الخرافة هي الأصل

  • 5/19/2022
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

الدواء السحري الذي يشفي السرطان اعرف شخصيتك من لون عينيك جهاز الكفتة الذي يشفي الفيروسات علاج المثلية الجنسية بالأعشاب وأخيرا قد أغلق أبو الهول عينيه خرافات علمية وخرافات شعبية تلاقي تصديقا من الناس كل يوم فلماذا يؤمن الناس بالخرافات؟ هل ما قاله المفكر والناقد الإجتماعي هنري لويس منكن "أن الشيئ المزعج في أمر الحقيقة أنها في الغالب غير مريحة وكثيرا ما تكون مملة وفاترة وإنما يريد العقل الإنساني شيئا أكثر إيناسا وتلطفا" صحيحا حقا؟ يبدو أن للخرافة جاذبية ساحرة وإلا فلماذا يقوم الكثير من الناس بتفسير العالم بشكل سحري اسطوري والايمان بالقوى الخارقة لقوانين الطبيعة في توجه غير عقلاني وغير علمي وقد كان هذا يعد مقبولا في عصور الطفولة البشرية وما قبل العلم الحديث. ولكن الواقع أن هذا النوع من التفكير الخرافي منتشر بنسب متفاوتة ولا يقتصر على فئة الناس التي لم تنل قسطا كافيا من التعليم ولا يقتصر على المجتمعات الفقيرة فقط ولكن يبدو أنه نزوع إنساني عام فنحن يوميا نطالع خرافات جديدة تجذب مستويات مختلفة من الناس ومنهم المتعلم والجاهل ولا ننكر أن هناك مجتمعات يزداد فيها الميل لتصديق الخرافات أكثر من الأخرى وأن أوقات الأزمات الاقتصادية وانهيار المنظومة التعليمية تساهم في ازدياد الظاهرة ولكن العجيب أن حتى الدول التي تقود العالم علميا تعاني من هذه الظاهرة ولو بنسبة أقل لهذا فإننا نحتاج إلى دراسة هذه الظاهرة بصورة أعمق والعودة لجذور الإنسان البدائي. كان الإنسان القديم يعيش في عالم مجهول بالنسبة له تماما ويشعر بالخوف والوحشة ويحاول النجاة بحياته، لهذا فقد استمد من خياله تفسيرات للأحداث الكونية. وهكذا نشأت الأساطير في المجتمعات البدائية للتقليل من حدة التوتر ومن أجل امتلاك قدرا من الفهم والسيطرة على الحياة. فتفسير الوجود يتبعه محاولة التأثير فيه ونظرا لخطورة العالم من حوله فقد كان مضطرا لتفسير ما يراه بسرعة لاتخاذ القرار المناسب لحماية نفسه. وهذه السرعة وفرت له الامان لكنها بالطبع كانت على حساب الصواب الاستدلالي والمنطقي لذا فإن الخرافة هي الأصل وأما عصور العلم فهي سباحة ضد التيار. لاحقا تنبه الإنسان إلى أن إدراكه البشري قاصر ومجرد الإعتماد على الحواس لا يعطي التفسير الصحيح للأحداث. فليس كل ما يراه بعينيه صحيحا ولا كاملا فعلى سبيل المثال هناك ظاهرة تسمى الأبو فينيا وهي نزوع الإنسان لإدراك أنماط ذات معنى داخل المعطيات العشوائية وربط أحداث ببعضها حيث لا رابط حقيقيا بينها كمن يرى التمثلات العشوائية المرسومة داخل فنجان من القهوة فيتخيل أنها أحداث وأشخاص معينة وكما يرى المقامر أنماط ما في ورق اللعب العشوائية. وكذلك ظاهرة الباريدوليا وهي أن يرى الإنسان صور حيوانات وأناس في السحاب أو على وجه القمر المكتمل ليلا. فالعقل البشري يميل لإضفاء المعنى على العالم بملء الفراغات للوصول إلى يقينيات حتى ولو كانت خادعة. فلا معنى من وجود الأشكال العشوائية في السحاب والعقل يبحث عن المعنى ويرتاح لليقين وذلك ما أراد وصفه فرنسيس بيكون فقال "من طبيعة الفهم البشري الخاصة أن يفترض في العالَم نظامًا واطِّرادًا أكثر مما يجده فيه، ورغم وجود أشياءَ كثيرةٍ في الطبيعة فريدةٍ في نوعِها وعديمة النظير، فإن الذهن البشري يخترع لها أشباهًا ونظائرَ وصِلاتٍ لا وجود لها."  وقد أدرك الإنسان أيضا أن الذاكرة تخونه ولا يمكن الإعتماد على كلام الشهود. وقد أجريت دراسات موسعة على الذاكرة وأخطاء شهود العيان والكلام المنقول عن غير المسمى بالعنعنة. ولعل أشهر هذه التجارب ما يسمى بالهمس الصيني وهي لعبة تقوم على أن يقول أو يرى أحد الأشخاص شيئا ثم يخبر به شخصا آخر ثم يقوم الآخر بنقل الكلام لثالث والثالث لرابع وهكذا ليكتشف الجميع في النهاية بأن الكلام قد تحرف واختلف ولا يوجد إجماع على ما قاله أو شاهده الشخص الأول. ناهيك عن ما يفعله بنا العقل فيما يسمى الإنحياز التأكيدي فيبحث عن الدليل الذي يؤكد يقينيات مسبقة لديه ويتجاهل ما عداها والتعميم المتحيز وغيرها من ألاعيب العقل والتي تمت دراسات موسعة في محاولة لكشفها وتلافيها فالعقل البشري غير معصوم تماما. والآن وفي عصور العلم الحديث فإن اجراءات البحث العلمي الصارمة قد تطورت لتدارك خداع الحواس وعيوب الذاكرة والإدراك الإنتقائي والتحيز المسبق والمغالطات المنطقية بل وأصبحت المؤسسة العلمية هي حجر الأساس في الحكم على التجارب العلمية وليس العالم الفرد الذي قد يقصرأو يخادع في اتباع الطريقة العلمية وهكذا فإنه لدينا دليل ومرجع تجريبي قابل للقياس ولدينا معايير صارمة لقبول العلوم والتمييز بين العلم واللاعلم وبين الخرافة والحقيقة وبين العلم الحقيقي والعلم الزائف فالعلم - كما يقول الدكتور فؤاد زكريا - يظهر منذ اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يفهم العالم كما هو موجود بالفعل لا كما يتمنى أن يكون. لذا فإن دراسة الفرق بين العلم الحقيقي والزائف وطريقة التمييز بين العلم واللاعلم أصبحت ضرورة ملحة فمجرد التعليم المقتصر على تعلم الأرقام وبعض المعلومات لا يمنع الناس من السقوط في براثن الإعتقاد في الخرافات وتصديقها وقد وجدت الدراسات أن دارسو العلوم الإحتمالية أفضل في تقييم الظواهر بكفاءة. فغياب ثنائية الأبيض والأسود يؤهل العقل لقبول الإحتمالات والشك المنهجي المبني على العلم الصحيح وكذلك تعليم ماهية الدليل وكيفية الحصول على المصادر الصحيحة للمعلومات والتفكير النقدي وطرق كشف المغالطات وذلك من أجل مستقبل الأجيال الجديدة التي تنشأ في بيئة حاضنة وداعمة للخرافة وفي نفس الوقت العالم يتسم بالتسارع المذهل في تطور العلم والتكنولوجيا فما المنتظر من أجيال تنشأ متناقضة رافضة للعلم هل تنتظر منهم تقدما أو رفعة لوطنهم. يقول الدكتور عادل مصطفى في كتابه الرائع "الحنين إلى الخرافة" والذي استلهمت منه بعض فقرات هذا المقال إن للخرافة جاذبية هائلة على النفس البشرية وأن العلم يجب أن يكون سلاحنا لهزيمة الجهل المقنع. ولكنه يعود متداركا ليقول: وأنه مهما تقدم العلم فسوف تظل الخرافة تحتل أعز الأمكنة في قلوب البشر لأنها كانت هي الأصل وهي التي قدمت للإنسان الوعد والسلوى يوم كان مهملا في عالم موحش ملغز خطير وأن الوعد حتى وإن كان كاذبا ليس بالشيئ الهين فهو للنفوس المغلوبة على أمرها أنيس الأيام. ولذلك يقال إن هناك تجارتين لا تعرفان البوار: تجارة الخُبز، وتجارة الوهم. ولأن الخرافة هي الأصل لذا.. فقد أغلق أبو الهول عينيه حقا.

مشاركة :