هناك سلطان غريب تمارسه علينا بعض المدن بسحرها الخاص، فتجعلنا ملتصقين بها أبدًا، وكأنّه بيننا وبينها ميثاق من الحب الخاص، وعقد لا يموت. فتسكن ذاكرتنا الفردية والجمعية. السبب في النهاية ليس فقط الحرية التي تمنحها لنا هذه المدن، ونشعر بأنها تفهمنا، وأننا نتماهى فيها، ولكن لأنها مرتبطة بمخيال خاص، ومتميّز صنعته لنا الكتب قبل الحقيقة الموضوعية. ليس غريبًا، فالمدينة حالة إبداعية قبل أن تكون حجارةً، وبشرًا، وتاريخًا. ألبير كاموا وصف وهران في عز اجتياح الطاعون، حتى أصبح كلّما ذُكر هذا الوباء قُرنت المدينة به. في روايته الثانية الغريب جعل من الجزائر العاصمة، وتبازة عالمه الغامض؛ لدرجة أنه لا يمكن لمس تيبازا بدون تذكّر البحر، والشمس. وميرسو وجريمته المجانية ضد العربي. محمد ديب أعاد تشكيل مدينة تلمسان في فترة ما بين الحربين، من خلال ثلاثيته العظيمة: الدار الكبيرة، النول، والحريق. وفعل ذلك نجيب محفوظ، حينما أعاد بناء وتشكيل عمران المدينة من خلال ثلاثيته: السكرية، بين القصرين، وقصر الشوق، وحتى الروايات الأخرى كالقاهرة الجديدة، وخان الخليلي... وغيرهما لم تخرج عن فكرة خلق المدينة الموازية للواقع، الشبيهة له، والمنفلتة عنه. لباريس في هذا السياق خصوصية مميّزة. فقد صنع منها كتّابها الكِبار ومحبّوها، أيقونة استمرت في المخيال الإنساني، وخرجت عن كونها مدينة فرنسية عادية، وهي ما خلّدتها. المدن التي يعيد الأدب والفن تشكيلها وبناءها، لا تموت أبدًا. كلّما تدحرج العاشق داخل هذه المدينة رأى معالم تتخفَّى في كل الزوايا التي تتحوّل إلى حالات إبداعية. عندما يمر القارئ، قارئ الروايات، أو المولع بالسينما بجانب نوتر دام دو باريس Notre Dame de Paris لا يمكنه أن لا يتذكّر رواية فكتور هيجو، التي تحمل نفس العنوان. ولا يمكنه أيضًا أن لا يرتبط بتفاصيل الرواية، وكأنها تقاصيل حقيقية. فيرى أحدب نوتر دام وهو يتعلق في أحبال النواقيس، أو غموض رجال الدّين الكنسيين، أو وهو يتخفّى في دهاليز الكنيسة، أو وهو مسحور بإزميرالدا ونظرتها العاشقة. بل إن كنيسة نوتر دام لا يمكن أن تذكر إلاّ مقرونة بهاتين الشخصيتين. فجأة تنتقل الرواية من التخييل إلى التاريخ، وكأنّ ما تبحث عنه عيوننا من وراء الحجارة حقيقة أخرى، ملتصقة بالمكان، الحقيقة الإبداعية. رواية باريس لإيميل زولا لم تخرج مطلقًا عن هذه الخاصية التي ترفع فجأة مدينة من العادي إلى الأبدي والخالد عن طريق الأدب. نشرها زولا في حلقات بين أكتوبر ١٨٩٧ إلى فبراير ١٨٩٨ في عز التقلّبات السياسية التي طغت عليها قضية دريفوس، وهي الجزء الثالث من السلسلة الروائية التي خصصها لمدنه: لورد، وروما، وأخيرًا باريس. نكتشف من خلال عيني الأب بيار فرومنت الذي عاد إلى باريس وجهها الآخر بعد أن تم تصليحها في ظل الإمبراطورية الثانية، وبعدها الجمهورية الثالثة الواقعة تحت تجاذبات الحركات الاجتماعية التي حوّلت باريس إلى دراما اجتماعية شديدة السواد، والحزن، واليأس. أحيانًا يتراءى لنا، ونحن نقطع زقاقًا أو شارعًا ضيّقًا، الأب فرومنت بآلامه وخوفه وشكوكه حتى في ما كان يؤمن به، وهو يمشي بجزع في عز انتفاضات وتحركات الفوضويين الأنارشيست، الذين ظلوا يبحثون عن مدينة أخرى. وكلّما دخلنا بيوتًا باريسية بورجوازية قفزت نحونا إيما بوفاري، وكأنّها تخرج من كتاب فلوبير: مدام بوفاري، بأوهامها، وأحزانها، وحماقاتها، ويأسها أيضًا؛ من عالم لا يشبه جنونها الذي تأسس على قراءة الروايات والكتب. المدينة الحجرية تتحوّل فجأة إلى عالم من نور لا يأفل إلاَّ بأفول الإنسان ونهايته. وكما قال ستاندال في روايته الكبيرة الأحمر والأسود: الرواية هي عبارة عن مرآة تتجوّل في طريق كبير، تارة تعكس في عيوننا الأفق الجميل، وأخرى مهالك الضائعين في الطرقات. للأدب قوة استثنائية. على جعل المدينة جزءًا من مخيالنا، أي جزءًا من الجانب الأكثر جمالاً وخلودًا وترميمًا لواقع ليس دائمًا جميلاً.
مشاركة :