الشاعرة نبيلــة زباري تحت المطر تسعدها وتحزنها موسـيقاه!

  • 5/7/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ترى أي عوالم تلك التي تصاحب زخات المطر؟ هل هي عوالم يتشابك معها الوجد وهمس الشجون وسرمدية المواقف؟ هل يمكن أن نتخطى هذه الهواجس في رواق فكري يتجاوز المألوف الذي تتركه تلك الزخات على القلوب والعقول لتستقبل طقوس المطر بكل اختلافه وتناقضاته بذكرياته ومخزونه بجماله وأمنياته؟ مطر.. مطر.. أي كلمة هذه التي تفصل بين حياتين الخصب والنماء والدمار؟ أي حزن وأي فرح يحاكي هذه اللفظة.. قطرات المطر ويجسد دلالاتها...؟ أي تداعيات منبثقة من همسات هذا الرذاذ الذي يجمع بين عالمين مختلفين عالم الحزن وعالم الفرح..؟ ترى ما الذي يلوح في الأفق؟ ضباب ورعد وبرق أم ولادة حياة وحرية؟ هل هي لحظة زمن كحال أية لحظة أم هي تقنية جمالية قادرة على أن تثير حراكا إيحائيا متعلقا بالنسق الشعري بموسيقاها الخفية؟؟ هواجس متباينة ربما راودت شاعرتنا الدكتورة نبيلة زباري وهي تردد: يُسعِدني المطر..! يُحزِنُني المطر..! إيقاع داخلي وتدفق في الخيال وسياقات متباينة وقراءات وتأويلات قابلة للقبول والرفض.. نحن باختصار أمام لوحة فنية ماتعة تبث إكسير الحياة بأساليب متنوعة. تلك هي لحظة السعادة التي تتساوى مع لحظة الحزن، لحظة سقوط المطر الذي يحمل معه مشاعر متعددة تجمع بين الألم والفرح. فرحة طفل ونشوة امرأة وابتسامة كهل أتعبته الحياة وتقلبات الزمن. ما أروع الجمع بين المتناقضين، لحظة الحزن والألم الذي يتزامن مع سقوط زخات المطر كما وجدناها مجسدة لدى شاعرتنا الرائعة، ترى ماذا يمثل المطر لدى الشعراء؟ إنه حزن الصياد لضياع صيده وانحسار الأسماك بعيدا وسط التيار.. حزن الفقير الذي يفتقر إلى العيش تحت سقف آمن يحتمي به.. حزن الأطفال المشردين الذين يعيشون في بقعة غريبة يخترقها المطر من كل الجهات وهم يجلسون وسط هذه البقعة بلا روح ولا هوية! إنها لحظة حزن تلك الشوارع القديمة حينما يسقط عليها المطر وتتحول إلى مزاريب جدارية بلا ملامح.. فلا نسمع منها إلا الأنين والأوجاع في انتظار انقشاع الغيوم وبريق الشمس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه! ترى هل هذا هو الذي جعل شاعرتنا تتأرجح بين النقيضين: الحزن والسعادة؟ هل يا ترى تحمل هذه المقدمة آلية تهشيم زمنية الصورة المألوفة رغم انسيابيتها، لتذكرنا بأننا مازلنا نعيش زمن المتناقضات دون فرضيات جائرة؟ لا شك أن وجود مثل هذه الثيمات التعاكسية تثير لدينا مدلولات جدلية وأطرا متغيرة لتتواجه بجرأة من خلال الرؤى التحويلية لهذه المشاعر المؤتلفة حينا والمختلفة حينا آخر.. وتتشابك كل هذه الصور لتعبر عن الذات حين سقوط المطر: مثل حبات لؤلؤ تتناثر.. تتناثر/‏ على نافذتي/‏ على وجهي/‏ على أحلامي…/‏ على أذرع الخزامى والأغصان/‏ تتناثــر/‏ تغسل ألمَ المزون... وتتحقق السعادة في هذا المقطع مع نزول هذه الزخات وليس أدل على ذلك من تشبيه حبات المطر بحبات اللؤلؤ الجميل البراق والباهظ الثمن. ومن خلال تلك الصورة التشبيهية تدخل الشاعرة في صميم الأحاسيس وتجسد أسمى المشاعر رغبة منها في تحقيق المعادلات والمجادلات بإيقاعها الذي يتناغم مع إيقاع حبات المطر لإعلان حياة جديدة من الحب والنماء والتمازج لتمحو تلك الأحزان وتكتسح ذاك البؤس والشقاء حين تقول: «تُقبّل حنان الأرض والمقاهي والطرقات/‏ تستريح على صدر الياسمين/‏ تُراقص أوتار اللهب في القناديل/‏ تعقد صلحًا مع قوس قزح/‏ يُباركه الرذاذ الجميـــل». عبارات تتماهى مع معطيات جديدة لمطر مختلف له جمالية لافتة برذاذه وبرودته ونسماته مع باقة متباينة من الصور والمجازات حلقت بنا إلى أفق مغاير وحطمت معها كل الأحزان السابقة التي عشناها قبل قليل! فالهاجس هنا تقديم نموذج جديد في ثوب أنيق محدد المعالم يخترق تلك الأعماق ويغير معالم خارطة الغيوم؛ حيث بات المطر هنا يعقد صداقة وصلحا مع قوس القزح بسمته اللافت وإيقاعه المتواشج مع جمال المطر وتقلباته وهنا تتحقق الذات عبر التصوير والرمز والمجاز الذي ينداح عذوبة بأنساق وفضاءات أسست لنمط جديد يتجسد في: أذرع الخزامى والأغصان/‏ وألــــم المــــزون. عبارات تمكنت من اقتحام جدلية تفعيل المعادلات الإبداعية دون حواجز؛ وهذا النسق لا شك يجسد خروج الشاعرة من عباءة النمطية المعتادة سعيا وراء التجديد والتغيير الذي لا نستغربه من شاعرتنا التي تختلف من قصيدة إلى أخرى ومن مقطع إلى آخر طبقا لتباين موضوعات القصائد وتعدد أغراضها المدعمة بالإبداعات الفكرية بحثا عن أسطورة الجمال. إنها جماليات تعكس مقاربات تعبر بها نبيلــة عن حضور فاعل وقدرة على اقتناص المعنى المتداخل ضمنيا مع تلك المغازلات التي تستريح على صدر الياسمين وتتراقص على أوتار اللهب في القناديل برذاذها الناعم والقاسي في ذات الوقت. ومرة أخرى تتناثر هذه اللآلئ من المطر حتى تروي عطش النوارس وتطفئ حزمة الآهات الهاجعة داخل القلب الذي يعاني منذ سنين. «تتناثر.. ترتوي الأرصفة/‏ ولا تعطش النوارس/‏ تتناثر وتطفئ حرقة آهةٍ/‏ هاجعةٍ داخل القلب/‏ منذ زمنٍ.. منذ شوقٍ.. منذ سنين». وهنا تتداخل إلى جانب هذه الحبات من المطر صور توليدية متجددة تكمن في فرضيات تختزن المواقف الوجدانية؛ لتصل بنا كمتلقين إلى الخطاب الجمالي المنتظر دون تراجع. وأثناء البحث عن تلك الصور التي أسست وباحترافية علاقات تركيبية يلفت نظرنا التقاء فعلَي المضارع المختلفين والمتعاكسين من حيث المعنى والمبنى.. يحزنني ويسعدني مقترنان بياء المتكلم عبر موسيقى هادئة يتجلى فيها العمق الإبداعي والمخزون الثقافي المتماهي مع منظومة من الألفاظ والعبارات المذكورة في المقطع السابق والمتباينة بتباين حالات المطر شدة ووجوم.. قوة ورخاء. «يحزنني المطر/‏ ينساب كموسيقى الانهمار/‏ في ليلٍ رماديٍ حزين/‏ تصحب بلور الزخات/‏ مع ذكريات تشطر الوقت نصفين/‏ وموسيقى الانهمار/‏ ترسم مجرى لها/‏ لأقصى الدمع/‏ فوق وجوم الوجنات». إن مثل هذا الاستخدام الوظيفي للمجازات المتناثرة في ثنايا النص لا شك يعطي للمقطع فضاءات إبداعية ذات علامات حضورية لمجاراة هذا الحدث المتواكب مع سقوط المطر فقد عدنا لنتقاسم الوجوم والسكون المتماهي مع اللون الرمادي وموسيقى الانهمار. إنها ليلة قاتمة تشبه الرعد المخيف والمطر الغزير محملا ببلور الزخات الرعدية المتلاحقة بلا هوادة فما عادت الأمور كما كانت وما عاد النهار نهارا… لقد تبدلت لغة السماء واختلفت أبجدية السحاب وحلت ساعة الحزن والفراق.. «يحزنني هذا المطر/‏ لغة السماء والغمام/‏ أبجدية السحاب المسافر/‏ حاملا حقائب الفراق/‏ نحو اشتياق الأحبة/‏ يتركها للمطر». يا لها من مفارقات مذهلة أفقدتنا العديد من التوازنات المألوفة بتقديم النموذج الآخر الأكثر صرامة لأنه يرغب في اقتحام الأسوار بقوة وتحد وعناد، وأمام هذه العاصفة التي تؤسس لحوار جديد نلمح نكوصا عن الثوابت التي تصاحب سقوط المطر عادة، ومن هنا تواردت الصور المجازية والمنزاحة بين الإيجاب والسلب وبين الهدوء والعاصفة وبين النسق الصوتي والنسق المضمر وبين الأسطورة وبين الحقيقة المرة، تتأرجح كل هذه المشاعر في ليل رمادي حزين يقف معه المتلقي حائرا على عتبات الروح وذكريات الماضي التي شطرت الزمن إلى شطرين على حد قول الشاعرة: «مع ذكرياتٍ تَشْطر الوقتَ نصفين..». كل هذا ونحن نترقب استبدال تلك الرعود والشلالات المائية إلى زخات جمالية تنعش الروح بلقاء جديد يدثر الحزن بخمار الغيم المرتقب عندما تصمت القلوب..! وأمام كل هذه المشاهد تتولد الانزياحات بصورها التركيبية التي باتت تستدعي حزمة من المداخل المحاطة بالرؤى والمفاجآت التأويلية؛ لتفتح لنا عوالم جديدة تجمع بين النقيضين: الحياة والموت، تتوسطها اللآلئ، أليس غريبا هذا الجمع بين الانطفاء والبريق؟ ترى هل رغبت الشاعرة في التطواف عبر صيغة العدول الذي أفاض رجال البلاغة القدماء في شرحه وهو ما عبّر عنه المحدثون بالخروج عن المألوف؟ هنا تتضح الرؤيا التخييلية لتعزف لنا لحنا جميلا ومغايرا حتى طالت أبجديات السماء وتغلغلت في لغة الغيوم: لعله يُدثّر الحزن بخمارِ الغيم/‏ لعله يؤجل اللآلئ/‏ القطرات/‏ لؤلؤة.. لؤلؤة/‏ قطرةً.. قطرةً.. قطرة/‏ للقاءٍ لم يُكتب لنا بعــد/‏ في أوراقٍ جفّت.. جفّت/‏ عند صمتٍ القلوب..!. ها هو الوجدان المشبع بعذابات الرغبات المكبوتة التي نتلمسها في المسكوت عنه لدى الشاعرة وتتداخل في أذهان المتلقين الذين تجمعهم كل هذه القضايا المتشعبة والتي تمخضت عنها تعالقات تحمل في جوفها القناديل واللآلئ حينا، والألم واللهب والحرقة الهاجعة في الوجدان حينا آخر وهذا هو بيت القصيد. ترى أي عوالم تلك التي تصاحب زخات المطر؟ هل هي عوالم يتشابك معها الوجد وهمس الشجون وسرمدية المواقف؟ هل يمكن أن نتخطى هذه الهواجس في رواق فكري يتجاوز المألوف الذي تتركه تلك الزخات على القلوب والعقول لتستقبل طقوس المطر بكل اختلافه وتناقضاته بذكرياته ومخزونه بجماله وأمنياته؟ أم هل استخدمت الشاعرة أسلوب الانزياح لكسر جدران الرتابة التي تعودناها ونحن ننظر من نوافذنا ونترقب تلك الزخات من خلال عقد صلح جديد بين الوعي والذات وبين الذات والآخر؟ لا شك إن تداعيات الخطاب المتعلق بالأمطار والرعد والبرق والسحب والغيوم التي طالما تغنى بها الشعراء يفاجئنا كل يوم، بل في كل ساعة بالجديد المتغير الذي لا يبقى على وتيرة واحدة رغبة من الشعراء في إدخال نصوصهم إلى عوالم المنظومات الأخرى لمواجهة ذاك الصخب القوي الذي يدوي فيفجّر أرجاء الكون ويتراوح بين هدوء وعواصف وكأنه يستعد لرسم لوحة فنية جديده قادرة على إدارة حوارات فكرية ونفسية وجمالية بكل متعلقاتها وتجلياتها الحالمة. نعم إنها أسطورة المطر الممتدة والمتجذرة، وكم أفاض المبدعون في رسم جمالياتها؛ لتروي لنا قصة جديدة مع المطر وتسجل حضورا موازيا للحياة بكل تناقضاتها! لقد نجحت شاعرتنا المتميزة في تجسيد تلك الصورة الرمزية بجمال مختلف وجديد كما عودتنا في دواوينها الشعرية، وها هو المطر لديها يسجل فانتازيا جديدة ومختلفة باختلاف رؤيتها الخاصة والمستمدة من ذاتها وتجربتها التي تداخلت مع مدلولات القصيدة باحترافية لافتـــة: يُسعدني.. يُحزنني.. يُسعدني.. يُحزنني/‏ المطر/‏ المطر/‏ المطر!! إذن سوف تظل هذه الأسطورة الجميلة باقية في وجداننا نتعايش من خلالها ونتحدى استمرارية الانكسارات الرعدية؛ لتبقى تلك اللوحة المعبرة من أجمل اللوحات التي تخترق أفق المتلقي؛ لتكون بكل فخر مادة ثرية لكل المبدعين والشعراء والفنانين.

مشاركة :