لم يحظَ موضوع أثر النزاعات المسلحة والحروب في النساء الأهمية المطلوبة والكافية على المستوى العالمي. وعلى الرغم من التطوّر الذي حصل في العقود الستة ونيّف الماضية، لكنه لا يزال محدوداً، فضلاً عن عدم الالتزام بالمعايير والاتفاقيات الدولية التي تم التوصل إليها لحماية المرأة، ومعالجة الآثار الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والصحية والنفسية الواقعة عليها بسبب الحروب والنزاعات المسلحة. لمّا كانت الحروب تبدأ في عقول الناس، ففي عقول الناس يجب أن تبنى حصون السلام، كما ورد في دستور منظمة اليونيسكو. وإذا كانت الحروب والنزاعات المسلحة ظاهرة عانتها البشرية منذ بدء الخليقة، وسعت الأديان والفلسفات على مرّ العصور إلى إفراد القواعد وتقنين الشرائع وإصدار القوانين واللوائح والأنظمة، للتخفيف من آثارها والحدّ من غلوائها، فإن وقع هذه الظاهرة على النساء كان كبيراً، وهو الأمر الذي أخذ يشغل اهتمام المعنيين، لاسيّما من المُنتظم الدولي، بسبب المعاناة الفائقة والمتعاظمة للنساء جرّاء الحروب والنزاعات المسلّحة، وما أصابهن من أذى وغبن وإجحاف ودمار مادي ومعنوي وعلى جميع الصُعد. وإذا كانت المرأة على الصعيد الكوني أكثر عرضة للأذى من جرّاء اندلاع الحروب والنزاعات المسلحة، فإنها في منطقتنا العربية كانت الأكثر ضرراً وفداحة، حيث شهدت أعمال عنف وإرهاب وعدوان وحروب وحصار ونزاعات مسلحة داخلية وخارجية، ليس لها مثيل، ولم تتوقّف عمليات الاستلاب المادي والمعنوي بحق النساء، بل إنها أخذت بالتزايد، الأمر الذي ينذر بأوخم العواقب على مستقبل مجتمعاتنا ودولنا. وقد تفاقمت نتائج الحروب والنزاعات خلال العقود الأربعة الماضية، إذا اعتبرنا أن المأساة الفلسطينية مستمرة منذ قيام إسرائيل في العام 1948، سواء في الحرب الأهلية اللبنانية أو الحرب العراقية - الإيرانية أو غزو الكويت وحرب قوات التحالف ضد العراق واحتلاله العام 2003 بعد حصار دولي طويل الأمد، وكذلك الحرب الأهلية في الجزائر والنزاعات المسلحة في السودان وحروب اليمن بما فيها ما بعد ما سمّي بالربيع العربي، إضافة إلى ليبيا ومروراً بسوريا واستمرارها في العراق، مع معاناة خاصة لنساء البلدين بسبب هيمنة تنظيم داعش الإرهابي على مناطق شاسعة منهما. وإذا كانت المرأة وقت السلم مهضومة الحقوق، فما بالك بأوقات الحرب والنزاعات المسلحة، فستكون معاناتها كبيرة ومزدوجة ومركّبة وشاملة، فالحرب بطبيعتها في تناقض مع الإنسانية، وعلى الرغم من أن الإنسان هو من ابتدعها فقد راح ضحيتها، ولاسيما من النساء. وخلال الحروب تتعرض المرأة إلى العنف والجريمة بدرجة أكبر منها وقت السلم، خصوصاً بانفلات النظام أحياناً وغياب أو ضعف سلطة الدولة، ليس هذا فحسب، بل إن الفترات التي تعقب الحروب تشهد أيضاً عمليات انتقام تطال المرأة بشكل خاص، فضلاً عن عدم تلبية احتياجاتها الضرورية من الإغاثة والمساعدات الإنسانية. وتساهم الحروب والنزاعات المسلحة في ارتفاع معدّلات الفقر وهو ما ينعكس على النساء أكثر من غيرهن، بسبب ذهاب الزوج أو الشريك إلى ساحة الحرب أو فقدانه أو قتله أو أسره أو إصابته، وغالباً ما تقوم المرأة بإشغال مكانه ليس على صعيد العمل فحسب، بل تمارس دور الأب والأم في العائلة، إضافة إلى أعباء العمل والضغوط النفسية. ويمكن إدراج ما تتعرض له المرأة من أفعال ترتقي إلى توصيفها بالجرائم ضد الإنسانية، مثل القتل العمد والإبادة والاستعباد والتهجير القسري والتعذيب والاغتصاب والإرغام على ممارسة الدعارة والحمل القسري والتعقيم القسري أو أي شكل من أشكال العنف الجنسي. ويعتبر مؤتمر بكين الذي انعقد قبل ما يزيد على 20 عاماً (4-15 سبتمبر/ أيلول 1995) من أكثر المؤتمرات الدولية شهرة وأهمية بخصوص المرأة، وجاء انعقاده بعد تطور دولي بشأن حقوق المرأة، وخصوصاً باتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لعام 1979. وإذا كان مؤتمر بكين ثمرة لجهد طويل الأمد ونضال دؤوب من جانب المرأة ودفاعها عن حقوقها بدعم القوى المؤمنة بمبدأ المساواة، فإن ما تبعه كان استكمالاً وتطويراً لاسيّما مؤتمر بكين+ 5 ومؤتمر بكين+10، حيث حظيت المشكلات التي تواجهها المرأة في حالات الحروب والنزاعات المسلحة باهتمام خاص، وهو ما انعكس على الأمم المتحدة، سواء مجلس الأمن أو الجمعية العامة أو لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. وتعتبر النساء والأطفال أهدافاً سهلة في الحروب والنزاعات المسلحة، وهم يشكّلون غالبية الضحايا، سواءً من القتلى أو الجرحى أو اللاجئين أو النازحين أو المشردين في العالم. وتضطر النساء للعمل لسدّ الثغرات التي يتركها الرجال، إضافة إلى تربية الأطفال، وكلّما امتدت مدة الحرب، زادت الضغوط الاجتماعية والأعراض الناجمة عنها، والآثار الصحية والنفسية، خصوصاً بتغيّر الأدوار التقليدية للنساء وشحّ فرص الزواج وازدياد نسبة العنوسة والترمّل وغيرها. وبتأثير من انعقاد مؤتمر بكين صدر قرار من مجلس الأمن بالإجماع برقم 1325 العام 2000. وهو قرار خاص ب المرأة والسلام والأمن ويعتبر خطوة مهمة على صعيد مشاركة المرأة على قدم المساواة مع الرجل من أجل إحلال السلام والأمن، سواءً على صعيد صنع القرار أو مشاركتها في المؤسسات الوطنية والإقليمية والدولية وفي آليات منع النزاع ومفاوضات السلام وعمليات حفظ السلام، وكذلك بتمثيلها للأمين العام للأمم المتحدة. وأكّد القرار منظومة حماية المرأة من العنف بجميع أشكاله وتعزيز حقوقها وتطبيق أعمال المساءلة الضرورية. واستكمالاً لذلك، صدر عن مجلس الأمن قرار آخر في 5 (أكتوبر/ تشرين ألأول) العام 2009، وحمل الرقم 1889 بهدف تعزيز وتطبيق ومراقبة تنفيذ القرار 1325 والقرار 1820 لعام 2008 الذي ربط العنف الجنسي بقضايا الحرب والنزاعات المسلحة، وقد ركّز القرار 1889على مشاركة المرأة خلال مراحل ما بعد النزاع وإعادة البناء. جدير بالذكر أن اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، أوجبت على الدول الموقّعة عليها تعديل قوانينها لمعاقبة مرتكبي جرائم الحرب، لكن الدول لم تلتزم جميعها وعلى القدر ذاته بهذه الاتفاقيات. وإذا كان العالم يحتفل باليوم العالمي ضد العنف الواقع على المرأة، فإنه حتى وقت قريب لم تدرج مسألة العنف الجنسي ضد النساء باعتبارها من جرائم الحرب، بما فيها الاغتصاب، ولم تقض قرارات محاكم نورنمبرغ ضد مجرمي الحرب النازيين ومحاكم طوكيو العسكرية ضد العسكريين اليابانيين بتجريم المرتكبين بذلك، وتم الاكتفاء باعتبارها من المخالفات الجسيمة لاحقاً لاتفاقيات جنيف الأربعة. وذهبت المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا العام 1994 لاعتباره جريمة ضد الإنسانية وحتى ما حصل في راوندا من أعمال اغتصاب وعنف جنسي لم يصل إلى اعتباره جريمة ضد الإنسانية، سوى في العام 1997. إن قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وقوانين حقوق الإنسان واتفاقيات اللاجئين والاتفاقيات الدولية بشأن حقوق المرأة ومنع التمييز ضدها والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، جميعها تعالج احتياجات النساء في زمن السلم، إضافة إلى زمن الحرب والنزاع المسلح، لكن التحدي الكبير الذي تواجهه هذه المنظومة التشريعية، هو في كيفية امتثال العالم لهذه القواعد الناظمة لحقوق النساء، الأمر الذي يحتاج إلى تحديد مسؤولية الدول في وضع نهاية للإفلات من العقاب ومقاضاة المسؤولين عن أعمال الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان، خصوصاً فيما يتعلق بما تتعرض له النساء من أشكال مختلفة من العنف، والتأكيد على ضرورة استثناء تلك الجرائم من أحكام العفو، علماً بأن القرار 1325 أكّد استعداد مجلس الأمن على اتخاذ التدابير بموجب المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة (الخاصة باتخاذ عقوبات رادعة من أدناها حتى أرقاها بما فيها استخدام القوة المسلحة) لمنع حدوث الارتكابات، وللنّظر في الآثار المحتملة لتلك التدابير في السكان المدنيين، مع مراعاة الاحتياجات الخاصة للمرأة والفتاة وذلك للنظر في منح الاستثناءات المناسبة. ولمواصلة ذلك تبنّى مجلس الأمن قراراً بتاريخ 18 أكتوبر /تشرين الأول 2013 برقم 2122، أدرج فيه المرأة بشكل كامل في محادثات السلام والعدالة الانتقالية، وذلك بهدف إزالة العقبات أمام مشاركة المرأة واستثمار فضاءات جديدة من طرفها، لاسيّما فيما يتعلق بالمساءلة وكشف الحقيقة وتعويض الضحايا وجبر الضرر وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية. وتزداد أهمية مثل هذا الموضوع في الوقت الحاضر بسبب أعمال الإرهاب والعنف سواء من جانب تنظيمات داعش وأخواتها أو بسبب تفشي ظاهرة العنف ضد النساء والأطفال وخصوصاً في النزاعات المسلحة، الأمر الذي يحتاج بمناسبة اليوم العالمي للعنف ضد المرأة إلى جردة حساب ووقفة للمراجعة وانطلاقة جديدة. drhussainshaban21@gmail.com
مشاركة :