الكاتبة المصرية هالة البدري: الرواية فن لم يتشكل نهائيا بعد

  • 5/23/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

حققت الرواية العربية انتشارا واسعا لدى القراء ما دفع الكثير من الأقلام والناشرين إلى هذا الفن الأدبي الذي تجاوز الفنون الأخرى، وبات يمثل صوت العرب الأول في التعبير عن واقعهم المتقلب. في ما يلي حوار مع الكاتبة المصرية هالة البدري، حيث نتناول معها رؤاها حول الكتابة الروائية وتجربتها على امتداد عقود. تبدو هالة البدري في روايتها “نساء في بيتي” مؤرقة برواية تتكئ صراحة على سيرتها، ولكن لم تواتها الجرأة الكافية بعدُ لكتابتها، على الرغم من قولها لنفسها “لن أبقى خائفة من الحقائق إلى الأبد”. نسألها إن كان ذلك خوفا من المجتمع أم خجلا؟ لتقول “السن تعطي حصانة جميلة وما كان كبيرا جدا في الشباب لا يعود كذلك الآن، وقد تميزت كتابتي بالجرأة منذ البداية. الفن هو غايتي وحدها ولا تشغلني أحداث حياتي، فقد عشتها كما أردت ولم أندم أبدا على أفعالي ولم أكن مشغولة يوما بالكتابة عن نفسي بل بمشروعات كبرى أمثل فيها نقطة صغيرة وسط موج يضرب الصخر ليتحرر من أسر الأرض المحيطة”. وتضيف “لا تشغل بالك بالبحث عن حياة الكاتب داخل أعماله. تعجبني فكرة اللعب في الكتابة، ‏سيرتي ليست أكثر من صوت داخل العمل ‏حتى وإن اعتمد على حقائق.‏ ‏في روايتي ‘نساء في بيتي’ ذكرت صراحة وجود هالة البدري ‏وما كتبته عنها ‏وظفته في إطار الرواية نفسها ‏ ‏ليلعب دورا تخيليا كما فعلت مع باقي الأبطال وبنفس الكيفية”. الرواية والجنون عن كيفية تحقيقها التوازنَ المطلوب بين الحقيقة والخيال في كتابتها، توضح البدري أنها لا تحتاج إلى عمل أي توازنات؛ فالحقيقة ليس لها شكل واحد، ‏هناك الآلاف من الحقائق والآلاف من المرايا ‏والزوايا، وقراءة الحقيقة تختلف من شخص ‏إلى آخر. والفن، حسب رأيها، يقدم حقيقة أخرى ‏في إطار من وهم لذيذ وممتع. وتتابع “قد تكون المغامرة في كل عمل روائي جديد مطلوبة، سواء أكانت محسوبة النتائج أم مفتوحة على كل الاحتمالات. ‏بالطبع رغبتي الأولى هي الاحتمالات المفتوحة. لكن الاحتمالات ‏لا تتوقف على رغبتي وحدها؛ ‏هناك عوامل داخلية وخارجية تتحكم في الكتابة دون أن نشعر بها، ‏منها المرجعيات الثقافية على سبيل المثال ‏‏والتابوهات ‏والرقيب الداخلي. الكاتب يدرك هذا ويمارس ‏اللعب على كل الأصعدة ‏والمكر كذلك ‏مع نفسه ومع القراء. وبشكل عنتري سأجيب بأني أريد كل الاحتمالات المفتوحة‏، ‏وقد لاحظت ‏أن التقدم في العمر يعطي مناعة وشجاعة ويفتح احتمالات أكثر مغامرة. في العادة أترك نفسي على سجيتها ‏وتتحكم الرواية نفسها في اختيار شكلها. ‏طبعا أنا أفضل الخيال كثيرا على الواقع ‏وآخذ الواقع وأطير به ‏وكلما زاد الخيال خيالا كان أقرب إلى نفسي وإلى ‏متعتي في الكتابة”. البدري من جيل عايش هزائم متلاحقة من نكسة 1967 وما تلاها، وكان لتلك الهزائم وقع الصدمة القاسية على المجتمع العربي حينها، وتبين الكاتبة أنها كانت صبية في تلك الفترة (1967) ‏فيما تحمّل الجيل الذي سبقها كل تبعات النكسة. وتبعت النكسة أخطاء اجتماعية حول حرية التعبير في مصر، وبعد هذه التجربة أزيح جيل السبعينات من كل المناصب ‏وتمت محاربته على كل الأصعدة. وتظن أن الجيل اللاحق ‏كان المطلوب منه نماذج أخرى ‏تتخذ من الاستهلاك وسيلة حياة ‏للتبشير بالعو‏لمة، ‏لكن المثابرة وحدها ‏‏هي من أنقذ إنتاج جيلها ‏والقدرة على التنبؤ أيضا ‏ومحاسبة الماضي ‏بشجاعة في رواياته. تقول “‏نحن أكثر الأجيال إنتاجا. الآن ‏تأثر إنتاجي بكل ما قرأت في العالم العربي وأدركت ‏أن المحو ‏مطلوب كي ننسى تاريخنا ‏فقررت أن تكون ‏الذاكرة هي همي ‏ورحت أستصرخ الناس ‏لينتبهوا ‏ويحذروا من الأطر البراقة اللامعة ‏التي تخفي الحقيقة ‏وأذكرهم بما كانوا عليه ‏وما حدث معهم. ‏نعم ما حدث في العالم العربي لا يغيب عن كتاباتي أبدا”. نسأل البدري كيف تعرف الرواية بعيدا عن كل التعريفات النقدية والأكاديمية؟ لتجيبنا “‏الرواية فن لم يتشكل نهائيا بعد، إذ ‏يعتمد السرد والشعر أحيانا ‏ليصف الصراع ‏الذي يعيشه الإنسان من أجل الحياة ‏لتحقيق ذاته، ‏يعتمد على الحوار ووصف الشخصيات ‏والمنولوغ الداخلي ‏لتوصيف الحدث ‏أو الحكاية التي لم تعد مركزية الآن بعد أن ‏فقد الإنسان الفرد ‏دوره المركزي”. وحققت الرواية جماهيرية القراءة، حتى صار الكثيرون ينعتونها بديوان العرب، وهذا ما تؤكده البدري قائلة “‏نعم هي ديوان العرب الآن ‏وحققت الجماهيرية المطلوبة ‏بتحويلها إلى فنون أخرى ‏مثل التلفزيون ومسلسلاته والسينما وأحيانا المسرح، ‏هي المعبر الوحيد الآن عن الجنون الذي يجتاح العالم ‏الذي هو أجن من كل خيال ‏ولم تعد الواقعية الاشتراكية ولا الواقعية السحرية ‏ولا الواقعية القذرة ‏قادرة على التعبير عما يجري، ‏وعلى الكتاب البحث عن شكل آخر ‏تعبر به الرواية عن الجنون المتاح حولنا ‏بإفراط”. الرواية من حكاية تتشكل في خيال الكاتب إلى حياة كاملة على الورق. بينها يعيش الكاتب حياة أخرى بتفاصيلها الخاصة أثناء هذه الرحلة ولا تظهر للقارئ، وتلفت البدري إلى أنها تعيش مع أبطالها ‏في حياة كاملة حيث ‏تتعرف عليهم عن قرب ‏(دقائق حياتهم، ‏رغباتهم الخفية، ‏ألوانهم، ‏أمزجتهم، ‏طعامهم، ‏فلسفاتهم، ‏حيلهم…) حتى تصل إلى قلوبهم، تحادثهم ليلا ونهارا، و‏يشاركونها الطعام ‏ويسهرون معها أمام التلفزيون ‏وتستدعيهم للجلوس معها ‏بعد نشر الرواية ‏وأحيانا للدخول في رواية أخرى، ‏كما حدث في روايتها “نساء في بيتي”، ‏حيث استضافت ناهد بطلة “امرأة ما” لتجلس مع أبطال روايات أخرى ‏لكتاب آخرين، ‏هذا عالم الكاتبة الذي تحبه و‏تفضله على كل العوالم الواقعية، ‏تغير ملامح شخصياتها أحيانا ‏وتعيد تشكيلها عشرات المرات، ‏وحين تستقيم الشخصية أمامها ‏تصاحبها إلى الأبد ‏وتصبح جزءا منها. ويعيش الكاتب من قلق الفكرة إلى الخوف من الفشل، ولكن البدري تقول “‏القلق حالة دائمة، أنا إنسان قلق بطبعه، ‏لا أكف عن القلق حول كل شيء. ‏لا تشغلني الخيبات كثيرا، ‏أستمتع بالكتابة ولا أريد لها أن تنتهي أبدا. مع الكتابة ‏أبدأ القلق، حين أفكر في النشر يتحول كل شيء إلى وهم ‏وتنتابني رغبة‏ ‏في تمزيق كل ما كتبت ‏كي أبدأ من جديد، ومن أصعب لحظات حياتي ‏قرار النشر ‏والنقطة التي أضعها ‏لنهاية عمل ما”. بوكس ويقول يوسف إدريس “توفيق الكاتب الحقيقي هو في قدرته على أن يجعل القارئ يرى المكان ويتجول فيه”، وحول حضور المكان في نصها تقول البدري “بعض رواياتي روايات مكان بامتياز ‏مثل رواية ‘منتهى’ ورواية ‘مطر على بغداد’ ورواية ‘ليس الآن’. ‏أحارب النسيان بالكتابة ‏والمكان هو الوطن الملموس ‏حيث تراب الأجداد ‏والتاريخ ‏المطلوب محوه ‏لنقع في فخ تحويلنا إلى قوالب ‏لنتوافق مع متطلبات السوق. في ‏بعض الروايات الأخرى يحضر المكان ولكن ‏ ‏ليس كعنصر رئيسي، ‏لكنه موجود دائما ‏يوفر الأمان ‏والحماية، وفي الفضاء الممكن ‏في روايتي ‘مدن السور’ ‏تحرك الزمن بين الأماكن في الماضي والحاضر والمستقبل، ‏وكان التنبؤ ‏الذي لا يمكن إيجاده دون مكان. ‏في روايتي الجديدة ‘وادي الكون’ ‏المكان هو التاريخ والأسطورة ‏والفلسفة والسؤال ‏يمتزج الكل ‏فتكتمل أسئلة مصير الإنسان عبر الأزمان“. الكتابة الأولى تحولات أي مدينة لا بد أن تؤدي إلى تحولات مماثلة في الخطاب الذي يصدر عنها ويطمح إلى التعبير عن متغيراتها، نسأل الكاتبة المصرية إلى أي حد تغيرت اللغة الروائية مع غزارة الإنتاج الروائي؟ لتجيبنا “‏تغيرت لغة الكتابة ‏لتعكس لغة العصر؛ ‏رأينا الجمل القصيرة ‏المقتصدة ‏والإيقاع اللاهث ‏وتبادل الأدوار ‏بين المتن والهامش ‏وكسر الوهم ‏وإشراك القارئ ‏في صناعة الرواية نفسها، ‏هناك تغيرات في تركيب البنية ‏واختلاف ملامح الأبطال ‏وغياب أسمائهم ‏وكسر التابوهات ‏والتعبير بحدة عن الاغتراب ‏والفردية التي تعاني منها المدينة”. ما بعد النفط ليس كما قبله في الأرض العربية، هنا نسألها هل استطاعت الرواية طرح أسئلة التحول المجتمعي وتشريح الواقع المتغير؟ لتقول “‏ما بعد النفط، ‏ما بعد الاستعمار، ‏ما بعد الثورات، ‏ما بعد النكسات، ‏ما بعد الحروب، ‏ما بعد العولمة، ‏نعم استطاعت الرواية ‏أن تعكس التغيرات ‏المجتمعية العربية ‏بل حلت محل مؤرخ ‏السلطة ‏وقدمت صوت الشعب ‏ليسمع بوضوح، ‏وعرفنا لأول مرة ‏تاريخا آخر”. ويرى البعض أن مهمة النص الروائي أو من واجبه أن يطرح الأسئلة ويسائل الواقع، فيما يعتبر آخرون أن مهمته تمتد إلى الإجابة عن تلك الأسئلة لا طرحها فحسب. وتقر البدري بأن مهمة الفن عموما وضع الأسئلة ورمي حجر ‏في الماء الراكد ‏والكشف الذي يساعد القارئ ‏على رؤية المشهد ‏وإعمال العقل ‏لقراءته ‏مثل الطبيب الذي ‏يفتح ‏الجرح لينظفه، ‏لهذا يحلو للروائي ‏أن يكتب عن المسكوت عنه ‏ويكشفه للنور ‏ويترك للمجتمع ‏كيفية التطهر. ونتطرق مع الروائية إلى الحديث عن الواقع العربي المصنوع من خيبات كثيرة ونجاح قليل، وانعكاسه على الكتابة، تقول “تحولت الرواية إلى فن العربية الأول ‏بسبب هذه الخيبات. ‏الصراع الموجود في العالم يحتاج إلى ‏فن يناسبه ‏وقد حققت الرواية هذا الصراع ‏بتعبيرها عنه وابتلاعها كل أنواع ‏التعبير الأخرى، مثل الشعر ‏والقصة القصيرة ‏وحتى المسرح، و‏لم تعكس الخيبات وحدها ‏بل عكست الآمال أيضا ‏ودقت ناقوس وعي القارئ ‏وحركت وجدانه ‏ودفعته إلى تأمل واقعه”. نسأل البدري لماذا لم تحقّق الرواية العربية رهان العالمية رغم فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل منذ عدة سنوات؟ لتجيبنا “لم تحقق الرواية العربية منجزا كبيرا ‏حتى الآن لأن هذه الصناعة لم تحقق شروط ‏صناعة النشر في البلدان الأخرى. ‏النشر العلمي يحتاج إلى 60 ألف ‏نسخة كحد أدنى حتى يصير عالميا، ‏وإلى دعاية منظمة وندوات وتوكيلات للكتاب ‏وتوزيع له نظام خاص ‏وترجمة حقيقية ‏لا تعتمد على الترجمة الأكاديمية وحدها، ‏الترجمة التي تتم من اللاتينية ‏سريعة جدا، من الإيطالية ومن الفرنسية، عكس العربية”. أما عن الاطمئنان إلى المنجز الماضي واليقين الذي يقتل ولادة الأسئلة الجديدة، فتقر بأنها ‏لم تطمئن إلى المنجز أبدا، وتقول “‏على العكس كأني أكتب روايتي الأولى؛ ‏كل كتابة جديدة بالنسبة إلي كأنها كتابة ‏لأول مرة وبالتالي أحس أنني ‏قمت ببروفة للبداية في الكتابة ‏لأني لم أكتب بعد ما أريد”.

مشاركة :