لعل العلامة البارزة لمعالم النهضة السياسية الحديثة وفق المشروع الإصلاحي الكبير هي عودة الديمقراطية وانتهاج النهج الديمقراطي كخيار استراتيجي مهم للمرحلة الجديدة من تاريخ مملكة البحرين الحديث والمعاصر. وخيار الديمقراطية متجذر في التاريخ السياسي لمملكة البحرين ويعود جذوره إلى ثلاثينيات القرن الماضي في عهد المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، حاكم جزر البحرين وتوابعها، من خلال أول تجربة للنشاط الديمقراطي بتأسيس مجلس شورى، والذي يعد بذلك عراقة سياسية أصيلة ومتجذرة للحراك الديمقراطي. وفي عام 1971 كان طموح المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير دولة البحرين السابق في الخيار الديمقراطي لتكون بوابة لملامح السلطة التشريعية الجديدة لمملكة البحرين. استعانت مملكة البحرين في ذلك الوقت بـ(الخبير الدستوري) عثمان خليل عثمان لوضع لبنات التأسيس للبنيان الدستوري الجديد لمملكة البحرين ووضع مقترح مسودة دستور البحرين بمعاونة لجنة وزارية مكونة من سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة نائب رئيس مجلس الوزراء، والوزراء جواد سالم العريض نائب رئيس مجلس الوزراء حاليا، والدكتور علي محمد فخرو، والدكتور حسين محمد البحارنة. بُعيد الانتهاء من إعداد مقترح مسودة الدستور كان المرسوم بقانون رقم (12) لعام 1972 الصادر عن المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير دولة البحرين الراحل بإنشاء المجلس التأسيسي لمناقشة وإقرار بنود الدستور الجديد المقترح. وبعد مناقشات كثيرة في أروقة المجلس أقر المجلس مقترح مسودة الدستور وصادق الأمير الراحل على هذا الدستور في 6 ديسمبر 1973، بعدها صدر عن المغفور له أمير البلاد (رحمه الله) المرسوم بقانون رقم (10) لسنة 1973 لدعوة المواطنين لانتخابات المجلس الوطني. مثّل المجلس الوطني أول تجربة نيابية، وشهدت أروقة المجلس مناقشات ومداولات ولا تخلو الجلسات من صراعات وانقسامات وتراشقات وانسحابات بين تجمعاته وتكتلاته المختلفة. كان التيار الديني (الكتلة الدينية) حائط صد ضد مشاريع التيار الليبرالي والتيارات البعثية واليسارية والماركسية في أجندة مشاريعه وتوجهاته في الحريات والحداثة والانفتاح. أسس المشروع الإصلاحي الأسس الجديدة للبنيان الديمقراطي في هذا العهد الزاهر بمجلس نواب ومجلس شورى. ويُعد مجلس النواب الهيئة التشريعية الأساسية التي تمتلك صلاحيات واسعة وكبيرة في التشريع والرقابة والمحاسبة والمساءلة، ويمتلك مجلس النواب من أدواته الرقابية ووسائل المحاسبة والمساءلة ما يأتي: * منها الأسئلة، ويحق لكل من أعضاء مجلسي الشورى والنواب توجيه أسئلة إلى الوزراء لاستيضاح الأمور الداخلة في اختصاصاتهم. وبتحليل واقع الحال، فإنه انهالت معظم الأسئلة على وزراء الخدمات، ولوحظ الاستخدام لهذا الحق من قِبل النواب وبخاصة في حقول الخدمات. على أنه لم يكن هناك أسئلة تخص الوضع الاقتصادي وسبل التنمية الاقتصادية واستراتيجيات الدولة للتخطيط الاقتصادي ونحو ذلك. * ومنها الاستجواب، ويُعد أهم وأقوى الأدوات الرقابية، ولا يكون إلا للوزراء المختصين، فلا استجواب لرؤساء الهيئات العامة أو وكلاء الوزراء. ولا يقبل الاستجواب إلا بتوافر الشروط الإجرائية والشكلية والموضوعية تبعا لنصوص الدستور، ونصوص اللائحة المنظمة لعمل مجلس النواب (اللائحة الداخلية). وينتهي الاستجواب إما في صالح الوزير المختص، وإما ضده، ولربما يترتب على ذلك إجراءات أخرى ضده بسحب الثقة منه مثلا أو الإطاحة به. ولم يُستخدم هذا الحق إلا مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث، في أحد الفصول التشريعية السابقة، وكلها برأت ساحات الوزراء المستجوبين، وقال مراقبون ومحللون بالشأن البرلماني إنه لا تخلو هذه الاستجوابات من نوايا كيدية! صحيح أن الوزراء اليوم يقومون بواجباتهم بكل أمانة وصدق وهم مجتهدون إزاء الأمور الداخلة في اختصاصاتهم، ولكن لا بد من أن تسير آليات الرقابة وفق خط متوازن مع الأبعاد التشريعية. وبحسب اللائحة الداخلية فإنه ينظم الاستجواب بآليات قانونية، فيقدم طلب الاستجواب كتابة من خمسة أعضاء على الأقل إلى رئيس المجلس، والذي بدوره يحيله إلى مكتب هيئة المجلس لفحصه ومدى توافر الشروط الفنية والشكلية والموضوعية، ومتى ما توافرت شرائط صحة الاستجواب فإن رئيس المجلس يعرض هذا الاستجواب على لجنة فنية مشكلة من رؤساء ونواب رؤساء اللجان النوعية الدائمة لإعداد تقرير فني لمدى جديته من عدمه في ظرف أسبوع واحد، وعلى اللجنة أن تتحقق وتتأكد بالوقائع والأدلة والبراهين والمستندات والتي يستند إليها مقدمو الاستجواب. * ومنها المقترحات برغبة، ويحق لكل عضو أن يقدم لرئيس المجلس (اقتراحا) برغبة لمصلحة عامة، ويقدم الاقتراح كتابة للرئيس مرفقا به مذكرة تفصيلية تشمل موضوع الاقتراح والمبررات، ويحيل رئيس المجلس هذا المقترح إلى اللجنة المختصة لدراسته وتقديم تقرير فني عنه. ولا يجوز في موضوع الاقتراح أن يتضمن أمرا مخالفا للدستور أو القانون أو النظام العام أو يضر بالمصالح العليا للدولة، أو أن يشتمل على عبارات ماسة بكرامة أشخاص أو غير لائقة أو أن تضر بسمعة هيئة أو وزارة، أو أن يكون خارج اختصاص المجلس. ولسهولة هذه الآلية وبساطتها تهافت السادة النواب عليها بشكل كبير وأخذوا على عاتقهم تقديم مقترحات برغبة قد لا يخلو بعضها من الغرابة! وعدم معقولية البعض منها وعدم مطابقة بعضها للأنظمة والقوانين، ولا بأس باستعراض بعض منها، مفندين لبعضها: * قدم مقترح برغبة بشمول عمال محطات تزويد الوقود بالقرار الوزاري بمنع العمل بالظهيرة في شهري يوليو وأغسطس، مع أن القرار نص صراحة على (العاملين) تحت أشعة الشمس المباشرة، وهو قد لا ينطبق على عمال تزويد الوقود. * قدم مقترح برغبة بإلغاء التعامل النقدي مع تطورات الدفع بالبنفت، وهذا لا يمكن تطبيقه، فالنقد والتعامل مصدر أساسي لاقتصاد البلد، فهل يعقل إلغاء التعامل النقدي بحجة تطورات الدفع بالبنفت! * قدم مقترح برغبة يتضمن اعتماد التعليم عن بُعد (التعلم الإلكتروني) كخيار معتمد أساسي في التعليم في وقتنا الحاضر وديمومة التعلم عن بُعد، ونقول إن هذا التوجه كان لظروف عصيبة للجائحة، وهو (حاجة اضطرارية) فقط ولا يمكن اعتمادها وديمومتها لأن الأصول العامة للتعليم الفصول الدراسية والمناهج والسبورة وكلها أساليب لا بد من إقامتها، نعم، لا نغفل التطورات الحديثة في حقل التعليم، ولكن تبقى في نطاق الحضور في الفصول الدراسية. * ومنها الاقتراح بقانون وهذه الصيغة يحق لجلالة الملك المعظم وأعضاء مجلس الشورى، ولأي عضو من أعضاء مجلس النواب، حق طلب اقتراح القوانين. وبقراءة تقييمية لهذه الأداة نرى أن استعمالها كان بصورة محدودة نسبيا. * ومنها لجان التحقيق، وإلى حد ما فقد أبدع السادة النواب وفق اختصاصاتهم بتشكيل الكثير من لجان التحقيق في قضايا محورية مهمة. ومن ذلك لجنة التحقيق البرلمانية تجاه بحرنة الوظائف، التي عملت على جمع البيانات والتقصي تجاه الجهات التي لم تلتزم بشرائط بحرنة التوظيف. ونرى خلال الفصول التشريعية مما سبق ذكره عدم تفعيل النواب أكثر أدوات الرقابة، وإن كان استعمالهم هذه الأدوات على استحياء! ولا ندري عن أسباب هذا العزوف، وخاصة أن النائب له صلاحيات واسعة، طبقا للدستور والميثاق والقانون واللوائح. ونأخذ مثالا قضية الاستجواب، فإن النواب مع حرج كبير لتفعيل هذه الأداة، ولربما خوفا أو منعا للاصطدام مع أعضاء السلطة التنفيذية، وبناء عليه فإنهم لا يطمحون كثيرا إلى تفعيل هذه الأداة. والحق لا يعدو فعل الاستجواب إلا كأداة مثل باقي الأدوات الرقابية الأخرى، بل يقصد تقديم الوزير المعني معلومات اتجاه أعمال وزارته في محاور الاستجواب. وبناء عليه فإنه من أجل حراك برلماني حر وناجح ومتوازن لا بد من أن تتناغم الرقابة البرلمانية جنبا إلى جنب التشريع وسن القوانين. من جانبها قالت معالي السيد فوزية بنت عبدالله زينل رئيسة مجلس النواب بعيد انتهاء أعمال الفصل التشريعي الخامس إن المجلس حقق إنجازات كبيرة على صعد شتى. ولا شك أن هناك إنجازات كبيرة على صعيد الأرقام فيما أنجز في حقل التشريع وغيره، وهذا لا يمكن إنكاره البتة. بانتهاء هذا الفصل التشريعي نكون قد أنهينا نحو عشرين عاما من عمر مسيرة التجربة البرلمانية البحرينية التي حملت في طياتها الكثير من الإنجازات وبعض العقبات، ومن هنا لا بد من تعاون مجتمعي كبير لتطوير هذه التجربة ودفعها إلى الأمام لتحقيق إنجازات أكثر وأكثر. Sayedhaider65@gmail.com
مشاركة :