تكون البداية في المسيرة الفنية نقطة هامة حيث تعرّف بالفنان وتجعله محلّ تقييم وتوقعات، فمثلما تكون البداية جيدة قد تكون نذيرا للفشل والتكرار وتنفر المتلقي من المتابعة. بالنسبة إلى الفنان السوري أحمد برهو، كانت بدايته مميزة ومختلفة جعلته مع الوقت اسما لا يتكرر في الفن التشكيلي السوري والعربي، ولازالت تلقي بتأثيراتها على أعماله الحديثة والمواكبة للزمن وأزماته وتغيراته. في أواخر الثمانينات على ما أذكر وربما أوائل التسعينات وتحديدا في المركز الثقافي السوفيتي حضرت معرضا تشكيليا للفنان السوري أحمد برهو، وهو معرض ترك لدي انطباعا إيجابيا بأن صاحبه لن يكون رقما هامشا، فلغته التجريدية العفوية منذ ذلك الحين كانت تحمل نكهة عذبة تتنفس بعمق فهي ليست غارقة أبدا بل مرهونة بالعثور على الحضور دون الخضوع لأي عشوائية، لغة فيها من التمايز الشيء الكثير وهي أقرب للغة قارئ خبير أجنبي فرنسيا كان أو أوروبيا على نحو عام حيث تتعدد الآفاق لديه وتنزع نحو خلق المتعة من منظور اتساع القنوات الناتجة من تعدد طرق العلاقات لديه. والتواصل بين مكونات لوحات برهو البنائية هو أشبه بلقاء المبادئ الجمالية التي يعود القسم الأكبر منها إلى التنافر بين بعض الإشكاليات القائمة ضمنا في مشروعه التشكيلي مع الاقتران بعناصر فاعلة في السرد تدفع المتلقي لملازمة التأمل داخل حكايا اللاإطار، أعني بذلك الانطلاق نحو آفاقها، الأمر الذي يجعل دائرة الوعي للمتلقي تكون في أقصى درجاتها، وهذا ما يخلخل عوائق تحرير هذا الوعي حتى يبدو الاستفزاز الذي تثيره في أقصى مداه. ويؤكد كل ذلك على نحو ضمني بأن برهو لا يتجنب الاحتكاكات التي قد تلد في تجاور الألوان بل وحتى في تزاوجها. وهذه المبادرة التي يطلقها الفنان في مجمل أعماله مبادرة تستحق البحث فيها وإن كانت تحمل تفاصيل متوافرة في عتبة المرحلة، ومدمجة في أدوار لاحقة، وإذا بدا تأثر برهو بالتراث والموروث السردي والتشكيلي ساطعا إلى حد ما إلا أنه يعيد تكريره وتقييم أدواره على نحو نسبي ليثري اكتشافاته في صيغها المتعددة للوصول إلى حقائق هي نسبية أيضا بدورها. لهذا يتكئ الفنان السوري على مشروع مفترض يذهب به إلى أكثر الجهات تكريساً للتجربة الولودة والمرتبطة إلى حد كبير بمسارات جمالية لا تاريخية، وذوقية لا ترهلية، وهذا يجعله، ونحن معه، يناقش إطارات ما يذهب إليه وأقصد الحواف، ومنها يفضي إلى فضاءات العمل ليخرج بمشهد بصري مليء بالحكايات التي تشي بخطاب تشكيلي فيه من الجديد ما يجعلنا نسرد بنيانه بالضوء الذي يبثه في مجمل شروحات الصورة أو المشهد لديه. كل هذا يدفعنا إلى التساؤل هل أن برهو سيعيد جوهر الفعل لإشارات التشكيل في مشهديته ويدفعها بمعطياتها وإحداثياتها في اتجاهات البحث الذي يصنع خطابا تشكيليا مغايرا بطرحها وبسردها، وبمقارباتها التي تذهب حتى نحو الاقتباس من ذاكرته المشبعة بالطفولة وإن كان ينشد من ذلك التحول إلى سرود بصرية تميل بدورها إلى خلق تجليات الفعل الفني داخل مقارباته الجمالية لا التاريخية. وبفضل ذلك ومن هذه الزاوية بالذات يمد برهو الجسور بين آفاقه من جهة وبينها وبين فضاءاته دون أي انتهاك في عملية البحث، بل يدفعه ذلك إلى تعزيز لغته وتجديدها على نحو دائم مرافقة بدفع اللاوعي الجريء نحو التشديد على ولادة أسئلة الكينونة والوجود عامدا استعادة المغيبة منها، ولهذا أهمية الاستحضار للارتقاء بعلاقاته العميقة كرافعة للشكل وكعنصر مهم في لغته.
مشاركة :