الصحراء العربية أكثر من واحدة وكلها تبحث عن جنتها المفقودة | محمد الحمامصي

  • 9/29/2021
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

للصحراء أثرها الكبير في الثقافة العربية، فلا تكاد تخلو واحدة من الدول العربية من منطقة صحراوية، وتركت الصحراء أثرا كبيرا في الأدباء والشعراء وكتّاب الرواية، حتى أن هناك من الروائيين من اختص بالكتابة عنها لما تزخر به من أساطير وحكايات وعوالم ملهمة ضاربة في عمق المخيال والجمال والحكمة. تتناول الكاتبة الروائية ميرال الطحاوي في كتابها “الأنثى المقدسة.. أساطير المرأة في الصحراء” رواية الصحراء أو الرواية التي اتخذت من القبيلة وأعرافها وأنساقها الاجتماعية عالما، عبر مجموعة من الروايات أكدت أنها اختارتها ودرستها كونها قريبة من روحها وعوالمها وهواجسها وأسئلتها الخاصة، مثل روايات عبدالرحمن منيف وإبراهيم الكوني ورجاء عالم وأحمد أبودهمان وأحمد ولد عبدالقادر. وتقرأ الكاتبة الصحراء باعتبارها وعاء ثقافيا خاصا وعالما شديد الانحياز إلى عزلته وتراثه وقيمه وأعرافه التي تحكمها أعراف مقدسة مثل كل المجتمعات البدائية التي يشكل فيها العرف أو التابو قانونا للمقدسات، وهو مجتمع يتكئ على الطقس الأسطوري في تفسيره للأحداث الكونية. هيمنة المقدس تقول الطحاوي إنه لما كانت الصحراوات العربية متنوعة عرقيا، فإن تشكيلاتها الثقافية وبطونها وأصولها متعددة، فهي تنقسم من حيث الجغرافيا – على أقل تقدير – إلى منطقتين متمايزتين: الصحراء الكبرى الأفريقية، وهي تشغل منطقة شديدة الجفاف تضم أجزاء من موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا، وتسكنها العديد من القبائل ذات الأصول العربية، لكنها – عرقيا – أرض أهل اللثام، كما سماها الرحالة، وموطن قبائل الطوارق والأمازيغ. الكاتبة ميرال الطحاوي تقرأ الصحراء باعتبارها وعاء ثقافيا خاصا وعالما شديد الانحياز إلى عزلته، وتراثه وقيمه وأعرافه المقدسة وتضيف “أما الكتلة الصحراوية الثانية فهي جزيرة العرب واستثنينا في ذلك دول الخليج لأنها تمثل قطاعا مختلفا عن قلب الجزيرة؛ الذي هو نجد والحجاز واليمن أو المملكة العربية السعودية واليمن. حيث تعد من أكبر الصحارى وأكثرها قدرة على تشكيل الحالة النموذجية للصحراء”. وتشير الطحاوي إلى أن الصحراء تفرض شروطها المكانية في علاقاتها المقدسة مع الزمن ومع المكان ومركزيته، ومع الكائنات الأرواحية كالجن وما شابهها، ومع طقوس التضحية والقربان، وعلاقة الصحراء بالفكر الإنساني البدائي تنبني على تصور ما للقدسية، وبذلك يشكل المقدس في تشكيلاته إطارا للعقل القبلي، والديانات السماوية الكبرى كان لها اتصال وثيق بهذا العالم. وترى أن القبيلة محكومة حتى في نزوعها السياسي بصور المقدس، ويتجلى المقدس في تلك الحياة عبر الثورات الدينية الكبرى، ثم في صيغة الحاكم الذي يكتسب سلطته من سلطة المقدس السماوي نفسه، إنه الراعي في العرف القبلي، وهم الرعية المحتاجة إلى رعاية، وقد اتخذت الرواية في هذا الإطار سبيلا إلى تفسير السياسي بتفكيك منظومته القبلية كما شاهدنا في رواية “مدن الملح” لعبدالرحمن منيف أو تحليل معنى الشرف، وقد يشبه النسل المقدس، كما تقدم “الرهينة” لزيد مطيع دماج الشعور القبلي لمفهوم الأشراف الذين ينحدرون من قريش أو من الهاشميين، ويصبحون سلطة سياسية قبلية وأحد التابوهات المحرمة سياسيا مهما يكن الوضع السياسي منحدرا. وتلفت الطحاوي إلى أن الرواية الصحراوية – من الاستقراء العام – تتشكل في رحم المقدس بكل تجلياته المكانية والزمانية ومفهوماته الأخرى للنسب والعرف والطقس والقربان والمدنس، مضيفة “لقد أردنا من ربط الدراسة بالمقدس أن نثبت معاملا من المعاملات النصية أو العلامات كي تتكشف العلائق بين النص وعالمه، فإن كان النص يقارب المقدس والتاريخي والرمزي والإحالي ويتخذ علامات بنائية معينة تصلح للدراسة بصور المقدس كما فعل بروب في ‘مورفولوجيا الحكاية الخرافية’ أو شتراوس في ‘بني القرابة’، فإن النصوص التي نطلق عليها صحراوية بالمعنى الثقافي، بدائية بالمعنى الأنثربولوجي، رعوية بالمعنى الاجتماعي، هي نصوص تتقاطع مع تجليات المقدس والأسطوري والتاريخي، وتأثير المكان يتعدى إلى بناء الذهنية القبلية والتصورات المتصلة بالكون والحياة والتاريخ”. وتحاول الطحاوي في دراستها العثور على البنية العميقة للمكان وأثره في تشكيل النص عبر تتبع عنصر واحد هو “المقدس”، وتقول إن “استقراء الأعمال – مناط الدرس – أكد انشغال النصوص بصور المقدس، المدن المقدسة، الإثم والقربان والأضحية البشرية، التصور الأسطوري للقوى الكونية، الزمان المقدس الذي تحاول الصحراء استعادته عبر الجنة المفقودة، الواحة الضائعة، المرأة وصورتها الجنسية وعلاقتها بالمقدس، بالغواية، بالخروج من الجنة، المقدس السياسي والتصور الرعوي للحاكم الراعي، وللبركة والأولياء والأشراف حيث يمارس المقدس سطوته عبرهم، وتتقبل العقلية البدوية ذلك باعتبار السلطان شيخ القبيلة الشريف الولي يكتسب سلطته الدينية مما هو عرفي أو غيبي، وبذلك تظل المجتمعات القبلية – من الناحية السياسية – محمومة بمقدسات وغيبيات ومذهبيات كثيرة”. وتؤكد الكاتبة أن الصحراء التي اشتغلت عليها في الدراسة “ليست مجرد عنصر من عناصر الجمال الخارجي” وأنها اختارت “الاشتغال على المتن الذي يمس البناء القبلي الرعوي، الذي يشكل بنية مجتمعات معزولة على هامش المدينة، عوالم ليست سياحية أو عابرة في رحلة البطل، إنها تسهم في تشكيل وعيه وتصوره للوجود”. Thumbnail حول صحراء الجزيرة العربية روائيا توضح الطحاوي أن الصحراء كمعطى حقيقي وأنثربولوجي وتاريخي وقبلي أكدته ثلاثة كتب قدمت العالم الاجتماعي القبلي الخاص بالجزيرة بكل متونه التاريخية، واشتغلت رجاء عالم على المجتمع المكي والبيوت الكبيرة مجسدة الحياة الاجتماعية في حاضرة مؤطرة بما هو قبلي، ومزيج من قيم صحراوية وواقع متداخل في أجناس عدة وافدة، واشتغلت على ما قبل المد العثماني، ويمكن التكهن بذلك من خلال النصوص التي اختارت فترة تاريخية مهمة أقرب إلى العهد العثماني ونزاع أمراء مكة حول السلطة وما اتسمت به الحياة الاجتماعية من انفتاح وتنوع. وبينما اختار أحمد أبودهمان الحياة الاجتماعية لحاضرة أشبه بواحة أو قرية ليقدم واقعا اجتماعيا صحراويا يواجه التمدن وحتمية التغيير، ثم رصد عبدالرحمن منيف تحول هذا المجتمع إلى عهد سيحدث في مجتمعها تأثيرا لا يقارن من حيث أبعاده إلا بتأثير الإسلام، غير أن القوى المحركة لهذه التحولات كانت خارج الجزيرة العربية، إلا أن أصلها يعود إلى تحول اقتصاد القرن العشرين إلى وقود جديد هو النفط الذي بدأ البحث عنه في كل بلدان العالم. وتضيف “انشغلت هذه الكتابة أيضا بالإضافة إلى الجذر الصحراوي بمد المدينة والتغيرات التي أصابت المجتمع ببنائه القيمي، تماست مع المقدس بكل أشكاله: المقدس الاجتماعي، المرأة، والمدن المقدسة، والمقدس السياسي بعد أن صارت الأسرة المالكة تتخد مع المذهب الوهابي وتحتمي بالنص المقدس، وصار تاريخ هذه الأسرة جزءا من مقدسات الجزيرة التي حاول الأدب التصالح معها (…) ظهر المقدس التاريخي بأشكال متعددة، إننا أمام كتلة ثقافية وتاريخية أخرى، أمام ماض وثنيّ وحاضر مقدس، ووضع قبلي معقد”. الرواية الصحراوية تتشكل في رحم المقدّس بكل تجلياته المكانية والزمانية ومفهوماته الأخرى للنسب والعرف والطقس والقربان والمدنس وتشتغل الطحاوي على رجاء عالم التي قدمت عن الحياة في مكة أكثر من رواية، انتقت منها “حبي” ثم “سيدي وحدانه” إذ وصفت حياة المكيات، وتطرقت إلى المقدس في صورته الأولى في وصف الحج والأراضي المقدسة، كما تشتغل على رواية “الحزام” لأحمد أبودهمان وقد حكى عن عادات وتقاليد قرية في جنوب الحجاز، ثم رواية “الرهينة” لزيد مطيع دماج التي هي بشكل من الأشكال رواية القبيلة ونزاعاتها في الحكم الذي تولاه الأشراف أو الأئمة في اليمن. أما في ما يتعلق بالصحراء الكبرى روائيا، فتقول الطحاوي “من الناحية البيئية تعتبر الصحراء الكبرى من أكبر المناطق الصحراوية الحالية على الأرض، ومن الناحية الجيولوجية فإن الاكتشافات الصخرية تدل على غنى هذه المنطقة وخصوصية عوالمها: جبالها غنية بالنقوش العظيمة التي هي أغنى مناطق الأرض بالنقش الصخري، وهذه الاكتشافات تؤكد علاقة هذه المنطقة مع الحضارة المصرية القديمة، والقارة الأفريقية الزنجية، وقد تعرضت إلى زحف أهل الجنوب الأفريقي وثقافتهم الزنجية عليها، كما أنها تعرضت إلى موجات فينيقية قادمة من البحر، وتعتبر العصور الرومانية من الأشكال الثقافية الوافدة أيضا”. وتضيف “يستكمل تاريخ الصحراء الكبرى بالفتح الإسلامي وقيام عدة ممالك إسلامية في قلب الصحراء مثل مملكة بورنو وكانم وغيرهما، وستدخل الطرق الصوفية والمرابطون والموحدون وأشكال المذاهب والمشايخ، ويمر عليها الراحلون العرب والأوروبيون، وتشقها الطرق التي يبحث أبناؤها عن مناجم الملح ودفائن الذهب، إنها عالم صحراوي بامتياز ورحم روائية مليئة بالتفاصيل، ولقد كان إبراهيم الكوني الوارث الوحيد لكل هذا التراث، لكل هذا التراث الغني لقبائل الصحراء الكبرى، خاصة الطوارق الذين اشتغل عليهم”. وتستقرئ الطحاوي عددا من الأعمال التي أنتجتها الصحراء الكبرى مثل رواية مالك حداد “سأهبك غزالة” وروايات أحمد ولد عبدالقادر “القبر المجهول أو الأصول” و”الأسماء المتغيرة” ورواية “مدينة الرياح” لموسي ولد ابنو، لتقف بعد ذلك عند إبراهيم الكوني وتجربته باعتبارها محورا ممثلا لهذا العالم، ومن ثم اختياره، ليصير ممثلا ناضجا ومكتملا لهذه الصحراء بكل موروثها العريق واختلافها الجذري في مكوناتها الثقافية والعرقية عن صحراء الجزيرة العربية. ولا يقع اختيار الكوني لمجرد الثراء الكمي الذي حظيت به تجربته الروائية؛ بل لأنها اشتغلت على هذا العالم من بنيته الاجتماعية الفاعلة، واستطاعت أن تجد معادلا مكتملا لهذه التجربة من حيث البعد الفلسفي والوجودي لمفهوم الصحراء، حيث يكون مقدسها مفعما بالكثير من التلونات التاريخية، فهي تشتغل على صيرورة هذه القبائل منذ اكتشاف النقوش الصخرية حتى المد الإسلامي وما أحدثه في صورة المقدس الوثني من تغيرات، وترصد تحول المقدس من الوثني إلى السماوي في تكامل وإحاطة بالغة. وكون المقدس وتجلياته يشكلان محور الدراسة تتساءل ما المقدس ولماذا يرتبط بالرواية الصحراوية؟ وتقول “يتعدد المقدس ومفاهيمه التي تنحدر من علم الأديان، ويظل متصلا بالآلهة والغيبيات، لكن يصبح في علم الاجتماع وعلوم النفس مرادفا لبنية نفسية واجتماعية لمجتمعات محددة أو جماعات لها خصائص معينة، فمن المقدس عند المسلمين إلى المقدس لدى الأفارقة والوثنيين.. إلخ. فالمقدس ليس الدين فقط وإن كانت جذوره دينية، وإنما المقدس يكمن حتى في عاداتنا اليومية واعتقاداتنا، في تفاؤلنا وتشاؤمنا، في النظم التي نحكم بها، في العلاقات ضمن العمل، وفي العائلة، وحتى في المؤسسة الزوجية وفي البديهيات والمسلمات والحكايات. المقدس وتجليه وانبثاقه من النصوص التي ارتبطت بالصحراء في الرواية العربية، يعني في دراستنا التصور البدائي والصحراوي للكون والحياة في استظهار لأشكال القداسة، إن القدسي وصوره وتخيلاته وأنماط حضوره هو الذي يكشف عن البنية الاجتماعية والنفسية الكلية لهذا العالم ويقودنا إلى قواه الحقيقية”. وتتابع “إن استقراء النصوص يقود إلى أن عالم المحرمات أو التابوهات التي تشكل بنية النص، كما أن النصوص تمتد علاقتها بالأسطوري والسحري وحضور القوى الغيبية وأشكال القربان والأضاحي، والقسم الثاني يمتد في علاقته بالمحرم والمقدس في أشكال العشائرية وتحوله إلى سلطة سياسية ذات أصول مقدسة أو تابوهات اجتماعية وسياسية خالصة”.

مشاركة :