وعلى الطرف الآخر فإن العامل الاقتصادي الذي يكاد يطغى على العامل الأمني في هذا الصراع يعود إلى طبيعة الحرب وانتقال المواجهة مع الغرب إلى العمق الأوكراني ودخول روسيا مع المعسكر الغربي في صراع مفتوح يفتح الباب على كثير من الاحتمالات والتداعيات، سواءً بين روسيا والغرب أو على المستوى الدولي، خاصة بعد فرض العقوبات وانغماس القوى الكبرى في الصراع وذهاب دول المعسكر الغربي بعيداً في الرفع من سقف العقوبات والرغبة في إطالة أمد الحرب وصب الزيت على النار. والطرف المستهدف بالعقوبات يحاول الحصول على البدائل التي تخفف من وقع هذه العقوبات عليه وتقلل من تأثيرها، بينما الطرف الذي فرض العقوبات يبحث عن الوسائل التي تُفعّل العقوبات وتجعلها أكثر تأثيراً مع تقليل انعكاساتها السلبية ضده، وكل من الطرفين يحتج بحجج لا تبرر الحرب التي يخوضها سواءً على الصعيد الأمني أو الاقتصادي، فالطرف الأول يخوض حرباً عسكرية والثاني يشن حرباً اقتصادية كان بالإمكان تفاديها وتجنيب أطرافها والعالم ما يعانونه الآن من الوقوف على حافة الهاوية والتعرض لمأساة إنسانية وضائقة مالية. ويزيد من تعقيدات العامل الاقتصادي وجود تداخل بين سلاح القتال وسلاح المال، وما تمتلكه روسيا من الغاز والنفط حيث تمثل صادراتها من الغاز الطبيعي إلى أوروبا ما يعادل 40 في المائة من إمداداتها من الغاز و25 في المائة من وارداتها النفطية، كما أن زيادة الطلب على الوقود الأحفوري واستخدام الموارد يشكل أحد التداعيات التي نجمت عن الحرب وزادت من تعقيداتها، خاصة مع محاولات روسيا بصورة مستمرة وفاعلة تعزيز هيمنتها على إمدادات الطاقة الأوروبية في سبيل تحقيق أهداف سياسية. وقد تمحور الرد الغربي على الغزو الروسي لأوكرانيا حول محور العقوبات الاقتصادية التي تمثل الأداة الفعالة في ترسانة الغرب للتعامل مع روسيا التي تشكل صادراتها من الغاز والنفط مصدراً أساسياً لنمو اقتصادها وتعزيز دخلها المالي مع اتخاذ العقوبات ورقة للمساومة نظراً لما لها من تأثير قوى على مجمل الأحداث الجارية بجوانبها الأمنية والاقتصادية والسياسية. وهذا الإجراء يعد سلاحاً من حدين فبقدر ما يعد ضربة مؤلمة ضد روسيا بقدر ما يضع الاتحاد الأوروبي في موقف بالغ الصعوبة بسبب اعتماده على الطاقة الروسية من الغاز والنفط وعدم وجود البديل المناسب. ومن زاوية أخرى فإن روسيا يمكن أن تجد في السوق الصينية ما يعوضها عن الأسواق الأوروبية بينما من الصعوبة بمكان أن تجد الدول الأوروبية بديلاً مناسباً عن الطاقة الروسية وإن وجدت البديل فسوف يكون بأسعار عالية تؤثر في اقتصاد هذه الدول بصورة سلبية. ومحاولة الدول الأوروبية إيجاد الطاقة البديلة التي تحل محل الطاقة الروسية ليس بالأمر السهل حيث يستدعي تحقيق هذا الهدف جهوداً كبيرة وفترة زمنية طويلة على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تستغل الفرصة لتصدير غازها إلى الأسواق الأوروبية لقطع الطريق على روسيا ومنافستها في أهم أسواقها. والحرب الدائرة في أوكرانيا بالإضافة إلى تأثيرها الأمني في ميدان القتال المتمثل في قتل البشر وتدمير المقر فإن تأثيرها الاقتصادي لن ينحصر في مجال الطاقة ولن يتوقف هذا التأثير على حظر ما تصدره روسيا من الغاز والنفط إلى الدول الأوروبية وغيرها، بل سوف يكون لهذه الحرب تأثير بالغ على الأمن الغذائي على المستوى العالمي، إذ إن روسيا وأوكرانيا تمثلان سلة غذائية بالنسبة لكثير من الدول، فروسيا تعد أكبر مصدر للقمح في العالم، وأوكرانيا خامس مصدر له، وهذه السلة باتت مهددة بسبب الحرب والعقوبات المفروضة على روسيا. وتعد الأمم المتحدة بكامل أعضائها شاهد عصر على هذه الحرب المدمرة، ورغم ذلك لم تحرك هذه المنظمة ساكناً لوقف هذه المعاناة التي ينذر استمرارها باندلاع حرب كونية تستخدم فيها الأسلحة النووية. وسر هذا التخاذل والضعف الأممي هو مجلس الأمن الذي تتنازعه القوى الكبرى وتنفرد فيه الولايات المتحدة بالقرار الدولي في الكثير من الحالات على نحو ينسجم مع مصالحها ورؤيتها وتطلعاتها، متخذة من قانون القوة سيفاً مسلطاً على قوة القانون دون الاكتراث بما يترتب على ذلك من عدم الاستقرار العالمي وازدواجية المعايير والخروج على الشرعية الدولية أو الالتفاف عليها والشواهد على هذه الممارسات كثيرة في كل من أوكرانيا وفلسطين وسوريا والعراق وأفغانستان. والقضية الروسية - الأوكرانية في بداية الأمر كانت قابلة للحل بالطرق السلمية، وفض النزاع بين الدولتين لم يكن مستعصياً في بداية الأزمة، نظراً لأن الأزمة حسب التصور الروسي ناتجة عن التهديد الذي يمثله توسع حلف شمال الأطلسي بعد أن اقترب الحلف من الحدود الروسية، ولكن الجانب الآخر مدفوع من الولايات المتحدة الأمريكية استمرأ عرقلة المساعي السلمية وإفشال الجهود السياسية، رافضاً مطالب روسيا الأمنية وتنفيذ مقررات مينسك حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه. وكما هو معروف أن حفظ السلم والأمن الدوليين منوط بمجلس الأمن الذي يتكون من عدد من الدول الكبرى ذات العضوية الدائمة في المجلس، وهذه الدول هي التي تتحكم في مستقبل الأزمة الأوكرانية وتمسك بخيوط حلها، وكانت الفرصة مواتية أمامها لحل النزاع وإنهاء الأزمة بالطرق السلمية وعبر الحلول التوفيقية التي تحول دون اندلاع الحرب. وهجوم روسيا على أوكرانيا ومواجهة الهجوم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية يعكس الواقع المؤلم الذي يعيشه أعضاء مجلس الأمن بسبب استحكام عقدة حب السيطرة وبسط النفوذ وطغيان المصالح وغلبة العقلية الاستعمارية على عمل أعضاء المجلس، وتجاهل ميثاق الأمم المتحدة والمسؤوليات المرتبطة به، نزولاً عند الأهداف المصلحية التي يضطر صاحبها إلى التغريد خارج السرب والانحراف عن الدرب. ومن هنا فإن أطراف الصراع الأوكراني بدلاً من حل النزاع وإنهاء الصراع ذهبوا إلى أبعد حد في إشعال فتيل الحرب عن طريق إحياء الخصومات وتبادل الاتهامات بعيداً عن الكياسة وحكمة السياسة وأتباع الطريق الصائب في التعامل مع النزاعات والأزمات التي تأسس المجلس من أجل التصدي لها والقيام بالحلول المناسبة لها. والأطراف الفاعلة في الصراع الأوكراني من أعضاء مجلس الأمن وكم هو خليق بهؤلاء احترام وظيفة المجلس وميثاق الأمم المتحدة الأمني والمسؤولية التي يتحملونها تجاه هذا الميثاق، مدركين أن أمن الإنسان يأتي بعد دينه وصحته وأن المجلس أُسس لحفظ السلم والأمن الدوليين وعدم تكرار الحروب التي اكتوت الشعوب بنارها في العصور المظلمة.
مشاركة :