الانفتاح الثقافي في مواجهة الخطاب الإرهابي - محمد علي المحمود

  • 12/10/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

أليس المعلم (في التعليم الجامعي أو في التعليم العام) المؤدلج بالإيديولوجيا الأصولية على اختلاف هوياتها، هو الأخطر، ومن ثم فهو الأحق بالتحقق من هويته الفكرية/الحركية، وضبط علاقته بالطلاب الذين يتلقون عنه أكثر بكثير مما يتلقونه عن أي كتاب؟!. مؤخراً، وبعد كل هذه السنوات من الصراع مع الأصولية الإسلاموية المعاصرة؛ انتبهت وزارة التعليم، وقررت سحب كتب رموز الإخوان - كحسن البنا، وسيد قطب، ويوسف القرضاوي، ومالك بن نبي (مع أن فكر مالك بن نبي يبتعد عن الإخوان كثيرا!) – من مكتباتها المدرسية، وذلك – في تصور الوزارة المعلن – إجراء يُقصد به الحد من انتشار الفكر الحركي الإرهابي بين الشباب/ طلاب المدارس. وكالعادة، اختلفت الآراء حول هذه الخطوة، سواء من حيث تصنيف هؤلاء تحديدا كمصدر أساسي ووحيد للتكفير، أو من حيث جدوى سياسة الحجب والمنع والتجريم، بدل النقد والتحليل، ومن ثم النقض والتفنيد؛ لمكافحة أي فكر يمثل تهديدا للسلم الاجتماعي. إنْ كانت الوزارة تقصد بهذه الخطوة موقفا رمزيا، من حيث كون القرار يعلن رفض الفكر الإخواني بمجمله (كجزء من تجريم الحركة الإخوانية ككل)، بصرف النظر عن محتوى هذا الفكر، وبصرف النظر عن التباينات الكبيرة بين هؤلاء الرموز فكرا وسلوكا؛ فلا شك أن هذا القرار يكفل لها ذلك؛ لأن قيام الوزارة بشراء هذه الكتب بأموال الدولة، وتعميمها رسميا على مكتباتها المدرسية، يتضمن المصادقة على محتواها الفكري بشكل عام، ومن ثم ترميز أصحابها فكريا ودينيا، وإن لم يعن – بالضرورة – الموافقة على كل ما فيها تفصيلا، إذ من المستحيل أن تكون الوزارة تتبنى كل الأفكار المتضمنة في كل كتب المكتبات المدرسية؛ على اختلافها وتنوعها وتباينها. فوجود أي كتاب في المكتبة المدرسية، يعني – فقط - أنه لا يشكل خطرا مؤكدا، ولكنه لا يعني - إطلاقا - أن الوزارة تُوافق على محتواه، أو تُزكي صاحبه. فوحدها الكتب المدرسية المقررة التي تطبعها الوزارة على نفقتها لطلابها، هي تعبّر – أو يُفترض أن تعبّر - بكل مضامينها عن رأي الوزارة، وهي وحدها التي تُحَاسَب الوزارة على كل صغيرة وكبيرة فيها؛ لأنها تُصاغ وتُراجع وتُقرّر عبر لجان الوزارة ذاتها، بما لا يترك مجالا للتنصل عن مسؤولية كل ما فيها على وجه التفصيل. هذا من حيث القصد الرمزي، الذي أرى أن الوزارة مصيبة فيه من حيث العموم. أما إن كانت الوزارة تقصد بهذا الإجراء ما هو أكثر من القصد الرمزي، أي تحقيق إنجاز عملي/ واقعي في منع هذا الفكر من الوصول إلى عقول الطلاب، فلا شك أنها خطوة فاشلة من الأساس؛ لا لأن الوصول إلى هذه الكتب متاح - وعلى أوسع نطاق - فحسب، وإنما أيضا، لأن الأفكار المتضمنة في هذه الكتب لا تصل إلى طلاب المدارس مباشرة عبر الكتب في المكتبات المدرسية، بل هي تصل إليهم عبر وسائط العقول الحركية (بعض المعلمين)، أولئك الذين ينشرون الرؤى والأفكار التي تشرّبوها من هذه الكتب، ومن غيرها؛ ما هو أخطر منها بكثير. أيضا، لم يُحدّد قرار السحب: هل هو قرار مرتبط بهوية الشخص الإخوانية، أي من حيث انتمائه العام للإخوان، أم هو قرار مرتبط بمحتوى الكتب المسحوبة تحديدا. الظاهر أنه يخلط بين الأمرين، بدليل وضع مالك بن نبي في السياق، بل ووضع البنا وسيد قطب والقرضاوي في سياق واحد. ولا يخفى على أي مطلع أن مشكلة القرضاوي هي في خطابه السياسي الراهن الداعم للحركات الأصولية في العالم الإسلامي، لا في خطابه الفقهي التقليدي، إذ هو في (الفقهيات التقليدية) يُعدّ متسامحا ومنفتحا إلى حد كبير، على خلاف طرحه الفكري في مسائل الفكر المعاصر. فهل منع كتب القرضاوي – بما فيها كتبه الفقهية التقليدية – هو لمضمونها!، أم هي – فقط - خطوة في سبيل الحد من حضوره الرمزي كعالم ديني، يمتد أثر رمزيته فيما وراء الفقهيات التقليدية، ليشتبك مع الخطاب الحركي المتأسلم على امتداد العالم الإسلامي؟ أيا كان الأمر، فمن الواضح أنها خطوة رمزية، أكثر منها عملية. لكنها كخطوة رمزية غير مكتملة، إذ ينقصها كثير من الإحكام في تتبع الفكر الحركي الإخواني السروري (وهي النسخة الإخوانية الأشد خطورة). الفكر الإخواني كثير ومتشعب، وهو ليس محصورا في هؤلاء. وإذا كان سيد قطب هو سيد الحركة الأصولية في العالم الإسلامي، وأحد مروجي التوجهات التكفيرية، فالبنا والقرضاوي ليسا بذات المستوى، ولا قريبا منه؛ رغم أصوليتهما الصارخة. وفي الساحة المحلية اليوم من تلاميذ سيد قطب، نجد كثيرا ممن مزجوا بين الإخوانية القطبية والتقليدية (التيار السروري)؛ فخرجوا بخطاب أشد تزمتا ومفاصلة من الخطاب القطبي ذاته، ناهيك عن خطاب البنا والقرضاوي، فهل يشمل قرار المنع – ولو كان المنع رمزيا - كتب هؤلاء السرورية، التي تتضمن كل ما في كتب الإخوان وزيادة، خاصة وأنهم مواطنون منخرطون في الوظائف العامة المؤثرة، والتعليم منها على وجه الخصوص؟ ثم، أليس المعلم (في التعليم الجامعي أو في التعليم العام) المؤدلج بالإيديولوجيا الأصولية على اختلاف هوياتها، هو الأخطر، ومن ثم فهو الأحق بالتحقق من هويته الفكرية/الحركية، وضبط علاقته بالطلاب الذين يتلقون عنه أكثر بكثير مما يتلقونه عن أي كتاب؟!. لقد بات من الواضح تماما أن الفكر الإخواني، والفكر الإخواني الممزوج بعقائد التقليدية التكفيرية، لا ينتشر اليوم عبر كتاب في مكتبة مدرسية، بل عبر مدرس مؤدلج بأصولية ما، وعبر وسائل ووسائط الإعلام والتواصل الاجتماعي، التي يتأثر بها المدرس وطلابه والمجتمع في آن واحد. هناك قنوات تلفزيونية يسيطر عليها هذا الفكر، كما أن متابعي رموز هذا الفكر في وسائل التواصل يعدّون بالملايين من جماهير الغوغاء. ومَن يراقب الخطابات التجييشية/الحشدية التي تجري عبر وسائل الإعلام ووسائط التواصل، والتي يتفاعل معها الملايين بعواطفهم، لا بعقولهم، يدرك أن منع الكتب – أي كتب - لا يُعد إجراء عمليا بحال، وأن قيمته – إن وجدت – فهي في الرسالة التي يريد إيصالها إلى هذا المتلقي أو ذاك. كل هذا لا يعني أنني ضد قرار سحب كتب الأصوليين جملة وتفصيلا. أنا مع هذا القرار إذا كان المقصود به رمزيته فقط؛ على أن يمتد المنع ليشمل كل الكتب وكل المؤلفين الأصوليين، بمن فيهم الأشد خطورة من هؤلاء، وعلى نحو لا يضع أمام أعين الطلاب (في الحقل التعليمي خاصة؛ لرفع التزكية الرسمية فقط) إلا تلك الكتب التي تحمل مضامين العدل والإحسان والتسامح والانفتاح. تأييدي للمنع/ السحب – وهو التأييد المشروط بشرطيْ: الرمزية من جهة، والشمولية من جهة أخرى - لا يتعدى حدود فضاء التعليم الرسمي، أي لا يشمل الفضاءات العامة للمعرفة، التي يتم فيها التعرف على النتاج الفكري بكل أنواعه المتباينة والمتضادة. فالمنع من حيث هو منع/ حجب، يعزز بُنية الوعي الانغلاقي، ويمنحها مشروعية غير مباشرة؛ حتى ولو كان مَنْعاً لكتب تدعو للتطرف والانغلاق. إذا كان الأمر كذلك، من حيث عدم جدوى المنع من الناحية العملية، وكون الوسائل والوسائط التي لا يستطيع أحد التحكم فيها، أشد تأثيرا بما لا يقاس، فما هي الطريقة المثلى لمواجهة الخطاب الإرهابي الذي أثبتت التجارب أنه خطر يتهددنا في وجودنا داخليا، ويتهددنا في علاقتنا مع العالم خارجيا؟ في اعتقادي، لا حل إلا بمواجهة هذا الخطاب بخطاب نقدي شجاع يفضحه في أصول مقولاته، ويكشف عن تطرفه وتوحشه، بقدر ما يكشف عن دجله وتزييفه لحقائق الدين ولوقائع التاريخ، إضافة إلى خطاب تنويري مضاد، يحمل قيم العقلانية والتسامح والواقعية الاجتماعية والسياسية، ويكون هو البديل للأجيال الناشئة التي تبحث عن مرجعية ثقافية، تستند إليها في رؤيتها لتاريخها ولواقعها ولمستقبلها. بدهيا فإن هذا الخطاب التنويري/ النقدي المأمول، الذي يمثل الحل الوحيد لمواجهة الخطاب الإرهابي، لا يمكن أن يجد له مكانا في بيئة تقليدية تتماهى مع خطابات التقليد، وبالتالي، تستجيب لمقولات الحراك الأصولي، الذي يبدأ معها بالطبيعي والمقبول؛ لينتهي بها إلى التزمت، فالتطرف، فالإرهاب. لا بد لخطاب كهذا الخطاب النقدي (الذي ستنهشه المخالب الأصولية من كل زاوية، وستحاربه بكل الوسائل، وبشراسة متوحشة، وإلى الرمق الأخير)، من حماية تضمن له البقاء والنماء. لا يمكن أن يصمد هذا الخطاب دون ضمانة مؤسساتية، تضمن له الدعم؛ بقدر ما تضمن له الحماية أفرادا ومؤسسات. بل لا يمكن أن يصل الخطاب التنويري/النقدي إلى هدفه في الحد من غلواء التصورات المتطرفة والإرهابية، وفي التأسيس للمجتمعات المدنية المتحضرة؛ إلا بتجاوز مجرد الحماية والدعم؛ ليكون الانفتاح الثقافي التنويري خيارا شاملا/ معمما في كل ميادين الفعل الاجتماعي، وعلى كل المستويات. فبدون وضع التنوير بديلا ثقافيا حاضنا لكل صور التنوع والاختلاف، ومعززا للوعي المدني العام، لن نضمن سلامة مجتمعاتنا من اختراق المتطرفين من الداخل ومن الخارج، كما لن نضمن نجاح مسيرة التنمية المدنية التي ترتبط مع التنوير بعلاقة عضوية لا تقبل الانفصال.

مشاركة :