حوار وطني شامل أم حوار سياسي وكفى في مصر

  • 5/28/2022
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

لا تزال الدعوة التي أطلقها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بشأن الحوار الوطني تثير انقساما بدلا من أن توحد القوى الوطنية، فالأحزاب والمؤسسات والشخصيات التي تدور في فلك الحكومة تراها دعوة خالصة لمناقشة قضايا اقتصادية واجتماعية ودينية وإعلامية، بجانب الملفات السياسية، بينما يرى فريق آخر يقف غالبية أعضائه في خندق المعارضة ضرورة قصرها على الشق السياسي فقط. شرعت الأكاديمية الوطنية للشباب التابعة لرئاسة الجمهورية الأيام الماضية في إرسال دعوات لأحزاب وشخصيات تعمل في مجالات متعددة، وتلقت بالفعل دراسات وأوراقا وتقديرات في قضايا مختلفة، من بينها السياسية، وهو ما يعني أن تفسير الدعوة رسميا ينطوي على مفهوم شامل عكس ما تريده قوى المعارضة. ودارت حوارات متباينة حول الحوار، وهل هو شامل أم سياسي، ويكاد الانقسام الدائر يغطي على فكرة الدعوة نفسها، ما يثير ارتياحا لدى أجهزة رسمية متباينة تميل إلى تدشين حوار منزوع الدسم، يوحي بوجود حراك في مصر قبل أن ينطلق قطار الحوار من محطته الأولى ويصل إلى محطته الأخيرة بالجلوس على طاولة واحدة مع الرئيس السيسي، بعد المرور بمحطات كثيرة يجري خلالها الاتفاق حول أجندة محددة. شجعت الدعوة إلى الحوار بعض الجهات والأحزاب المصرية على عقد مؤتمرات جانبية، فقد عقدت الهيئة الإنجيلية، وهي جهة دينية بمسحة مدنية، قبل أيام ندوة بمدينة الإسكندرية انشغل جزء كبير من المشاركين فيها بمشروع الدعوة إلى الحوار، وبدا الانحياز لافتا إلى فكرة الشمول في مناقشة القضايا والاهتمام بتفاصيلها. الجدل الراهن بشأن الحوار يعكس جانبا إيجابيا حيث يشير إلى رغبة في الانخراط فيه بصرف النظر عن القضايا التي سيتناولها يستطيع المراقب أن يعرف طبيعة الحوار الذي يدور وسط جماعات وشخصيات وأحزاب من التصنيف السياسي لكل منهم، فالمؤيدون للنظام الحاكم بشتى تنويعاتهم وتفريعاتهم يؤيدون حوارا شاملا يتطرق إلى كل كبيرة وصغيرة في الدولة، والمستقلون والمعارضون يميلون إلى التركيز على الحوار السياسي وكفى في هذه المرحلة. لكل فريق منطقه في الطرح والاختيار، لكن كليهما ليس بريئا، فالفريق الأول يريد إنهاك الخصوم في قضايا متخصصة مليئة بالمطبات، والبعد عن المناقشات التي تنكأ جروحا بشأن الحريات وحالة المجال العام، ووضع الإعلام، وكلها تثير حساسيات، لأن الأولى فنية، بينما الثانية سياسية بامتياز وتحتاج إلى حوارات مستفيضة تتناول الصورة القاتمة التي بات عليها المشهد السياسي. يسعى الفريق الثاني، المستقل والمعارض، إلى تغليب السياسة لأنها المجال الذي له باع طويل فيه ويلمّ بجميع تفاصيله ويمثل محور الحياة بالنسبة له، وحدوث انفراج فيه يعني انفراجات سهلة في مجالات أخرى، ولا يحتاج إلى أرقام ومعلومات قد لا يستطيع الحصول عليها، وأقصى مستوى يمكن أن يصل إليه، إذا حاد عن مسار الحوار السياسي، هو مناقشة أجندة الأولويات في المشروعات التنموية الكبرى، لأنها مرتبطة أيضا بالسياسة التي يريد أنصار هذا الفريق أن يبدأ الحوار منها وينتهي إليها. يعبّر الجدل الراهن بشأن الحوار كمفهوم عام عن جانب إيجابي، حيث يعني رغبة عارمة في الانخراط فيه من قبل قوى وطنية، بصرف النظر عن جدول الأعمال والقضايا التي سيتم تناولها، فقد كانت آخر جولة حوار عقدت بعد ثورة يناير 2011، أي منذ نحو 11 عاما، ولم تتمخض عن شيء محدد في حينه وانفضت بلا نتيجة عملية، لأن كل القوى السياسية كانت منخرطة في حوارات بلا قيود وقتها. ينطوي الجدل على بعد سلبي أيضا، فإذا كان الانقسام حول الفكرة محتدما والخلاف حول توصيفها شاهقا والمسافة بعيدة، فإن أول طاولة تضم شخصيات من مؤيدي الحوار الوطني الشامل مع أنصار الحوار السياسي ربما تتحول إلى صدام وتفقد المغزى الذي يحويه الحوار، أيا كان نوعه، أو أهدافه الواسعة أو الضيقة. قد تكون الحكومة المصرية غير بريئة في تعمد هذا التداخل والارتياح للتشويش الجاري حاليا، حيث يحتاج فك الاشتباك وقتا طويلا تكون أعادت فيه ترتيب أوضاعها وتخلصت من القيود التي فرضتها عليها حزمة كبيرة من الأزمات الاقتصادية، وجعلتها تسعى نحو التهدئة كي لا تجد نفسها تحارب على أكثر من جبهة داخلية. في تقدير الحكومة من مصلحتها أن يتم تفريغ الكبت السياسي وعدم إطالة فترة الغليان التي غابت فيها الحوارات العامة وجرى خلالها التضييق على الحريات، وسيطر فيها صوت واحد في وسائل الإعلام التابعة للدولة، وتلك التي تدور في فلكها، من دون أن تمتلك الأصوات المؤيدة قدرة على ضمان تهدئة الرأي العام وقت الأزمات. المشكلة في مصر على مدار التاريخ تكمن في موقع السياسة بالنسبة للنظام الحاكم، وطبيعة نظرته إلى القوى المعارضة يقول مراقبون إن الحكومة فقدت الحجج التي قدمتها لتبرير القبضة الحديدية التي استخدمتها الفترة الماضية، ولا توجد مخاطر أمنية تهددها، وليس أمامها سوى سد الفجوة مع القوى السياسية لمشاركتها في تحمل المسؤولية مع تراكم الأزمات. يضيف المراقبون أن الدعوة إلى الحوار كانت هي السبيل للوصول إلى هذه الغاية، لكن لأن الحكومة غير عازمة على تقديم تنازلات كبيرة ورفع القيود المفروضة على ممارسة السياسة، وجهت دعوتها بصورة عامة وتركت الحبل لرجالها للشد والجذب مع القوى الأخرى، وهو ما يمثل حراكا يتناسب مع مقاييس الحكومة التي لا تزال تتخوف من فتح المجال العام وإتاحة الفرصة للعمل السياسي بحرية كاملة. لدى جناح في الدولة المصرية قناعة بأن منح الرئيس الأسبق حسني مبارك مساحة للأحزاب والقوى السياسية للحركة في الشارع، ورفع سقف المعارضة في وسائل الإعلام إلى عنان السماء، كانا من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى انهيار نظامه، وهو ما تكرر من بعده مع الرئيس الإخواني محمد مرسي بصورة أكثر اتساعا. في ظل هذا المعطى يصعب حدوث انفراجة سياسية كبيرة في مصر، لكن الضغوط التي تمارس على القاهرة من الداخل والخارج ضاعفت من الحرج وفرضت الاتجاه نحو الحوار الوطني، والذي كان من الطبيعي أن يأخذ مسارا سياسيا مباشرا، ففي كل الدول التي تعيش ظروفا مترنحة مثل مصر لا حوار فيها دون أن تكون السياسة مقدمة على ما عداها، فلا توجد خلافات جوهرية في القضايا الأخرى. تكمن المشكلة في مصر على مدار التاريخ في موقع السياسة بالنسبة للنظام الحاكم، وطبيعة نظرته إلى القوى المعارضة، وفي كل المرات التي جرى فيها التضييق على الحريات وفرض قيود على الآراء المعارضة كانت تتم العودة مرة أخرى إلى خندق السياسة، وهو ما سوف يصل إليه النظام المصري الراهن. ينشغل متابعون لتطورات الحوار، وطني شامل أم سياسي فقط، بالنتيجة التي سيتم الوصول إليها، لأن الاستغراق في الشكل لن يكون على حساب المضمون، فجزء كبير من مصداقية النظام بات بعد إطلاق الدعوة إلى الحوار على المحك، ومهما اعتقد مناصروه في جدوى الالتفافات والتفسيرات والتبريرات، ففي لحظة معينة سوف تتجلى الحقيقة وهي لا حوار من دون غلبة سياسية في مصر.

مشاركة :