اللبنانية منى طراد دبجي تبحث عن الجنة المفقودة وشاعرية الأمكنة

  • 5/25/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تبحث الفنانة التشكيلية اللبنانية منى طراد دبجي، حتى في الأوقات الأكثر تأزما وسوادا، عن الجمال في كل ما يحيط بها، فهي تحاول دوما تتبع خصائص الأمكنة ومكمن الحياة فيها، لتصوّر للمتلقي الجنة المفقودة التي يبحث عنها الإنسان وينسى أنها جنة تنبع من داخله. البحث عن الجنة المفقودة هو موضوع قديم جدا تناوله العديد من المبدعين إن كان شعرا أو أدبا أو فنا تشكيليا. جنة تسعى إليها العلوم أيضا وكل بطريقته الخاصة. ولكن يبقى الفن والشعر الأقرب إلى مزاج الإنسان الذي لا يريد التخلّي عن خصاله ولا المساومة على أحلام فردوسية فيها خضرة الأشجار في البساتين والغابات أو هناء دواخل البيوت الملونة بأصحابها وأشيائها ومخلوقاتها الأليفة. قدم قصر سرسق معرضا للفنانة التشكيلية اللبنانية منى طراد دبجي تحت عنوان "الجنة المفقودة" منذ منتصف شهر أبريل الماضي واستمر حتى السادس من مايو الجاري. عاد ريع قسم من المبيعات إلى ترميم قصر سرسق الذي تعرض إلى دمار كبير جراء انفجار مرفأ بيروت في أغسطس سنة 2020. أول ما يتبادر إلى ذهن قارئ العنوان أنه معرض يتغنى بالخضرة النضرة والطبيعة الغناء بعيدا عن اكتساح المدنيّة بضوضائها جميع السبل المؤدية إلى أماكن فقدت أحلامها ورضخت تحت أمر واقع الإسمنت بكل ما يحيل إليه من أفكار سلبية حتى إن أشار إلى معنى الثبات الموثوق الذي يربط الأماكن ببعضها البعض بسهولة وسرعة أكبر. غير أن ما يحضر في معرض الفنانة منى طراد دبجي هو الجنة الداخلية، إذا صح التعبير. أما مفردات هذه الجنة فهي شديدة البساطة وكثيرة الدلالات: قهوة عربية بفنجان تقليدي وحيد، أو فنجانين في لوحات أخرى، وقطط بيضاء ورمادية اللون لا تفارق صاحبتها حتى وهي في عزّ غفلتها عما يحيط بها، ومسبحة بأحجارها الزرقاء المنعشة تزيّن المشاهد المرسومة من ناحية ومن ناحية أخرى تقوم سحريا بطراوة خيوطها الدقيقة بتمييع الوقت والتخفيف من دراميته. معرض الفنانة منى طراد دبجي هو الجنة الداخلية، إذا صح التعبير، بمفرداتها شديدة البساطة وكثيرة الدلالات صحيح أننا وجدنا في لوحاتها العديد من العناصر التي تشير إلى تلك الفترة الزمنية التي عاشها العالم بأسره ومنها الهاتف الجوال الذي كنا نتلقف منه أخبار الوباء وانتشاره، وذلك إلى جانب عناصر أخرى وجدناها سابقا وكثيرا في لوحاتها كالقطط وفناجين القهوة والكتب ذات الخط العربي والمسابح لاسيما الزرقاء والمقاعد المريحة والمزركشة والحلي التي تزدان بها بطلات لوحاتها وهن منشغلات بمد طلاء الأظافر. غير أن كل تلك المفردات -وأحيانا بحذافيرها الكثيرة- اكتسبت معنى جديدا اليوم، فهي مفردات الحجر الصحي والمكوث الجبري داخل البيوت المُقفلة لمدة قاربت عاما كاملا.ويذكر البيان الصحافي المرافق للمعرض أن الفنانة أنتجت معظم الأعمال المعروضة في فترة الحجر الصحي التي صاحبت جائحة كورونا. لكن ذلك لم يعتّم ألوان الفنانة ولا أجواءها الساحرة الهادئة التي تشي بجنة "محفوظة" أكثر مما هي مفقودة؛ وذلك لنصاعة وإشراقة ألوانها. لا غرابة في ذلك فمن اعتاد الأجواء الفردوسية في المنازل النظيفة والملونة والمرتبة، ومن كانت له هوايات وأعمال يمكن ممارستها في وحدة المنزل كالقراءة والكتابة والرسم والاهتمام بالنباتات والحيوانات الأليفة والتأمل في سكون الأجواء واختلاف ساعات النهار وتبدل الظروف المناخية وسرحان الغيوم في السماء وغيرها من الممارسات العديدة، التي كانت غير ملحوظة أو تافهة بالنسبة إلى الكثيرين، لن يجد من المكوث في المنازل سببا أساسيا من أسباب الانهيار العصبي الذي أصاب الكثيرين حول العالم، لاسيّما هؤلاء الذين لم يستطيعوا الاستغناء عن الهرج والمرج والحفلات والتجمعات خارج المنزل و"أسواره". الجائحة عمقت حساسية الإنسان تجاه الآخر الجائحة عمقت حساسية الإنسان تجاه الآخر بقيت المرأة في لوحات الفنانة منى طراد دبجي هانئة في بيتها وهي بالرغم من عريها ليست مرسومة بحسية مفرطة كما هي في لوحات الفنانين الذكور. رسمتها الفنانة وهي مستريحة حينا وحينا آخر مقيمة حوارا هادئا مع قطتها ذات العينين الزرقاوين. وما زالت المرأة في لوحاتها الجديدة محور اللوحات التي يتحلق حولها كل شيء وكل الكائنات اللطيفة المسرورة برفقتها. رسمتها كعنصر جمالي متصالح مع نفسه ومع ما حوله من كائنات "متفهمة" كالقطط والفناجين المليئة بالقهوة. وتذكّر كل خلفيات اللوحات ببلاط البيوت التقليدية في بيروت. وقد عثرت في إحدى لوحاتها على بلاط طبق الأصل الذي كان على أرض بيت خالتي في منطقة الصنائع البيروتية. كانت شمس في فترة العصر تنشر ضوءها البرتقالي على تلك المساحة لتنعكس داخل الغرف دفئا وفرحا لطيفا. وكثيرا ما كان موعد شرب القهوة مع الجارة يشبّع أجواء المنزل بعطره في هذا الوقت تماما. المرأة ما زالت محور اللوحات التي يتحلق حولها كل شيء وكل الكائنات اللطيفة المسرورة برفقتها لذلك ابتسمت حينما قرأت كلمات الفنانة في البيان الصحافي المرفق بالمعرض "هناك ذكريات لا تفارقك أبدا.. ضحكات أطفال في الحديقة أثناء فترة العصرونية". والعصرونية هي تعبير يشير في لبنان إلى زمن محدد، أي الفترة التي تسبق بداية الغروب، وإلى وجبة الطعام الخفيف التي كانت تقدم عندئذ في المنازل لاسيما للأطفال. وجبتنا أنا وأخواتي كانت حينها سندويتشات من اللبنة والزيتون وعصير التوت الطبيعي. أما الفنانة، في سياق الذكريات الطفولية التي تلون المخيلة وتحفظ الروح من انتهاكات الأزمات اللبنانية المتعاقبة، فتقول في نصها المؤثر حول معرضها “كان الربيع يجيء مع عطور أشجار البرتقال وأزهار الغاردينيا وأصوات الباعة من الشارع بكلماتهم المُلحّنة والغائمة الكلمات. وكانت السجاجيد تفرد على حافات الشرفات معلنة انتهاء فصل الشتاء. وكانت أغطية المقاعد المزركشة بالزخرفة ورسومات الأزهار المتداخلة تؤثث المنزل وتنزع عنه صفة الفراغ..". وتستطرد منى قائلة "مع الحرب اختفت الذكريات بتدمير أعداد كبيرة من البيوت التقليدية.. إرث سيبقى في قلوبنا طالما حيينا. بيوت وطننا، الصيف، العطل، عالم قاب قوسين أو أدنى من الاختفاء التام، جنتنا الضائعة". يُذكر أن الفنانة ولدت عام 1950 وتخرجت من الجامعة الأميركية مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. منذ عام 1993 وهي تقوم بتدريس الرسم. أقامت معرضها الشخصي الأول في بيروت عام 1992 ومعرضها آنذاك كان له موضوع محوري في فنها وفي فنون وأحلام معاصريها وهو عن بيروت المدينة المدمرة وورشة إعادة الإعمار. وللفنانة معارض فردية عديدة داخل وخارج لبنان. ومن المعارض نذكر تلك التي قدمتها في الولايات المتحدة وفرنسا والأردن والإمارات العربية المتحدة.

مشاركة :