عاشت الكاتبة البريطانية دوريس ليسنج، الحائزة على جائزة نوبل 2007، حياة عاصفة منذ طفولتها، إذ نشأت في أسرة يسودها الاضطراب، ثم تكررت المأساة أثناء زواجها الأول. عانت دوريس من القمع الذكوري في المنزل، ورأت بعينها القمع العنصري في جنوب إفريقيا، حيث كانت تعيش مع أسرتها، وهو ما جعلها تتخذ موقفاً رافضاً لمؤسستي الأسرة والدولة، وسرعان ما تحول هذا الموقف إلى رؤية سوداوية للعالم. تجلى خلاص دوريس في الانضمام إلى الحزب الشيوعي في جنوب إفريقيا عام 1942، وأسهمت فيه بنشاط ملحوظ جعلها هدفاً للاستخبارات البريطانية لمدة عشرين عاماً. بدأ تجسس الاستخبارات البريطانية على دوريس ليسنج عام 1944، بعد خطاب من وزارة الطيران البريطانية إلى جهاز الاستخبارات يُحذر فيه من ناشطة شيوعية بمدينة سالزبرج (مدينة هراري الآن) استهدفت أعضاء فريق من مُدربي الطيران. ويحتوي ملف دوريس لدى الاستخبارات تقارير مُراقبة وتسجيلاً لمحادثات وصوراً من خطابات مُتبادلة بينها وبين رفاقها في الحزب. ولقد زادت وتيرة التجسس عليها بعد انتقالها للإقامة في بريطانيا منذ عام 1949، خاصة وأنها نالت شهرة كبيرة عقب صدور روايتها الأولى العشب يغني عام 1950. ترجع أهمية هذه الوثائق، التي تم الكشف عنها في أغسطس/آب 2015، إلى توفير الكثير من المعلومات حول الكاتبة الشهيرة التي تتسم مذكراتها الشخصية بالارتباك ونقص المعلومات والتضارب في التواريخ. لكن ملف دوريس لا يخلو هو الآخر من التضارب في عمليات الرصد والمُراقبة التي أجرتها عناصر الاستخبارات حول أماكن إقامة دوريس وأنشطتها وأسفارها، ووقوع أخطاء في اسمها واسمها الحركي وأسماء رواياتها. لكن الجانب المثير للاهتمام في الأمر هو مجموعة من الوثائق التي تقدم تحليلاً أدبياً لروايات دوريس وعلاقة محتوى الروايات بمواقفها الفكرية والسياسية. ويرى البعض أن اختفاء عدة وثائق من الملف يُعزز المزاعم بشأن محاولة عناصر الاستخبارات لتجنيد دوريس للتجسس على الحزب الشيوعي البريطاني، وهي مزاعم غير مؤكدة، يرجع إلى انقلاب الحزب الشيوعي في جنوب إفريقيا عليها فور نجاح روايتها الأولى. ومن الصعب تصديق هذه المزاعم خاصة أن دوريس استقالت من الحزب عام 1956، احتجاجاً على اجتياح الاتحاد السوفييتي للمجر لقمع الانتفاضة الجماهيرية هناك. وما ينفي استخدامها من جانب الاستخبارات للتجسس على الحزب، وإلا لاستمرت في عضويته رغم أي خلاف فكري. تطرح فكرة التجسس على دوريس علامات استفهام كبيرة، خاصة وأنها كانت تمارس أنشطة علنية، بل وتكتب عنها في الصحف كذلك. ولقد وصفها أحد التقارير بأنها: تقوم بتوزيع الأعمال الأدبية الشيوعية علناً، وتتخذ موقفاً مُعلناً ضد الإمبريالية والعنصرية. كما أن استمرار المُراقبة حتى بعد استقالتها من الحزب يثير الاندهاش. وتُرجح دراسة أجرتها جريدة جارديان لهذه الوثائق أن مُراقبة دوريس لم يكن لها أي جدوى من الأساس، وأن الاستخبارات البريطانية تجسست عليها فقط كجزء من الحرب الباردة، وكنوع من الغزل للولايات المُتحدة التي شهدت موجة متصاعدة من العداء للكتاب والفنانين الشيوعيين. وكانت الحكومة البريطانية قد اتخذت إجراءات مشابهة لما فعلته لجنة مكارثي الأمريكية، ومنعت الشيوعيين من الالتحاق بالوظائف الحكومية أو العمل في هيئة الإذاعة البريطانية، والتجسس على المُبدعين منهم. ومن الملامح المهمة التي كشفت عنها هذه الوثائق هي علاقة دوريس بالحزب الشيوعي البريطاني، ورفضها الحازم لتسلط قادته. لقد كتبت، في مُذكراتها، عن انضمامها للحزب رغم خيبة أملها في بعض المواقف السوفييتية، أملاً في تصحيح المسار الاشتراكي مُستقبلاً، ثم أشارت إشارة عابرة إلى أنها سُرعان ما انشقت عنه دون إبداء الأسباب. وتكشف وثائق الاستخبارات عن حوارات تم تسجيلها لقادة الحزب يمكن أن نستشف منها ملامح المعركة الفكرية التي أدت إلى استقالتها من الحزب. لقد كشفت بعض التسجيلات عن تقدير الحزب لدورها الأدبي، واعتبارها الجناح الأدبي للحزب في البداية. ولكن الحزب انقلب عليها بسبب موقفها من أزمة المجر، وكشف حوار بين قادته أنهم لن يستسلموا لرؤية بعض المثقفين من أمثال دوريس. وعلى الجانب الآخر، لم تستسلم هي لتعنت قيادة الحزب، ونشرت خطاباً في مجلة ريزونر تشكو فيه من رفض الحزب للإنصات إلى ما يُسميه انتقادات المُثقفين، ورغبتهم في تبني الحزب لمواقف أكثر واقعية. احتجت دوريس على الطريقة التسلطية لقيادة الحزب، وأصرت على موقفها من اجتياح المجر، وانضمت إلى مجموعة من المثقفين في التوقيع على بيان يرفض الاجتياح ويُندد به. وقالت إنها انضمت إلى حركة تسعى إلى إقامة دولة العدل والحرية، ويجب أن تكون حرية التعبير هي الخطوة الأولى. وفي 23 نوفمبر/تشرين الثاني، أي بعد أقل من شهر على اجتياح المجر، اكتشفت عناصر الاستخبارات من تسجيل لحوار بين قادة الحزب أن دوريس استقالت وقطعت صلتها بالحزب، وأنهم لا يهتمون بهذا الأمر، وتحدثوا عن ضرورة إقصاء أمثالها من المُثقفين عن الحزب. ولم تتوقف دوريس عن الاهتمام بالشأن العام بعد استقالتها، أو تكتفي بمشروعها الأدبي الناجح، خاصة وأنها كانت غزيرة الإنتاج إلى حد ما، وسُرعان ما انخرطت في عدة نشاطات مثل الدعوة للسلام، ووقف سباق التسلح النووي، مع استمرارها في مناهضة سياسة التفرقة العنصرية، ودعم حركات التحرر الإفريقي. بالطبع لم تكن خطوة استقالتها أمراً هيناً، خاصة في ضوء تصوراتها عن الحزب ودوره التاريخي، التي كثيراً ما انعكست في أعمالها الأدبية، ففي رواية موجة من العاصفة، يقول أنطون: على المرء التضحية بأي شيء من أجل الحزب، بعائلته، وبزوجته، وبأولاده. ولكن هناك جانب خفي آخر في شخصيتها قد يُفسر استقالتها، فقد كتب أحد المُكلفين بمُراقبتها تقريراً يصفها فيه بأنها: سيدة جميلة وجذابة وقوية، تعمل بنشاط بالغ، وتدافع عن قناعاتها بشراسة.
مشاركة :