تقوم فكرة الهبة على خلق توجه شعبي استهلاكي أو سياسي غير موجود وبلا جذور، فيتم التسويق له بطريقة تقوم على العاطفة واللعب على وتر المشاعر لإيجاد بروباغندا معينة تقود الذوق العام باتجاه معين بعيد عما هو متداول، وبحسب قدرات المسوّقين وحاجة المتسوقين، وبهذا الصدد يروى أن تاجراً أحضر كمية من (الخُمر) السوداء لبيعها في المدينة فلم يوفق بسبب لونها غير المرغوب، ولأنه تاجر ويعرف من أين تؤكل كتف المواطن، فقد لجأ إلى شاعر ليقول بها شعراً، فقال الشاعر أبياته الشهيرة التي مطلعها «قل للمليحة في الخمار الأسود»، ليبيع التاجر ما لديه من الخمر السود كاملة. ولأن الهبّة عادة ما تدخل ضمن الكماليات لا الأساسيات، فإن الشعوب تهبّ دائماً بنفس اتجاه الميول والاهتمامات الفردية السائدة، ولذلك فإن بالإمكان تنشيط عدة هبّات في الفترة نفسها باعتبار أن المجتمع الواحد ينقسم إلى عدة فئات تتفاوت في الأذواق والميول، والشاطر الذي يصنع الهبة ليستفيد منها وعبر الفئة التي استهدفها. وفي السياسة تتعدد الهبات وتتنوع، وأذكر أني حضرت ندوة لأحد المرشحين وقد وزع (ربعه) في مختلف أرجاء القاعة ليصفقوا له بسبب وبدون سبب، ثم يلقوا أسئلتهم المعدة سلفاً ليلقي -هو- الإجابات الساخنة المعدة سابقاً أيضاً وكأن الأمر وحي اللحظة، فيصفق (الربع) ويتبعهم الجمهور المخدوع بالتصفيق. ولأن الدنيا تتطور فقد تغيرت الهبات وتطورت، فأصبح الذباب الإلكتروني والذباب المضاد رفيقا للنائب، فتراه يغرد (ويرتوت) لنفسه ويدافع بعض ذبابه عنه في مواجهة ذباب المنافسين، ولو لم يكن هناك (دبق) لما احتاج الطرفان إلى ذباب. ورغم أن تسهيل الأمور وتيسير المرور من الحسنات التي يفترض أن تتحلى بها حفلات استقبال النواب فإن الملاحظ أن هبة رمضان الحالي تعسير الأمور وصناعة (الزحمة)، فقد نغض الطرف عن زحام الناس في استقبال نائب مشهور أو مخضرم، لكن غير المفهوم أن ترى الزحام الشديد في مقر نائب لم يسمع به أحد أو لم يقل (يا هادي) بعد، أو لدى مغمور بالكاد ينوي دخول معركة الانتخابات، وقد سرت الإشاعات أن الهبة الحالية تقوم على تأجير الضيوف، فهذه الوجوه لا تشبه تلك الوجوه، وأعمار الجزء الأكبر من المباركين من ذوي الشباب واليفاعة الذين لا يتوقع أن تكون هذه الاستقبالات (جوّهم) ولأن حركة وسط القاعات وعلى السلالم أقرب إلى التوقف أو البطيء الشديد الذي لا يدل على أنهم جاؤوا بنية السلام ولو كانوا كذلك لتحركوا وسلموا وغادروا. وغالباً ما أستغرب أن يقف الإنسان ساعة أو أكثر من أجل السلام على (نجم الحفل) حتى لو كان هذا النجم أخا أو ابن عم أو صديقا مقربا، إذ إن مثل هذا السلام لن يؤدي إلى أي أمر إيجابي، فلا الذي سلم وجد الوقت ليهمس بجملتين أو ثلاث تخلد في ذاكرة المسلم عليه، ولا المسلم عليه كان في حالة تركيز ليحفظ الوجوه والأسماء، ولولا أن مثل هذه الاستقبالات قد تخدع البسطاء، وتعكس صوراً غير حقيقية لشعبية (راعي الغبقة)، لكانت تكلفة مثل هذه الاستقبالات المالية والمعنوية بلا مردود، لكن صناعة الهبّة هي السائدة حالياً، والنخب مثلها مثل باقي الناس أسرى للهبات لا صنّاعها.
مشاركة :