قراءة كتابِ «الأمير» للإيطالي نيكولو مكيافيلي لن تجعل من قارئه سياسياً محنكاً وحصيفاً. لكن قراءته فرضُ وجوب على كل مَن يريد أن يمتهن السياسة، وعلى استعداد للخوض في أوحالها. الدهاء، في ملاعب السياسة، قد لا يكون دائماً سلاحاً كافياً للخوض في متاهاتها، والخروج من معاركها من دون إصابات قاتلة، أو إعاقات دائمة. وفي الوقت ذاته، فإن الساسة الذين يفتقدون الدهاء لا يعمّرون طويلاً في خفايا وتلونات ملاعبها، وسرعان ما يطويهم النسيان. اكتساب السياسي للدهاء، والمرونة، والقدرة على اتخاذ القرار المناسب في وقت قصير، خصوصاً في أوقات الأزمات، ضرورة، وشروط واجبة التحقق، لكل مَن أرادوا خوض المغامرة في تلك الملاعب. ورغماً عن ذلك، فإنه حتى تحقق تلك الشروط عندهم، قد لا يكون كافياً أحياناً لاستمرارهم، إذا تخلى عنهم حُسنُ الحظ. قد يرى كثيرون أن ما ذُكر أعلاه يُعدُّ من نافلة القول، وهو صحيح، وأوافقهم على ذلك. لكن المتابع لما يحدث على الساحة البريطانية من أحداث، منذ بروز قضية انتهاك قانون العزل الصحي الوقائي، وتورط العديد من مسؤولي الحكومة على أعلى مستوى، وما أحدثه من ضجيج، يظنُّ أن حُسن الحظ قد وُلد في نفس اللحظة مع رئيس الحكومة، السيد بوريس جونسون، وكأنهما توأمان. منذ إتمامه الدراسة، ودخوله المعترك الحياتي في سن مبكرة، كان حُسن الحظ رفيق السيد جونسون ومنقذه طوال رحلته. حين اختارته واحدة من الصحف الكبرى البريطانية ليكون مراسلها في بروكسل، وتبيّن بعد فترة من الوقت فبركته للحقائق، قامت إدارة الصحيفة بفصله. ولو حدث الأمر ذاته لشخص آخر، لربما كان ذلك نهاية لأي علاقة له بالصحافة مستقبلاً. لكن السيد جونسون، مرفوقاً بحسن الحظ، عاد من جديد، وسرعان ما سطع نجمه حتى صار رئيساً لتحرير واحدة من أهم المجلات السياسية الأسبوعية البريطانية! الأمر نفسه تكرر حين امتهن السياسة. وأذكر أنه في عام 2012، حين كان عمدة لمدينة لندن، اشتعلت المدينة بمظاهرات اتسمت بعنف، وكان السيد جونسون، وقتذاك، في إجازة خارج البلاد، وحين رجع قوبل برفض شعبي كبير. البعض من زملائه اعتقدوا أن ذلك الرفض سيكون القشة التي ستقصم الظهر، وتبعده عن السياسة للأبد. لكنه واصل المشوار، وها هو في عام 2022 يجلس في كرسي أرفع منصب في البلاد، وفي الوقت نفسه، يمر بأزمة سياسية عاصفة، من صُنع يديه، قال كثير من المعلقين لدى انبثاقها إنها قد تكون النهاية. لكن النهاية تلك لا توجد إلا في أوهامهم؛ إذ كلما سُدَّت أمامه طريق، فتح حُسنُ الحظ طرقاً أخرى عديدة له. أولُ المطبات كانت في تسلُّمه لمخالفة مرسلة من شرطة اسكوتلنديارد على انتهاكه لقانون العزل الصحي الوقائي. وبذلك كان أول رئيس حكومة بريطانية يخالف القانون ويُعاقب، وهو على كرسي الحكم. وسرعان ما تعالت أصوات من داخل حزب المحافظين ومن أحزاب المعارضة تطالب باستقالته. لكنه رفض الاستقالة، وبعث له حُسن الحظ الحرب في أوكرانيا، فتعلق بحبل النجاة، وانتقل فجأة، وبسرعة خارقة، إلى مقدمة صفوف المنددين بالغزو الروسي، والحض على التصدي له بشتى السبل. وهذا دهاء منه. تلك المناورة أخرست الأصوات المعارضة له والمطالبة باستقالته، مبررين ذلك بظروف الحرب في أوكرانيا. ولما طالت الحرب، قالوا بضرورة الانتظار حتى تسلم السيدة سو جراي تقريرها عن الحادثة. وفي منتصف الأسبوع المنقضي، سلمت السيدة غراي تقريرها، وقامت الدنيا ولم تقعد، لكن السيد جونسون وقف معتذراً في البرلمان، وأُغلقَ الملف. التركيز على حسن الحظ وحده، ومنحه وزناً أكثر مما يستحق فيما حدث من تطورات على الساحة البريطانية، ربما يؤدي إلى نوع من مبالغة مذمومة، وقد يفضي إلى غض النظر عن عوامل أخرى أكثر إقناعاً وموضوعية تقف وراء نجاة السيد جونسون بجلده، واستمراره في منصبه، رغم ما ارتكبَ من أخطاء تُعدّ غير مسبوقة. أهم تلك العوامل يتمثل في حقيقة أن تردد النواب المحافظين، على اختلاف مواقفهم من السيد جونسون، في اتخاذ موقف حاسم يفضي إلى التخلص منه، ناجم عن حقيقة معروفة، وهي أنهم على مقربة من الانتخابات النيابية عام 2024، ولا يرغبون في الخوض بأوحال مخاطرة قد تؤدي بالحزب وبهم إلى خسارة الانتخابات المقبلة، وتسليم مفاتيح «10 داوننغ ستريت» إلى خصومهم العماليين. فالسيد جونسون، رغم أخطائه، ورقة انتخابية رابحة، وبلا منافس. ومَن يعرضون أنفسهم بدائل له، لا يحظون بسجل انتخابي مرموق مثله. وإلى أن يتحقق ذلك مستقبلاً، سيظل السيد جونسون محتفظاً بمنصبه، ومن غير شك سيكون هو من سيقودهم إلى الانتخابات المقبلة. وهذا لا يعني أن حسن الحظ لم يكن له يد في ذلك.
مشاركة :