"لا صلح لا تفاوض لا اعتراف" ما الذي تبقى؟ في ظل كثرة الأحزاب التي لا يعرف الجمهور التونسي شيئا عن مشاريع معظمها فإن حوارا وطنيا تكون تلك الأحزاب طرفا فيه لن يكون نافعا وليس في الإمكان الخروج منه بأي تفاهمات. تونس مسؤولية الجميع أدار الرئيس التونسي قيس سعيد ظهره لمعارضيه كما لو أنهم غير موجودين. لاءاته الثلاث تكشف عن مستوى عال من اليأس من أن تكون هناك قواسم مشتركة يمكن الركون إليها لتكون قاعدة لثقة متبادلة بين الطرفين. معارضو الرئيس يتهمونه بالانقلاب على الدستور، وفي المقابل فإن الرئيس يتهم معارضيه بالخيانة الوطنية والتآمر مع الخارج. تهمتان كل واحدة منهما تضع صاحبها خارج منطق المصالحة الوطنية التي لا يأمل أحد وقوعها في تونس التي انشق شعبها بدوره بين معارضين وموالين وكل طرف منهما يسعى للاحتكام إلى الشارع الذي لا يزال حتى اللحظة معجبا بشجاعة الرئيس متمثلة بقرارات 25 يوليو 2021 التي أنهت فوضى الحكم. ولكن الرئيس الذي أنهى مشكلة عمرها عشر سنوات لا يبدو على عجلة من أمره في إنهاء مشكلة خلقتها إجراءاته. فليس من المقبول أن تكون تونس بلدا نظيفا من الأحزاب بالرغم من أن تلك هي رغبة الرئيس. وليس من المتوقع أن تختفي حركة النهضة بعد أن تمتعت بالحكم المباشر أو غير المباشر لمدة عشر سنوات. كما أن الانتخابات المبكرة ستكون استعراضا بائسا للديمقراطية إذا امتنع المعارضون عن المشاركة فيها. هناك مَن يدعو إلى منع الأحزاب من المشاركة في الانتخابات المقبلة. دعوة متشددة تحمل في ثناياها تأييدا مفخخا للرئيس الذي وإن لم يعلق على ذلك فإنه قد يفكر في أن تكون مرحلة ما بعد 25 يوليو قد ألقت بالأحزاب في شبكة معقدة من الانشقاقات التي ستكون المشاركة في الانتخابات بعدها عملية غير ميسرة. الأسوأ في ما يحدث أن لعنة حركة النهضة قد شملت العديد من الأحزاب التي لم يكن بعضها مشاركا في الحكم ولم تكن له يد في الفوضى التي شهدتها تونس داخل الحكم وخارجه. تلك سقطة قد تؤدي إلى ارتكاب أخطاء كثيرة سيكون من شأنها أن تهز مصداقية الإجراءات التي يمكن أن يتخذها الرئيس مستقبلا. يفكر الرئيس سعيد في تونس أخرى غير تونس التي عاشت في خضم فوضى سياسية بعد سقوط نظام بن علي. لم ينزلق شعب تونس إلى العنف الذي كان متاحا لولا أن الشعب كان على يقين من أن لحظة الخلاص قادمة. ذلك ما استشعره الرئيس سعيد باعتباره رجلا لم تلوثه السياسة ولم يتخرج من مدرسة حزبية. غير أن ظهوره السياسي حدث متأخرا. ما لم يتوقعه أحد أن يتخذ هواة السياسة من رجال الأعمال من الفوضى السياسية مناسبة لإنشاء أحزاب، تكون واجهات لحمايتهم من الشبهات ولجمع الأصوات الانتخابية. وفي المقابل فإن اليسار التقليدي خسر مصداقيته حين توزعت أحزابه ما بين الهتاف التقليدي وبين الانحياز إلى حركة النهضة انطلاقا من كونها حسب وجهة نظرها حزبا وطنيا يمكن التعويل عليه. كان ذلك بداية لانهيار اليسار التقليدي الذي لم يواكب الأحداث ولم تعد له ضرورة في أي حوار وطني ممكن. ولكن في ظل كثرة الأحزاب التي لا يعرف الجمهور العريض شيئا عن مشاريع معظمها فإن حوارا وطنيا تكون تلك الأحزاب طرفا فيه لن يكون نافعا وليس في الإمكان الخروج منه بأي تفاهمات يمكن أن تشكل قاعدة لعلاقة مستقبلية بين النظام ومعارضيه. لقد خسرت حركة النهضة آخر مكان في الحكم حين قرر سعيد تجميد عمل البرلمان ومن ثم حلّه غير أن الأحزاب الأخرى، سواء مَن وقف منها مع النهضة أو خاصمها، فقدت هي الأخرى القدرة على الإقناع. وهو ما لم يتعامل معه الرئيس التونسي بإيجابية، بحيث يعيد إلى تلك الأحزاب شيئا من الاحترام الرمزي. ربما لم يوفق الرئيس التونسي في لاءاته الثلاث حين عممها على الجميع. ذلك موقف صادم. لكن الأحزاب هي الأخرى لم تتعامل مع تلك الصدمة بطريقة إيجابية بحيث تحولها إلى سبب لاستعادة شعبيتها وهو ما يمكن أن تراهن عليه في أي انتخابات مقبلة. لقد فقدت الأحزاب ثقلها الذي يمكنها من خلاله أن تجبر الرئيس على التخفيف من لاءاته مساهمة منها في دفعه إلى إجراء حوار وطني حقيقي ينقذ البلاد من أزماتها السياسية والاقتصادية. هل سيُترك قيس سعيد وحيدا في قصر قرطاج؟ ذلك ما يجب أن تفكر فيه الأحزاب وهي تواجه وضعا قد يجر تونس إلى أوقات عصيبة يكون فيها الجمود السياسي عنوانا للانهيار الاقتصادي الذي يدفع ثمنه الشعب. ما ينبغي على الأحزاب هو أن تخفف من ثقلها لتشارك في إنقاذ تونس. فاروق يوسف كاتب عراقي
مشاركة :