يُعرِّف خبراء التربية «العنف» على أنَّه السلوك الذي يقوم به أحدهم فيلحق ضرراً مادياً أو معنوياً أو كليهما بفرد آخر، ومن أنواع هذا السلوك: الضرب بأنواعه، والتسبّب في كسور أو جروح جسدية أو نفسية، إلى جانب الطرد والسب والشتم، وكذلك الاعتداءات الجنسية وحبس الحرية، إضافةً إلى الحرمان من الحاجات الأساسية. ووفق أحدث الإحصاءات الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية، فإنَّ (45%) من إجمالي أطفال المملكة يتعرضون للعنف، الأمر الذي يعني أنَّ نصف أطفال المملكة تقريباً يتعرّضون لأنواع مختلفة من العنف، وهي نسبة كبيرة جداً ومخيفة. كما أنَّها تشير إلى وجود خلل كبير في نوازع الرحمة لدى بعض أفراد المجتمع، خصوصاً إذا علمنا أنَّ الوالدين يشكلان النسبة الأكبر من المُعنِّفين للأطفال، وذلك بنسبة بلغت (74%)، فيما يُشكِّل عنف الإخوة والمعلمين والعمالة المنزلية والمُعنِّفين الغرباء ما نسبته (14%)، في حين بلغت نسبة المُعنِّفين المجهولين (12%). ضعف برامج الحماية الاجتماعية وأشار الشيخ حمد الزيد - رئيس محكمة الأحوال الشخصية بالرياض - إلى أنَّ ما حدث في السنوات الأخيرة من طفرة في وسائل ومواقع التواصل الاجتماعي قد حمل معه بعض الجوانب الإيجابية، كما أنَّ دخول ثقافات أخرى على المجتمع كان له أثر سلبيّ على بعض أفراد المجتمع، ومن تلك الآثار تزايد حالات إيذاء الأطفال، بل وصل الحال لحصول ذلك من الأبوين، موضحاً أنَّ هذا النوع من أشد أنواع الإيذاء ألماً ضد الأطفال، إذ أنَّه المفترض أن يكون الوالدان هما مصدر الحماية والطمأنينة. وبيّن أنَّ ولي الأمر المُعنِّف للطفل تعنيفاً يرقى إلى الجريمة يمارس شكلاً من أشكال التعذيب والظلم المحرم شرعاً، الذي يستوجب العقوبة المناسبة لحجم الجريمة وجسامتها، كما أنَّ الجريمة تستوجب إسقاط الحضانة من المعنف للطفل وتستوجب أيضاً أخذ الحيطة في مسألة الزيارة والرؤية للصغير بما يحقق المصلحة ويدفع المفسدة المتوقعة ضد الطفل، مُضيفاً أنَّ هناك جهوداً مبذولة في الآونة الأخيرة لحماية الطفل المعنف، لكنَّها تظل في بداية الطريق لحل هذه المعضلة. وأضاف الزيد أنَّ الإمكانات الموجودة حالياً في هذا الجانب تحتاج لبذل جهد أكبر من الجهات ذات العلاقة، كما تحتاج إلى تضافر الجهود والتعاون البنَّاء بين الجهات الحكومية لكي تؤتي النتيجة المرجوة، موضحاً أنَّ أسباب التعنيف ضد الصغار لا يمكن حصرها، بيد أنَّ من أهمها ضعف الوازع الديني، وتعاطي المسكرات أو المخدرات، والاضطرابات النفسية، والأمراض العقلية، والتطرف الديني، إلى جانب الغضب والتعصب، وكذلك الضغوطات المحيطة، إضافةً إلى الحالة الاقتصادية وعدم التوافق الزوجي. وأوضح أنَّ من أسباب التعنيف ضد الصغار أيضاً ضعف برامج الحماية الاجتماعية، إلى جانب وسائل الاتصال الحديثة والإعلام عموماً، إذ إنَّها تنقل العنف المنتشر في المجتمعات الأخرى، مُشدِّداً على ضرورة حث أفراد المجتمع على التراحم والترابط الأسري وفق تعاليم الإسلام السمحة، إلى جانب سرعة عرض المصابين بالأمراض النفسية والعقلية من أفراد الأسرة على الأطباء المختصين لعلاجهم، وكذلك إيقاع العقوبات المقررة شرعاً على المعنفين لأطفالهم، ومنها نزع الولاية من غير الكفء إذا ثبت عدم كفاءته وإعطاؤها لأقرب ولي، إضافةً إلى إنشاء دور رعاية وإصلاح لضحايا العنف الأسري. التربية بالضرب! وقالت بثينة الرازي: «معظمنا ضربنا في طفولتنا، هكذا تربينا وهكذا نربي أولادنا، حيث نعاقبهم بالضرب حين يكون العقاب ضرورياً لعلاج سلوك خاطئ اقترفوه، وليس من المعقول ولا المقبول أن نترك الصغار بلا توجيه أو تربية، أو نكتفي بترديد أنا زعلان منك يا حبيبي، فمثل هذه العبارة لا تؤدب، ومهما قال علماء التربية، فقد أثبت الواقع أنَّ بعض الحزم مع الأطفال في الوقت المناسب وبقدر مقبول يفي بغرض التربية على النحو الأكمل». دوافع ذاتية وأكَّدت د. موضي الزهراني - أخصائي نفسي أول وخبيرة في مجال حماية الطفولة - أنَّ تعنيف الأطفال غالباً ما يصدر من الأسرة، وكثيراً ما يصدر من الوالدين، على الرغم من أنَّ المتوقع أنَّهما مصدر الحب والحنان، إلاَّ أنَّ هناك دوافع كثيرة تختلف من أسرة لأخرى، وأكثرها انتشاراً الدوافع الذاتية، التي ترتبط بشخصية ولي الأمر المُعنِف، كاضطراب الشخصية أو عدم استقرار حالته النفسية أو لسوء معاملة تعرض لها في صغره وأثرت في تكوينه الشخصي ومفاهيمه التربوية، الى جانب الدوافع الخارجية، كالظروف المادية والفقر، التي تُشكل ضغطاً ودافعاً لايستهان به لإيقاع العنف على الطرف الأضعف الذي أمامه. ورأت أنَّ إجراءات مكافحة الظاهرة ليست رادعة بالشكل المطلوب، رغم صدور نظام الحماية من الإيذاء ونظام الطفل، مُرجعةً السبب إلى أنَّنا لا نحارب عنفاً وقتياً فقط، بل نحارب ونواجه عادات وتقاليد قديمة ومفاهيم اجتماعية خاطئة بشأن السلطة الذكورية والملكية الأبوية، التي إذا لم يتمّ تحجيمها، فإنَّنا سنكون فاشلين في تنفيذ أنظمة حماية الطفل وإجراءاتها بسهولة، كما أنَّ ذلك سيأخذ منَّا وقتاً وجهداً كبيرين، مُشدِّدةً على أهمية تكاتف جهود الجهات المعنية في هذا الجانب. شرطة أسرية ولفتت موضي الزهراني إلى أنَّ ذلك لن يتحقق إلاَّ بوجود الشرطة الأسرية في مراكز الشرط، للتحرك وإنقاذ الأطفال المعنفين في وقت قياسي في حال تمَّ التبليغ عنه من خلال وحدات الحماية الاجتماعية، إلى جانب انتشار المحاكم الأسرية في مختلف المناطق، لإنقاذ الأطفال من سيطرة الملكية الأبوية وحرمان الأمهات من حماية ورعاية أطفالهن، مُضيفةً أنَّ مرحلة الطفولة بمستوياتها المختلفة من أهم المراحل العمرية في حياتنا، فإذا تعرض فيها الطفل لمواقف صادمة لنفسيته ولم يتمّ تدارك ذلك عاجلاً واحتواءه، فإنَّه سيكون مُعرضاً لمشكلات سلوكية ونفسية مستقبلاً. وأضافت أنَّ ذلك يكون بشكلٍ خاص في مرحلة البلوغ، فإذا لم يتمّ التعامل معها بصبر وحكمة، فإنَّها تتلاحم مع المشاعر السلبية المكبوتة بداخل الشاب ويصدر منه سلوكيات عدوانية واضحة ضد الآخر، وبذلك تنتقل تلك التراكمات لمراحل لاحقة، وقد لا تظهر بقوتها إلاَّ بعد الزواج، خصوصاً لدى بعض الشخصيات المهزوزة، موضحةً أنَّ القصص كثيرة ومؤلمة في هذا الشأن، إذ عايشتها خلال (12) عاماً في مجال عملها مع حالات العنف الأسري، إلاَّ أنَّ من أكثرها إيلاماً تخلَّي إحدى الأمهات عن طفلها البالغ من العمر تسع سنوات بعد طلاقها التعسفي. معتقدات خاطئة ورأت بيان زهران – محامية - أنَّ هناك ثمَّة تطورا إيجابيّا حدث على ظاهرة تعنيف الاطفال، حيث قلَّص منها قليلاً، بسبب انتشار الوعي بخطورة العنف والآثار الاجتماعية المترتبة على وقوعه، فضلاً عن وجود نظام الحماية من الإيذاء، الذي ساهم بشكل أو بآخر في تقليص ارتكاب جريمة العنف، مُضيفةً أنَّ دوافع وجود هذه الظاهرة قد تعود لمعتقدات خاطئة، ومنها أنَّ الضرب حل لعقاب الأطفال، في الوقت الذي تشير فيه العديد من الدراسات إلى أنَّ الضرب أو التهديد به يُسهم إمَّا في عناد الطفل أو إرهابه، بحيث يصبح أكثر إنطواءً وعزله. وأضافت أنَّه تمَّ توفير خط هاتفيّ مجانيّ لمساندة الطفل، إذ يمكن للطفل من خلاله الاتصال مباشرة، حتى إن كان الجوال لا يحمل أيّ رصيد، حيث يتمّ الرد على الطفل بطريقة تناسب عمره؛ لتُمكّنه من التصرف الصحيح، سواءً من الجانب النفسي أو السلوكي أو القانوني، مُشيرةً إلى أنَّه ينبغي على جميع مدارس المملكة نشر هذا الرقم، خصوصاً المدارس الابتدائية؛ لكونه يساهم في علاج هذه المشكلة بطريقة صحيحة، مُبيِّنةً أنَّ الرقم هو ()، لافتةً إلى أنَّه مُخصَّص أيضاً لتلقِّي بلاغات العنف ضد المرأة. وشدَّدت على أهمية تولِّي هيئة التحقيق والادعاء العام التحقيق مع الطفل المُعتدى عليه، إلى جانب التعاون مع متخصصين وأطباء نفسيين في مجال الطفل بشكل خاص، حتى يتمّ التعامل معه وفق منهجية صحيحة يعلمها الطبيب المعالج ويرفع بها تقريراً للجهات ذات العلاقة، حتى تأخذ قرارها بشكل وافٍ ودقيق. وعي المجتمع وأشار د. فهد الجبير - استشاري أطفال وأمراض معدية، ورئيس لجنة حماية الأطفال من العنف والإيذاء بمدينة الملك سعود الطبية - إلى أنَّ كل طفل تعرض إلى إساءة معاملة من قبل أحد أفراد الأسرة هو طفل مُعنَّف، مُضيفاً أنَّ هناك أنواعا عديدة من الإساءة للطفل، ومنها: الإساءة الجسدية والنفسية والجنسية والإهمال، موضحاً أنَّ الاجراءات التي يتبعها المستشفى حينما يستقبل طفلاً معنفاً تبدأ بتقديم العلاج الطبي اللازم، ثمَّ إبلاغ لجنة الحماية، التي تجتمع مع الفريق الطبي لتُقيّم الحالة طبياً ونفسياً واجتماعياً، وبعد إقرار الحالة يتمّ اتّخاذ الإجراءات المعتمدة. وأضاف أنَّ الاجراءات المتّبعة في هذا الجانب تتمثَّل بالتحفُّظ على الطفل وإبلاغ الجهات المعنية وتسجيل الحالة في السجل الوطني، لافتاً إلى أنَّ هناك زيادة في عدد الحالات المسجلة، موضحاً أنَّ ذلك لا يعني بالضرورة زيادة حدوثها، إنَّما تعكس وعي العاملين الصحيين والمجتمع في الإبلاغ عن الحالات، مؤكِّداً أنَّ هناك صعوبة كبيرة في التعامل مع ولي الأمر المُعنِّف، إلاَّ أنَّه يتمّ التعاون مع الجهات ذات العلاقة، مثل: الخدمة الاجتماعية والأخصائيين النفسيين ولجنة الحماية في وزارة الشؤون الاجتماعية وبرنامج الأمان الأسري، لتقييم وضع الأسر المعنفة ومساعدتها في التغلب على الأسباب التي أدَّت للعنف ومنع تكراره.
مشاركة :