أيا كانت المصاعب والتحديات الاقتصادية التي يواجهها البشر في حياتهم اليومية، فإن لغة الأرقام تشير إلى تحسن الحياة بشكل مطرد في العقود الأخيرة. يتجلى ذلك في أن المنتجات والخدمات التي كانت ذات يوم حكرا على الأثرياء، باتت الآن - نتيجة ارتفاع مستويات المعيشة - متاحة وعلى نطاق واسع لقطاعات كبيرة من مختلف الطبقات الاجتماعية. الطيران - بلا شك - واحد من تلك الخدمات التي تجسد هذا التحسن، وشركات الطيران منخفض التكلفة في الطليعة من هذا. في الماضي كان الطيران تجربة فريدة، وكان عدد المسافرين بسيطا، والسفر حكرا على النخب الثرية، ومن ثم كان على شركات الطيران أن تلبي في المقام الأول احتياجات المسافرين الأثرياء ورجال الأعمال، وكان من النادر أن تكون الطائرة ممتلئة، وكان يمكنك أن تحجز مقعدا بسهولة. عندما بدأت شركات الطيران في طرح أسعار منخفضة لتذاكرها، لم يكن الأمر أكثر من رغبة في جذب مزيد من المسافرين، لكن في الحقيقة كانت تلك الخطوة بداية لإعادة تشكيل صناعة الطيران في العالم. ففي سبعينيات القرن الماضي، أدى تحرير صناعة الطيران في الولايات المتحدة إلى تسريع انتشار استخدام شركات الطيران منخفضة التكلفة، ونقل قانون تحرير شركات الطيران في 1978 السيطرة جزئيا من الحكومة إلى القطاع الخاص. وفي تسعينيات القرن المنصرم أدرك المسؤولون في شركة ساوث ويست إيرلاينز الأمريكية أن هناك مشهدا جديدا في صناعة السفر بالطائرات يتبلور استعدادا للظهور والتطور، ويعود الفضل إلى الشركة في تأسيس الطيران منخفض التكاليف، حيث قدمت حينها تذاكر طيران بعشرة و20 دولارا، ما مثل ثورة، سريعا ما تلقفتها شركة راين أير الأيرلندية لتنتشر الفكرة لاحقا في أوروبا. لكن تلك الثورة لم تقف عند هذا الحد، بل سعت إلى طمس الحدود القائمة بين الطيران التقليدي والقادم الجديد إلى عالم الطيران، ونتيجة الضغط والمنافسة بات على شركات الطيران القديمة أن تعيد النظر إلى نفسها، وأن تعمل على أن تكون أكثر رشاقة وجاذبية بخفض الأسعار، وأن تزيد من كفاءتها خاصة عندما يتعلق الأمر بالسفر لمسافات قصيرة، حيث يربح الأقل سعرا. يقول لـ"الاقتصادية" توماس بروك الطيار السابق في الخطوط الجوية البريطانية، "في رحلة مدتها ساعتان فإن الأغلبية العظمى من الركاب يريدون رحلة آمنة ومريحة وبسعر منخفض، وهذا تحديدا ما يقدمه نموذج أعمال شركات الطيران منخفض التكلفة". ويضيف "بالطبع كانت الجودة أو الرفاهية منخفضة مقارنة بالطيران التقليدي، إلا أن عدد الشكاوى في تلك الفئة من الطيران لم يكن مرتفعا بشكل كبير مقارنة بالأعداد الكبيرة من المسافرين جوا الذين يستخدمون هذا النوع من الطيران، والسبب بلا شك انخفاض تكلفة تذكرة الطيران، فدفع ثمن رخيص لتذكرة الطيارة يعني عدم الحصول على الرفاهيات، أما الراغبون في الحصول على تلك الرفاهيات فلديهم دائما خيار دفع مزيد في الطيران التقليدي". انتشرت ثورة شركات الطيران منخفض التكلفة في جميع أنحاء العالم بين 1990 و2020، وبينما جاءت شركات الطيران الاقتصادي إلى القارة الأوروبية في تسعينيات القرن الماضي، فإنها وصلت إلى القارة الآسيوية في العقد الأول من القرن الـ21، لكن انتشارها لم يقض على شركات الطيران الوطنية التي لا تزال موجودة في معظم دول العالم، وكانت شركات الطيران منخفضة التكلفة تحرز تقدما لأعوام عدة، إلا أن الضغط الشديد الناجم عن وباء كورونا، يضع بقاء تلك الشركات على المحك، خاصة في الأسواق الجديدة التي لم تثبت فيها أقدامها بعد. يعد بيتر روسي الخبير الاقتصادي، وباء كورونا وما رافقه من سياسات إغلاق الحدود في وجه المسافرين، مثل اختبارا قاسيا لصناعة الطيران عامة ولشركات الطيران منخفض التكلفة على وجه الخصوص، وعلى الرغم من أن الإمكانات المالية لشركات الطيران كبيرة الحجم تضعها في مكانة اقتصادية أقوى نسبيا من شركات الطيران منخفض التكلفة، إلا أن شركات الطيران الأخيرة يمكن أن تتعافى بشكل أسرع من الطيران التقليدي، لأنها تطير في الغالب على المسارات المحلية. ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن صغر حجم شركات الطيران منخفض التكلفة مقارنة بالطيران الوطني، والطابع المحلي أو الإقليمي له يمثل عامل ضعف وقوة في آن، فالطيران منخفض التكلفة يخدم نطاقات جغرافية محددة، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي، ونتيجة عمليات إغلاق الحدود الدولية في زمن كورونا، فإن فرصته في البقاء أكبر من الشركات ذات النطاقات الجغرافية العالمية أي الشركات الدولية، إلا أنه في الوقت ذاته فإن أي مصاعب مالية في شركات الطيران العملاقة يمكن حلها بشكل أسهل نسبيا". ويضيف "فالشركات العملاقة إذا كانت شركات وطنية مملوكة للدولة فإن الحكومات تدعمها، أما إذا كانت شركات خاصة فإن سمعتها وأصولها تمثلان ضامنا لها أمام المؤسسات المالية للإقراض، أما بالنسبة إلى شركات الطيران منخفض التكلفة فالأمر مختلف، كما أن عمليات الدمج خارج الأسواق المحلية بالنسبة إلى هذا النوع من الطيران صعبة للغاية". وفي الواقع فإن شركات الطيران منخفض التكلفة تتمتع بميزة على نظيرتها كاملة الخدمات، فلديها تكلفة تشغيل أقل، وأسطولها يتكون غالبا من طائرات ذات ممر واحد يتلاءم مع الطرق المحلية، كما أن بعض الخبراء يشيرون إلى أن موجة التضخم التي تضرب الاقتصاد الدولي حاليا تعني أن شركات الطيران منخفض التكلفة والشركات التقليدية سيكون عليهما رفع أسعار التذاكر والخدمات التي يقدمانها، ما يعني أن شركات الطيران منخفض التكلفة ستكون أكثر قدرة على احتواء تكاليف الوحدة مقارنة بمنافسيها من الشركات التقليدية، وبذلك ستحافظ على تميزها السعري في وقت يبحث فيه أغلب المستهلكين على الأسعار الأقل تكلفة. ولـ"الاقتصادية" تعلق ويندي أوزكان الخبيرة الاستثمارية قائلة "في الأعوام المقبلة يمكن أن يكون وضع شركات النقل منخفض التكلفة أفضل مما هو عليه الآن، حيث تتعرض لعديد من الضغوط التضخمية في نطاق التكلفة نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة مثلا، لكن مستقبلا يمكنها التحكم في التكلفة من جانب وغزو أسواق جديدة من جانب آخر". إلا أن وجود أرضية جيدة تمكن شركات الطيران منخفض التكلفة من الازدهار مستقبلا لا يعني أن الفرصة ستكون متساوية لجميع شركات الطيران ضمن تلك الفئة، فعلى الرغم من وجود مئات من شركات الطيران الاقتصادية حول العالم، فإنها لا تتمتع جميعها بالدرجة ذاتها من الكفاءة. وفي هذا الإطار تحتل حاليا شركة طيران آسيا المرتبة الأولى ضمن فئة شركات الطيران منخفض التكلفة، إذ احتفظت على مدار تسعة أعوام بلقب أرخص شركة طيران في العالم، ما يجعلها واحدة من شركات الطيران المفضلة للأشخاص الذين يبحثون عن سفر ميسور التكلفة بالطائرة. من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" جون سنداريوا مساعد طيار سابق، "لقد بدأت شركة طيران آسيا عملياتها في ماليزيا وإندونيسيا وتايلاند والفلبين والهند، ونقلت أكثر من 600 مليون راكب إلى أكثر من 160 وجهة في شبكاتها عبر آسيا وأستراليا والشرق الأوسط والولايات المتحدة، ومنذ 2018 شرعت في رحلة تحول لتصبح أكثر من شركة طيران، مع تضمين الفنادق والعطلات والأنشطة الترفيهية والتسوق ضمن الخدمات التي تقدمها، لكن يظل السبب في نجاحها الحفاظ على أسعار منخفضة الثمن، مع امتلاك مجموعة من أفضل الطائرات والطيارين وخدمة العملاء". تنافس شركة جيت بلو شركة طيران آسيا للحصول على لقب أرخص شركة طيران في العالم، فالشركة التي تحتل المرتبة السادسة بين شركات الطيران في الولايات المتحدة الأمريكية، والثانية على مستوى العالم من حيث التكلفة، تتخذ من مطار جون إف كيندي الدولي في مدينة نيويورك قاعدة لها، وقد تأسست الشركة 1999، واستندت في عملها إلى صيغة نجاح شركة ساوث ويست أيرلاينز، لكنها أدخلت بعض الجوانب الترفيهية على طائراتها مثل شاشات ظهر المقعد في كل مقعد ووجبات خفيفة، وحاليا تنقل طائرات الشركة نحو 38 مليون عميل سنويا إلى أكثر من مائة مدينة في الولايات المتحدة ومنطقة البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية. وفي الحقيقة فإن شركة ساوث ويست أيرلاينز الأمريكية التي تأسست قبل نحو نصف قرن ونيف، التي يعود إليها الفضل في إطلاق مفهوم الطيران منخفض التكلفة، ربما لا تعد حاليا الشركة الرائدة في هذا القطاع، إلا أنها لا تزال تحافظ على مكانة مميزة فيه، فهي أكبر شركة طيران محلية في الولايات المتحدة، وأكبر شركة طيران منخفضة التكلفة في العالم، ولديها ما يقرب من 60 ألف موظف، مع وجود قوي في أهم أسواق الترفيه والأعمال. وفي ذروة مواسم السفر لـ2019 قامت بتشغيل أكثر من أربعة آلاف رحلة إلى 101 وجهة في الولايات المتحدة وعشر دول إضافية، وتدير الشركة أسطولا حصريا من طائرات بوينج 727 ما يجعلها أكبر مشغل لطائرات بوينج 727 في جميع أنحاء العالم، مع أكثر من 700 طائرة في الخدمة. وبينما تواجه شركات الطيران اضطرابات غير مسبوقة في ظل التخلي عن السفر جوا على خلفية المخاوف المرتبطة بالمناخ وتدابير الإغلاق جراء كوفيد وارتفاع أسعار النفط، يزدهر في المقابل عمل مشغلي الطائرات الخاصة. وازدادت جاذبية الطائرات الخاصة منذ بداية الوباء، وسط مخاوف من انتقال عدوى كوفيد وإلغاء رحلات على نطاق واسع والتدابير المشددة التي جعلت السفر على متن رحلات تجارية صعبا من الناحية اللوجستية. وبحسب "الفرنسية"، قال فيليب سكالابريني مدير فرع جنوب أوروبا في شركة فيستا جيت الدولية للطيران الخاص "إن تأثير كوفيد أجبر الناس على البحث عن بدائل لاحتياجاتهم المرتبطة بالسفر". وأضاف "أي شخص قادر على تحمل التكاليف يفضل أن تكون طائرة بأكملها في خدمته"، مبينا أن "الطيران الخاص في المجمل شهد ازديادا هائلا في الطلب على مدى العامين الماضيين". وتؤكد الأرقام الصادرة عن الهيئة الناظمة لحركة الطيران "يوروكونترول" الأمر. وخلصت الهيئة إلى أن قطاع السفر على متن طائرات خاصة ضاعف حصته السوقية على مستوى العالم بين 2019 و2021، عندما بلغت 12 في المائة. داخل آخر طائرة تنضم إلى أسطول "فيستا جيت"، وهي "جلوبال 7500" من صناعة شركة "بومباردييه" الكندية، يستعرض سكالابريني كيف سيكون السفر جوا في هذه السوق الحصرية. وعلى متن الطائرة الفخمة التي تكلف 72 مليون دولار "65 مليون يورو"، يمكن للزبائن التمتع بمقاعد جلدية وسرير مزدوج كبير، فضلا عن تذوق مختلف أنواع المشروبات. وللحد من الإرهاق الناجم عن السفر، يمكن تعديل الضغط في المقصورة بشكل أفضل من الرحلات التجارية، ما يسمح للزبائن بالنوم براحة وكأنهم في غرفتهم في سان موريتز، المنتجع السويسري الفاخر، بحسب سكالابريني. ويمكن أيضا لحيواناتهم الأليفة التمتع بالرفاهية أثناء الرحلة، إذ تقدم لها الألعاب والوجبات الخفيفة على الطلب. ومع عقود سنوية تبدأ من 500 ألف يورو، تستهدف "فيستا جيت" فئة الأفراد الأثرياء وقادة المال والأعمال، مع أعداد متزايدة من العاملين في قطاع التكنولوجيا. وقال سكالابريني "بوضوح، نرى أن تطور الزبائن يتبع الاتجاهات الكلية التي نشهدها في العالم". وكان الوباء العامل الأكثر تأثيرا في زيادة الطلب. وقال سكالابريني "إن تأثير كوفيد العام الماضي ساعد فيستا جيت على زيادة عدد ساعات السفر المبيعة 90 في المائة". وأعلنت الشركة التي أسسها 2004 توماس فلور الملياردير السويسري الشهر الماضي شراء شركة طيران "أير هامبورج"، في خطوة قالت "إنها ستساعدها على زيادة عدد ساعات طيرانها 30 في المائة". لكن الإعلان جاء قبل ثلاثة أيام فقط من إطلاق روسيا تدخلها عسكريا في أوكرانيا وفرض الدول الغربية سلسلة عقوبات مشددة، ما أثار الذعر في الأسواق وأدى إلى ارتفاع كبير في أسعار النفط. ولفت سكالابريني إلى أنه ما زال "من المبكر بعض الشيء" تحديد تأثير الأزمة في شركته. وقال "حاليا، لا يمكننا السفر إلى روسيا ولا إلى أوكرانيا مع الأسف، لذا فهناك تأثير، لكنه ضئيل". وأشار إلى أن الزبائن الروس كانوا في الأساس يسهمون بأقل من 5 في المائة من عائدات "فيستا جيت". وأكد "لدينا زبائن في كل أنحاء العالم". ويمكن لشركات الطائرات الخاصة تجنب الأزمات التي تعصف بالطيران التجاري حاليا، إلا أنها تواجه الانتقادات ذاتها بشأن دور النقل الجوي في تغير المناخ. وتتسبب رحلة على متن طائرة خاصة في تلوث يتجاوز عشر مرات ذاك الناجم عن رحلة تجارية، بحسب منظمة "النقل والبيئة" غير الحكومية. وستكون المسائل البيئية على الأمد البعيد من بين أكبر التحديات التي تواجه السفر جوا من أجل الأعمال التجارية، بحسب فيليب برلاند المتخصص في النقل جوا لدى شركة "سيا بارتنرز" الاستشارية. وقال برلاند "إنه مع ذلك، ستتمثل القضية الأكثر إلحاحا على الأمد القريب في كيفية نجاح القطاع في استيعاب أسعار النفط المرتفعة، وإن كانت شركات الطائرات الخاصة ستتمكن من المحافظة على الزبائن الذين اكتسبتهم خلال الوباء مع عودة الرحلات التجارية إلى طبيعتها". وأضاف "في هذا القطاع، حيث تعد ساعة السفر باهظة التكلفة بشكل كبير، لا يعد السعر العامل الوحيد"، مشيرا إلى أن بعض الزبائن الجدد قد يعتادون على سهولة وسرعة المغادرة على متن الطائرات الخاصة. بدوره، أوضح باسكال فابر، خبير الطيران لدى شركة "أليكس بارتنبز" الاستشارية، أن القطاع لا يتأثر كثيرا بارتفاع أسعار النفط. وقال "إن فاتورة الوقود لا تمثل مشكلة لشخص قادر على شراء طائرة بعشرات ملايين الدولارات".
مشاركة :