لم تُفلح الإغراءات المادية العديدة التي أعلنت عنها البنوك المصرية لجذب أموال المواطنين في وقف ظاهرة “المستريح” الذي يقوم بالحصول على أموال المواطنين بذريعة توظيف مدخراتهم مقابل حصولهم على مكاسب مادية سريعة. وألقت أجهزة الأمن القبض قبل أيام على “مستريح” جديد، ولا تزال تطارد آخرين، بعد تلقّي شكاوى من مواطنين اتهموا فيها شخصا يقيم في محافظة أسوان، بجنوب مصر، بشأن قيامه بالاحتيال عليهم بحجة توظيف أموالهم في بعض المشروعات. وشهدت محافظة أسوان، السبت، هروب أحد المستريحين من مطاردات الأهالي بعدما حصل منهم على مبالغ مالية ضخمة وقاموا بتحطيم منزله وسرقة محتوياته بعد يومين من تدخل الشرطة وقيامها بالقبض على مستريح آخر، جمع قرابة ملياري جنيه (نحو 120 مليون دولار) من المواطنين. وأظهرت الواقعتان أن إغراءات الحكومة التي اتبعتها لجذب أموال المواطنين ووضعها في البنوك لم تحقق أغراضها كاملة، على الرغم من أن قيمة المبالغ المودعة منذ إطلاق شهادات الادخار هي الأعلى في العائد (18 في المئة) منذ نحو شهر وبلغت قرابة 650 مليار جنيه (حوالي 36 مليار دولار)، وهو رقم ضخم، لكن الواقع يعكس ثقة البعض في المستريحين والتشكيك في سياسة الحكومة. وبدت مؤسسات رسمية في نظر الشارع عاجزة عن القضاء على الظاهرة المعروفة بـ”المستريح” التي انتشرت منذ سنوات ولم تستطع الحكومة القضاء عليها، وشهدت بعض المحافظات وقائع احتيال يتفنّن أصحابها في إقناع الناس بتحقيق أرباح كبيرة في أوقات قصيرة، ما يمكنهم من جمع المليارات من الجنيهات بحجة توظيفها ثم يهربون بها وتمكنهم من الحصول على ثقة الناس بعد منحهم فوائد عاجلة مجزية. إغراءات الحكومة التي اتبعتها لجذب أموال المواطنين ووضعها في البنوك لم تحقق أغراضها كاملة، على الرغم من أن قيمة المبالغ المودعة منذ إطلاق شهادات الادخار هي الأعلى وتكمن أزمة بعض المؤسسات الحكومية في أنها تتعامل مع وقائع الاحتيال على المواطنين من منظور يصوّر الأمر على أنه انعكاس لتراجع معدل الفقر، والإيحاء بوجود مبالغ كبيرة توضع “تحت البلاطة”، وهي إشارة إلى قدرة الكثيرين على الادخار في منازلهم، ما يجعل الحكومة تتفنن من وقت إلى آخر في تقديم إغراءات لدفع الناس لإيداع أموالهم في البنوك بدل تخزينها أو تسليمها لأيّ مستريح جديد. وتسبب التعامل مع ظاهرة المستريحين من وجهة نظر سياسية في تفاقمها، لأن هناك دوائر قريبة من الحكومة توظفها للترويج لارتفاع مستوى معيشة الناس بدليل امتلاكهم أموالا ضخمة، لكنها لا تُدرك أن المواطنين يدبرون هذه المبالغ من بيع ممتلكاتهم الأساسية، من عقارات وأراضٍ ومقتنيات، لتوظيفها والهروب من دوامة الفقر. ويقول مراقبون إن البنوك توجه خطابها للفئة المقتدرة لتستثمر أموالها نظير عوائد ادخارية مرتفعة، وأخفقت في استمالة فئات مهمشة أو الوصول إلى الناس لإغرائهم باستثمار أموالهم بشكل آمن، وهم شريحة كبيرة يركز عليها المحتالون لجمع أموالهم وإيهامهم بالثراء السريع وأصبح القضاء على المستريح بالغ الصعوبة. ويرتبط تراجع ثقة الناس في إجراءات الحكومة بأنها اعتادت معاقبة محدودي ومتوسطي الدخل لمجرد علمها بامتلاكهم مدخرات لا تتلاءم مع تصنيفهم الاجتماعي، وحرمت الكثيرين من الدعم النقدي والسلعي بحجة تخطيهم الحد الأدنى للأجور أو بحوزتهم سيارة أو أجهزة تكييف في منازلهم أو لديهم أرصدة في بنوك. وأمام الاستهداف الحكومي لمن لديه مبالغ مالية، وجدت شريحة من الناس أن الاستثمار في البنوك مخاطرة، لأن الإغراء بعوائد ادخارية مرتفعة يعتبره البعض أشبه بحيلة من الحكومة لتعرف بالضبط من لديه أموال تكفي حاجته كي يوظفها في البنوك، ثم تقرر بعد ذلك حرمانه من الدعم وبعض الخدمات، وهو ما يدفعهم إلى المستريح. ويتعامل العديد من المواطنين مع المستريح كاستثمار خفيّ بعيد عن أعين الحكومة، هربا من الضرائب أو الشعور بإمكانية توظيف هذه القدرات المادية للبسطاء في استسهال إصدار قرارات اقتصادية صعبة مدفوعة بأن الناس لن يحتجوا أو يمتعضوا طالما يملكون وفرة مالية يستثمرونها في البنوك، الأمر الذي كرس فكرة اللجوء إلى الأشخاص العاديين من المحتالين – المستريحين. Thumbnail وينبهر ضحايا المستريحين في بادئ الأمر بالحصول على مبالغ مالية كبيرة، وهي سياسة عامة تستخدم لإغراء الناس وإظهار حسن نوايا المستريح لحين نصب شباكه، ثم يترك المنطقة السكنية برمتها ويختفي عن الأنظار، وعندما يتم القبض عليهم تكون العقوبة ضعيفة بدعوى أن “القانون لا يحمي المغفلين”. وقال عضو مجلس الشيوخ (الغرفة الثانية للبرلمان) ومساعد وزير الداخلية الأسبق اللواء فاروق المقرحي إنه لا بديل عن تغليظ عقوبة النصب لتكون رادعة، فلا تتيح للمستريح الاستمتاع بالأموال التي جمعها بعد خروجه من السجن، لأن القانون يعاقب هؤلاء بالحبس خمس سنوات، ولذلك هناك حاجة ملحة إلى ترهيب هواة الاحتيال. وأضاف لـ “العرب” أنه لا يمكن تحميل الحكومة طمع البعض بحثا عن الثراء السريع، فأصحاب الفتاوى المتشددة هم جزء من الأزمة، حيث يحرّمون الاستثمار في البنوك، وأمام تراجع الوعي وارتفاع الأمية بالمجتمع وتقديس الفتوى أصبح هناك من يقاطع البنوك وعوائدها المرتفعة ليسقط في براثن الاحتيال بزعم أنه اختار طريق الحلال. وعندما سئل ضحايا مستريح محافظة المنيا الذي سقط في يد الشرطة السنة الماضية بعدما جمع 95 مليون دولار عن أسباب تسليمه أموالهم قالوا في تحقيقات النيابة العامة إنه استعان بمجموعة من الشيوخ لإقناعهم بأن الأرباح الشرعية تأتي من التجارة لا البنوك ونصحوا بإيداع مدخراتهم معه ثم تبين أنهم يعملون معه كمندوبين له. ويؤكد متابعون للأزمة أن أكثر معضلة تواجهها الحكومة للقضاء على المستريح ارتفاع منسوب الفقر في المجتمع، لأن الناس صاروا شغوفين بالهروب من دوامة العوز وشح الموارد أمام الظروف الاقتصادية الصعبة ما يجعلهم مستعدين لأي شيء أملا في تحسين ظروفهم المعيشية ولو من خلال بيع الممتلكات الشخصية، وهؤلاء يظلون هدفا سهلا لكل مستريح بعد مطاردة الفقر لهم.
مشاركة :