك سؤال ملح جدا، أثاره إحراق شاب شهادته الجامعية قبل أيام.. هل من واجب الدولة توظيف كل خريجيها، لأننا ومع ظروفنا الاقتصادية والتباطؤ المتوقع، ستصبح هذه الأسئلة وغيرها من المطالبات الاجتماعية أكثر إلحاحا، والاستجابة لها معناها غرق القطاع العام وتكبيله تماما في الباب الأول من الميزانية، كما حدث في دول تضخم فيها قطاعها العام حتى تحول إلى ثقب كبير التهم أموالها وربما يلتهما يوما ما. العلاقة بين الحكومة ومواطنيها أصابها طوال عقود حالة من الالتباس أصابت العقد الاجتماعي بسبب «أبوية» الدولة، فتوقع البعض أن ما تمنحه الدولة من باب الرعاية والرفاهية هو واجب عليها، بينما هو توظيف موقت لحالة الرخاء المادي التي مرت بها البلاد، تنتهي بانتهائه وتعود إذا عاد الرخاء. في ظني أننا نعيش اليوم في مساحة رمادية بين المسؤوليات والواجبات، اختلطت فيها المفاهيم، لكن الإيجابي هو حالة النضج وثقافة المسؤولية التي بدأت في الانتشار داخل المملكة، خاصة مع القناعة بأفول دولة الرفاه، على حساب مفهوم «أن نأكل مما تنتج أيدينا». من حسن الحظ أن الدستور السعودي، الذي يطلق عليه «نظام الحكم» ، صاغ العلاقة بين الدولة ومواطنيها بشكل رائع، وهو يفصل في كثير من الأسئلة والأحداث التي يجب البناء عليها وترسيخا، لأنها الوحيدة القادرة على منع الانتهازيين والخونة و«الحكوكيين»، من تأجيج الشارع ضد الوطن. تقول المادة 28 في النظام الأساسي للحكم.. تيسر الدولة مجالات العمل لكل قادر عليه، وتسن الأنظمة التي تحمي العامل وصاحب العمل. المادة 30 توفر الدولة التعليم العام، وتلتزم بمكافحة الأمية. المادة 31 تعنى الدولة بالصحة العامة وتوفر الرعاية الصحية لكل مواطن. ولفهم أعمق لمصطلح المواطنة، والمسؤوليات والواجبات المشتركة بين الفرد ووطنه وجماعته، نمر على نظرية جان جاك روسو «للعقد الاجتماعي»، التي تقول: المواطن له حقوق إنسانية يجب أن تقدم إليه، وهو في نفس الوقت يحمل مجموعة من المسؤوليات الاجتماعية التي يلزم عليه تأديتها. فالمواطنة ترتبط عادة بحق العمل والإقامة في دولة ما أو هي الانتماء إلى مجتمع واحد يضمه بشكل عام رابط اجتماعي وسياسي وثقافي موحد في دولة معينة. وينبثق عن مصطلح المواطنة مصطلح «المواطن الفعال» وهو الفرد الذي يقوم بالمشاركة في رفع مستوى مجتمعه الحضاري عن طريق العمل الرسمي الذي ينتمي إليه أو العمل التطوعي. أذن الدولة تضمن حق الحياة والعمل والأمن والصحة والتعليم وتنشر الوعي، وتقيم العدل، وتحافظ على كيان الدولة، وتعمل لضمان تحقيق أفضل الإيرادات المالية التي تسير بها حياة شعبها. هي تفتح المستشفيات لكنها لن تجلب المرضى من البيوت بالقوة الجبرية، تبني المدارس إلا أنها لن تجبر الطلاب ليصبحوا كلهم متفوقين، تصنع الاقتصاد والتجارة ولا يمكن لها أن تحول كل الناس لأغنياء، كذلك من واجباها أن تولد وتيسر الفرص الوظيفية العادلة أمام الجميع - كما تقول المادة 28 من نظام الحكم -، لكنها ليست ملزمة بتوظيف البلداء والمهملين وأصحاب الشهادات المتدنية. نحن أمام تحديات صعبة، تستلزم أن يصطف الجميع لمواجهتها، تبدأ من القناعة بانتهاء عصر النفط، ودخولنا في عصر آخر، مختلف تماما عما سبقه، يستوجب القفز على كل الممانعات. فالمال السهل الذي كان يتدفق الى خزائننا نهاية كل مساء لم يعد كما كان، وربما نفقده ذات يوم، وبرنامج التحول الوطني الذي سيعلن خلال الأسابيع القادمة، يبدو أنه طوق النجاة الذي سيساعد الاقتصاد في التشافي من إدمان البترول الذي أصابه منذ ثمانين عاما.
مشاركة :