حصل المخرج السينمائي الفرنسي غاسبر نوي من خلال مجموعة من الأعمال المثيرة للجدل -بدءا بـ”أي ستاند ألون” وصولا إلى “أريفيرسابل”- على سمعة في الأوساط السينمائية بنهجه الصادم واستخدامه المكثف للعنف والجنس. لكن يبدو أن نوي هدأ، واتجه نحو المواضيع الدقيقة وشديدة الواقعية، حيث يتسم فيلمه الأخير “فورتكس” بأنه واحد من بين الأفلام الأكثر خصوصية والتي أُنتجت هذا العام. وعاد المخرج الفرنسي الأرجنتيني الأصل، المثير للجدل، متأثرا بوفاة العديد من أصدقائه المقربين، ومدفوعا بتجربة اقترابه شخصيا من الموت، إثر نزيف دماغي أصيب به عام 2019 “ليفاجئ الجميع بهذا الفيلم الاستثنائي، الذي يُعد أحد أفضل أعماله التي جاءت أشبه بحكاية من الرعب الغامض والرهبة المجهولة، من حيث الفكرة والتنفيذ”، بحسب زان بروكس محرر السينما في صحيفة الغارديان البريطانية. ولم تعد الشيخوخة فكرة نادرة في السينما حيث صدر في عام 2020 فيلم “الأب” -لفلوريان زيلير وبطولة أنتوني هوبكنز- الذي حصل على عدد من الجوائز وكان موضع الكثير من النقاش مؤخرا. لكن هذه هي المرة الأولى التي يقدم فيها نوي حياة أشخاص في الثمانين من العمر، بالكثير من الحميمية والتدقيق، وكانت والدته مصدر إلهامه لإخراج الفيلم حيث كانت تعاني من مرض الزهايمر. وعمل المخرج مع ثنائي قوي استثنائي، حيث يدور موضوع الفيلم حول زوجين مسنّين يعيشان في شقة في باريس مليئة بالكتب والذكريات. الرجل مؤرخ كما أنه باحث في مجال الأفلام ويكتب كتابا عن الصلات بين السينما والأحلام. والمرأة طبيبة نفسية متقاعدة تعاني من الزهايمر ومع ذلك تستمر في كتابة الوصفات الطبية، وتُبقي المكان حولها مليئا بالأدوية. ويلعب دور الزوج مخرج أفلام الرعب الإيطالي المخضرم داريو أرجينتو (80 عاما)، بينما تؤدي دور الزوجة الممثلة الفرنسية فرانسواز ليبرون، البالغة من العمر 77 عاما. الفيلم يوفر نظرة ثاقبة وواقعية تماما، لما سيواجهه العديد من البشر وعاشه الكثير من الناس مع أجدادهم ووالديهم ومن ناحية أخرى يلعب أليكس لوتس -الذي ظهر في فيلم “جاي”- دور ابن الثنائي الوحيد، وهو مدمن على المخدرات. ويستكشف الفيلم التقدم في العمر وما الذي يعنيه فقدان الذاكرة شيئا فشيئا، ويجد المشاهد نفسه أمام “شخصين كانا يحبان بعضهما بعضا، ويهتمان برفاهية بعضهما البعض، ولكن مع تقدمهما في السن يُصبحان كزوجين من الشامبانزي يتقاسمان القفص نفسه في حديقة الحيوانات، ويتقافز كل منهما بلا هدف فوق الجدران”، وفق بروكس. واستخدم نوي تقنية الشاشة المنقسمة طوال الفيلم، ما يمكننا من مشاهدة شخصيتين في مكانين مختلفين في نفس الوقت. وهذا يظهر كيف يعاني شخصان من عملية التقدم في العمر وإمكانية أن يصبح المرض خارجا عن السيطرة. فعندما تستيقظ الزوجة النائمة بجانب زوجها تنقسم الشاشة تدريجيا إلى قسمين؛ يظهر في القسم الأيمن منها الزوج وهو مستمر في النوم، بينما نتابع على القسم الأيسر ليبرون وهي تنهض وتذهب إلى المطبخ لإعداد القهوة. لتبدأ من هذه اللحظة تجارب الزوجين في التباعد والتداخل. وبينما تتجول ليبرون في المكان بحثا عن شيء نسيته يجعلك انقسام الشاشة لا تعرف تماما المكان الذي تبحث فيه، خاصة أنك لا تريد أن تغمض عينيك عن أي جانب من جانبي الصورة. كما بدا كل شيء في الصورة قديما، ليس الأفراد فحسب بل أيضا الحي والمباني والكتب والآلة الكاتبة والأوراق، وغير ذلك من تفاصيل المنزل التي تجعل كاميرات نوي المشاهد يقضي الكثير من الوقت في النظر إليها واكتشاف إشاراتها، مصرا على عدم إشاحة نظره عن أي جزء من أجزاء الشاشة لتتبع حركات بطلي الفيلم. وتظل الأحداث والمشاهد في الفيلم متأرجحة بين الغضب والاستياء والارتباك والخوف، وبكاء ليبرون من حيرتها وعدم قدرتها على التواصل في الاستمرار، حتى يمد زوجها أرجينتو يده عبر قسميْ الشاشة ليلمس يد زوجته، في لحظة من الارتباط والحنان تضيف لمسة بشرية طاغية حيث ركز الفيلم على رهاب الأماكن المغلقة، مختبرا الجمهور في قدرته على تحمل الشحنة العاطفية المكثفة. ولا يخلو الفيلم -الذي يصل وقت عرضه إلى ساعتين ونصف الساعة- من لحظات حساسة نكأت الآلاف من الجراح التي تجعل العلاقات الطويلة تتلاشى على مر السنين، حتى مع بقاء الحب؛ فالأم والأب يريدان الأفضل لبعضهما البعض، وهما محبوبان من ابنهما وحفيدهما. لكن الفيلم يسعى لاكتشاف أن الحب قد يكون حصنا ضعيفا جدا في مواجهة اعتلال الصحة وبداية الرحلة نحو الموت. ويوفر الفيلم نظرة ثاقبة وواقعية تماما، لما سيواجهه العديد من البشر وربما عاشه الكثير من الناس مع أجدادهم ووالديهم، وفي يوم من الأيام ستتعين علينا مواجهة أمراض الشيخوخة إذا عشنا عمرا طويلا، كما يقول تود مكارثي الذي يوصي بمشاهدة الفيلم، لأنه من “المؤكد أنك لم تر شيئا مثله من قبل”.
مشاركة :