يقول (حازم القرطاجني)(1): «إنَّ التخييل هو قوام المعاني الشِّعريَّة، والإقناع هو قوام المعاني الخطابيَّة»، واستعمال الإقناعات في الأقاويل الشِّعريَّة سائغٌ إذا كان ذلك على جهة الإلماع في الموضع بعد الموضع، كما أنَّ التخاييل سائغٌ استعمالُها في الأقاويل الخطابيَّة في الموضع بعد الموضع، وإنَّما ساغ لكلَيهما أن يُستعمَل يسيرًا فيما تتقوَّم به الأخرى لأنَّ الغرض في الصناعتَين واحد، وهو إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحلِّ القبول لتتأثر لمقتضاه، فكانت الصناعتان متآخيتَين لأجل اتِّفاق المقصد والغرض فيهما، فلذلك ساغ للشاعر أن يخطب لكن في الأقلِّ من كلامه، وللخطيب أن يشعر لكن في الأقلِّ من كلامه». في إشارةٍ إلى إمكان إتيان الشاعر بالأقاويل المقْنعة على سبيل الترويح عن النفوس؛ «ليتجدَّد نشاطها بتجدَّد الكلام عليها»، والمراوحة في ذلك أفضل في جِنسَي الشِّعر والخطابة، من وجهة نظر القرطاجني، لكن الأصل في الشِّعر عنده يظلُّ التخييل، ويضيف: «ينبغي أن تكون الأقاويل المقْنعة، الواقعة في الشِّعر، تابعةً لأقاويل مخيِّلة، مؤكِّدة لمعانيها، مناسبة لها في ما قُصِد بها من الأغراض، وأنَّ تكون المُخيِّلة هي العُمدة، وكذلك الخطابة ينبغي أن تكون الأقاويل المخيِّلة الواقعة فيها تابعةً لأقاويل مقْنعة مناسبة لها مؤكِّدة لمعانيها، وأنَّ تكون الأقاويل المقْنعة هي العُمدة».(2) وما قاله (القرطاجني) هو ما يذهب إليه (بليث، هنريش)(3)؛ حيث يقول: «إذا مال التواصل البلاغيُّ نحو التواصل الشِّعري، فإنَّ الصورة البلاغيَّة تتحوَّل إلى صورةٍ شِعريَّة، وهذا يتضمَّن تغييرًا في الوظائف؛ ففي حين يرتبط التواصل البلاغيُّ (مثل التواصل اليومي) بوظيفة مقصديَّة ملموسة لا بوظيفة لسانيَّة، فإنَّ الغرض من (التواصل الشِّعري) -بحسب ياكبسون- ليس إلَّا غرضًا في ذاته (الغائيَّة الذاتيَّة)، أي أنَّ الدليل اللِّساني الثاني يحيل على نفسه، ومن هذه الزاوية فإنَّ (التواصل الشِّعري) لا يرتبط بعناصر خارج اللُّغة، بل يكوِّن نظامَه التواصليَّ الخاص، ومع ذلك فإنَّ هذه المعالجة لا تعني أن هناك رجوعًا إلى تصوُّرٍ عتيقٍ وعازلٍ للأدب، بل إنها أكثر تعقيدًا في الواقع، فالوظيفة الشِّعريَّة لا تُلغي الوظائفَ الأخرى، بل تكتفي بالهيمنة عليها؛ فالواقع أنَّ النصَّ الشِّعريَّ يحتوي عناصر شِعريَّة وعناصر إخباريَّة، وإذا وقعت انزلاقات في تراتبيَّة الوظائف النصيَّة، تبعًا لتغيير في نمط التلقِّي، فقد يَنتج عن ذلك شَعرنة نَصٍّ أو ضياع شاعريَّته». وهنا ينبغي التنبيه إلى أن جِماع تلك الانحرافات عن شِعريَّة الشِّعر إلى الخَطابيَّة يمكن أن يُطلَق عليه (الخِطاب الإقناعي)، في مقابل (الخِطاب التخييلي)، وتندرج فيه ضروبٌ شتَّى، ربما وقعَ الخلط بينها لدَى بعض الدارسين، منها الخِطاب الحِجاجيُّ، والحِكْميُّ، والتعليميُّ، والسَّرديُّ، والوصفيُّ المباشر، والتقريريُّ، والإخباري، وجميعها تنزلق من جِنس الشِّعر إلى النَّثر، ومن الخِطاب الوجداني إلى الخِطاب الذِّهني، ذلك أن ثمَّة فارقًا بيِّنًا بين آليَّة الخِطاب الشِّعريِّ للتأثير في المتلقِّي، وآلية الخِطاب النَّثريِّ لإحداث مثل ذلك التأثير؛ الأوَّل يميل إلى توسُّل التأثير الوجداني، والآخَر يميل إلى توسُّل الإقناع الحِجاجيِّ الذِّهني، ومع ما بين الخِطابَين، الشِّعري والنَّثري، من مشتركات يختلفان في نسبة حضورها، فإنَّ الخلط في فهم الآليَّة التأثيريَّة في كلٍّ من الشِّعر والنَّثر يؤدِّي إلى الخلط بين مفهوم التأثير الشِّعريِّ ومفهوم الحِجاج الخَطابي، ومن ثَمَّ بين الشِّعر والخَطابة؛ فإذا خِطابٌ شِعريٌّ يُعَدُّ حِجاجًا خَطابيًّا -لدَى من لا يميز التأثير الشِّعريَّ من الحِجاج الخَطابي- أو خِطابٌ خَطابيٌّ يُعَدُّ شِعرًا، ومن هنا يقع اللَّبس بين طبيعة الشِّعر والنَّثر؛ فيُنسَب إلى الشِّعر كلُّ خِطابٍ يحمل مِسحةً عاطفيَّةً أو تخييليَّة، وإنْ لم يكن من جِنس الشِّعر في شيء، كما قد يُنسَب إلى الخَطابة كلُّ خِطابٍ يحمل مِسحةً إقناعيَّةً تأثيريَّة، وإنْ لم يكن من جِنس الخَطابة في شيء. (1) (1981)، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمَّد الحبيب بن الخوجة، (بيروت: دار الغرب الإسلامي)، 361. (2) م.ن، 362. (3) (1999)، البلاغة والأسلوبية: نحو نموذج سيميائي لتحليل النص، (الدار البيضاء: إفريقيا الشرق)، 102- 103. (رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)
مشاركة :