قد تتحول بعض تفاصيل الحياة إلى رمز لها، كما حصل مع فاكهة البطيخ التي حولها بعض الفنانين التشكيليين إلى لوحات صامدة في وجه الموت والحروب والملاحقات الأمنية، تربط بعضهم بذكريات الطفولة فيما تعبّر بالنسبة إلى البعض الآخر عن توقهم إلى الحرية والأمان. عاد البطيخ إلى لوحات تشكيلية جديدة نشرها أصحابها على صفحات الفيسبوك الخاصة بهم ليؤكد أنه حتى بعد أن أصبح رمزا فلسطينيا شديد الأهمية، لم يتوقف عن الحضور في لوحات مُحملة بمعان إضافية استمدت طاقتها من كونه رمزا مُكرِسا للحياة بشكل عام. أذكر أنه قبيل الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 حين كان الوضع العام متشنجا وينذر بكارثة ما، وكذلك أيضا خلال الفترة الأولى من الاجتياح، أي قبل أن يشتد خناق الحصار وينتشر الدمار في الأزقة والشوارع البيروتية، كنا نعيش في منطقة تلة الخياط المُطلة على تلة كانت توضع فيها رواجم الصواريخ التي كانت تزلزل المدينة وتستجلب ردَا قويا من الطيران الإسرائيلي. كنا نسكن في الطابق السابع والأخير والمُشرع على الفراغ والمُشرف على مطار بيروت من جهة وعلى البحر من جهة أخرى. في ذلك الزمن، أي قبيل وخلال الفترة الأولى من الاجتياح، كانت تصل في فترة العصر إلى أسفل البناية سيارة شحن صغيرة مُحملة بجبل صغير من البطيخ. كان لون السيارة تلك أخضر مثل لون البطيخ. صاحب الشحن كان ينادي على بطيخه بصوته الطريف كل يوم دون أن يتخلف يوما واحدا عن المجيء. ☚ عربة خالدة في الذاكرة ☚ عربة خالدة في الذاكرة كان مجيئه يضفي على المنطقة بأسرها جوا من الطمأنينة التي تؤكد أن كل شيء على ما يرام، حتى لو لم يكن ذلك واضحا البتة. ينتظر العديد من سكان الحيّ قدوم الشاحنة الصغيرة لينزلوا هرولة على الدرج (الكهرباء كانت مقطوعة بشكل شبه دائم) كي يشتروا لعائلاتهم بطيخا يلطف برائحته وطعمه حرّ الصيف والوضع العام. كنت أنا وأخوتي ننتظر بائع البطيخ النحيل والأسمر، وما يكاد يصل حتى نسرع إلى والدي كي يعطينا فلوسا نشتري بها بطيخة كل يوم حتى بات صاحب الشاحنة ينظر كل مرة يأتي فيها إلى أعلى البناية حيث كنا، بابتسامته وقبعته الصغيرة، ويصرخ بطرافة “مسا خير للحلوين، لمين البطيخ؟”. وغالبا ما كان أخي ينزل لإحضار بطيخة صغيرة الحجم كي نلتهمها جميعا عند المساء تحت ضوء الشمع ساعة الإفطار غاضين النظر عن كل ما يحدث من حولنا. في يوم من الأيام انتظرت شاحنة البطيخ كي أرسمها وأرسم من فوقها السماء الزرقاء وغيمها الأبيض الذي كان يبدو في أحيان كثيرة كأنه يشق طريقه نزولا إليها كي يحصل هو أيضا على شرحات حمراء من البطيخ. وفي يوم من الأيام التالية اشتدت وتيرة الحرب ثم حدث حصار بيروت ولم يعد بائع البطيخ يحضر. ثم عرفنا بعد ذلك أن صاروخا سقط عليه هو وشاحنته فقتله وفجّر بطيخه. وربما خرج قلبه الأحمر أشلاء فوق أشلاء البائع اللطيف. وما زالت لوحة البطيخ عندي تذكرني به، بقميصه ذي المربعات وبكل الذي كان. مازالت هذه اللوحة عندي لتذكّرني بكل لوحة تشكيلية عربية، لاسيما لوحة فلسطينية حضر فيها البطيخ رمزا صارخا للحياة والصمود في وجه كل أشكال الموت. كبرت ليظل البطيخ نضرا ويافعا في روحي هو وصاحبه اللطيف/الشهيد. ثم اطلعت شيئا فشيئا على الفنون وعلمت أن البطيخ حضر في لوحات فنانين عرب كثر كرمز للفرح والوفرة والخصوبة، منهم فيصل اللعيبي وعبدالحميد بعلبكي وصبحي شعيب وجواد سليم ومحمود فهمي. البطيخ في مواجهة الاحتلال البطيخ في مواجهة الاحتلال ثم علمت بسيرة البطيخ في لوحات الفلسطينيين التي بدأت في سبعينات القرن الماضي. وقد سرد التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور كيف حوصر الفن التشكيلي تحت الاحتلال الإسرائيلي، وكيف صودرت الملصقات، وكيف تدخّل الاحتلال حتى في استخدام الألوان. وفي هذا السياق روى حادثة هي على الأرجح ما أسس لرمز استُخدم في الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987)، ومن ثم في بعض التظاهرات الأخيرة حول العالم تضامناً مع المنتفضين في حي الشيخ جراح وفي مدينة القدس. قال منصور سليمان “تم استدعاؤنا من قبل سلطات الاحتلال (أي استدعاؤه واستدعاء الفنان عصام بدر والفنان نبيل عناني) وقرأوا علينا أوامر تتعلق بالممنوعات الإسرائيلية المتعلقة بالأعمال الفنية الفلسطينية، ومن بينها حظر رسم ألوان العلم الفلسطيني. عندئذ سأل من غيظه الفنان عصام بدر: ماذا عن رسم وردة بألوان العَلَم؟ ردّ الضابط: ممنوع. وممنوع حتى رسم بطيخة”. واستعار الفنان التشكيلي الفلسطيني خالد حوراني لاحقاً من هذه القصة وهذا الضابط فكرة عمل فني (رسم بطيخة بألوان العَلَم الفلسطيني) “ليس إعجاباً بما تفتّق عن خياله المريض، وإنما سخرية من منعه رسم العَلَم الفلسطيني”. ثم أردف قائلا إنه في سنة 2007 غامر بعمل ساخر في إطار مشروع أطلس فلسطين الذاتي، ورسم “العَلَم البطيخة”. وعادت البطيخة وقصتها فجأة إلى المشهد بعد 14عاماً من إنتاجها كمشروع فني. وذكر الفنان خالد حوراني “فوجئت بهذا الاهتمام بها واستخدامها بأكثر من طريقة من طرف المتضامنين مع فلسطين حول العالم، فحضورها كان بمثابة ترميز إلى العَلَم الفلسطيني الوطني وألوانه الأربعة”. وكانت تلك البطيخة الرمز جزءاً من معرضه الاستعادي الأول في مركز الفن المعاصر في مدينة غلاسكو سنة 2014، حيث رسمها على جدار المركز. البطيخ لم يتوقف عن الحضور في لوحات مُحملة بمعان إضافية استمدت طاقتها من كونه رمزا مُكرِسا للحياة ثم جاءت سنة 2021 وأزال حرس الجامعة والشرطة في مدينة روتردام لافتة رفعها الطلاب، مزدانة بالعَلَم الفلسطيني وكُتبت عليها عبارات تدعو إلى الحرية لفلسطين ووقف سياسة التطهير العرقي، وإلى التضامن مع حيّ الشيخ جرّاح. فما كان من الطلاب إلا أن رفعوا لافتة بديلة رُسمت عليها بطيخة وتحتها عبارة “هذه ليست بطيخة” نسبة إلى لوحة شهيرة جدا للفنان التشكيلي البلجيكي روني ماغريت “هذا ليس غليونا”. وبسبب منع تثبيت لافتة بشكل دائم عمد الطلاب أيضاً إلى حمل اللافتة بشكل دوري بدلاً من تعليقها على مدار اليوم ولمدة أسبوع في إطار حملة التضامن العالمية مع فلسطين. كما تناولت نشرات إخبارية عديدة أنه “في سنة 2009 رسمتُ بطيخة على حائط صالة العرض في مدينة تولوز في فرنسا بحجم ضخم، وكررت ذلك في العديد من المعارض الفنية، بالرسم المباشر على حائط صالة العرض، أو بطباعة حريرية على ورق مقوى، كما في دارة الفنون في عمّان. وبلغ عدد ما أنتجته 13 نسخة موقعة، أصبحت في معظمها من مقتنيات الدارة – مؤسسة خالد شومان، وبعضها عند أفراد ومجموعات خاصة”. وهناك نسخة مرسومة باليد في فلسطين من مقتنيات بنك فلسطين منذ سنة 2014. وذكرت نشرات إخبارية أخرى أن الناس حملوا البطيخ المقسوم والبارز الذي يرمز إلى ألوان فلسطين “في سيدني ووزعوه في التظاهرات، ورُفعت البطيخة على لافتة في تورونتو”، ولاحقا أحضر فنانون شباب عرب وغير عرب البطيخ إلى أعمالهم الفنية. ونذكر من الفنانين الشباب الفنانة سارة حطاحط والفنان سامي بخاري والفنانة آية مبيضين والفنان بيسان عرفات. ومنذ فترة قصيرة نشرت الفنانة ريم طرّاف لوحتين رائعتين تجسد في الأولى حزوزا من البطيخ الأحمر الغارق في خلفية حمراء ندية، وتصورّ في الثانية حزوزا من البطيخ، وربما الرمان إلى جانبه، على خلفية رمادية مستديرة لا هي صحن ولا هي كوكب، وخلف هذا الشكل الدائري حضرت مساحة رمادية تمتد حتى حدود اللوحة. كما نشر التشكيلي أيمن فضة لوحة بدت فيها حزوز من البطيخ مُشعة كادت تُشعر مُشاهدها بحركتها المتأرجحة على طاولة من الزجاج الشفاف. وبالنسبة إلي سيظل البطيخ رمزا للحياة والحرية وسيظل أيضا تذكارا وألف رحمة على بائع البطيخ اللطيف الذي زرع الفرح في قلوبنا قبل أن ينتزعه العدوان الإسرائيلي.
مشاركة :