من المبكر جداً أن نتحدث عن انتصار أو هزيمة أي طرف في الحرب الأوكرانية. إذ إن الحرب القائمة الآن لا تتمحور حول أوكرانيا وأراضيها، وإنما حول التنافس الاقتصادي العالمي الذي تُمثِّل روسيا أحد أعمدته، وإن لم تكن عموداً كبيراً أو قوياً، بينما تُمثِّل الصين الجانب والمنافس القوي للنظام الاقتصادي الغربي، خاصة أمريكا، وكذلك للنظام السياسي الغربي، وعبَّر عن ذلك الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في أول مؤتمر صحفي له في شهر مارس من العام الماضي بعد تنصيبه رئيساً، قائلاً: (هدف الصين أن تصبح الدولة الأولى في العالم «أغنى دولة في العالم، وأقوى دولة في العالم».. وهذا لن يحدث خلال رئاستي، لأن الولايات المتحدة ستواصل النمو والتوسع). لذا فإن الحرب الأوكرانية هي مرحلة أولى لحرب طويلة تتسم باستنزاف الخصم، وليس بهزيمته، وهي نفس الإستراتيجية التي اتبعها الغرب تجاه الاتحاد السوفيتي، الذي كان يُمثِّل القوة الأخرى تجاه التكتل الغربي، ونجح فيها بدفعه موسكو إلى التخلي عن طموحاتها وحلفائها، وانهيار بنيتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، (بوتين أعاد بناء ما تبقى من الاتحاد السوفيتي تحت مسمى الاتحاد الروسي، ونجح في إعادة بناء جزء من قوته). وسارع الرئيس جو بايدن مؤخراً إلى زيارة آسيا، وجمع الحلفاء والأصدقاء، قبل أن تتضح صورة الوضع الآيلة له في أوكرانيا وحربها، وذلك حتى لا تتاح الفرصة للصين للإعداد لمواجهة الغرب في آسيا. وفي ظل التنافس الصيني (روسيا والصين وحلفائهما) - الغربي (الولايات المتحدة الأمريكية وبعض أوروبا وحلفائهم)، سوف يصبح الاصطفاف إلى الشرق أو الغرب (والحياد إن أمكن) هي الإستراتيجية التي ستسعى دول (العالم الثالث) إلى اتباعها، إلا أن عدم الوضوح في الوضع الأوكراني ومدى نجاح أو فشل روسيا في مغامرتها الأوكرانية؛ يجعل من المبكر الالتحاق بأي من المعسكرين، وأيهما يمكنه تحقيق مكاسب أكثر للدولة الراغبة في الانحياز إلى أحد المعسكرين. ولا شك أن اللعبة الروسية الأمريكية القائمة الآن حول أوكرانيا؛ تُهدِّد باحتمال ضربة نووية غير متوقعة من أحد الأطراف توجهها على الطرف الآخر، وردود أفعال ليس من الواضح كيف سيتم احتواؤها. وستؤدي الضربة النووية إلى بداية حرب كونية مباشرة بين الأطراف المتنازعة، تُغيِّر من المعالم الجغرافية والبنية السكانية للعديد من دول العالم. تصعيد المواجهة مع الصين، سيناريو أشبعه كُتَّاب وباحثون أمريكيون نقاشاً، ووضعوا له تكتيكات في عدد من المجلات والدراسات التي نُشرت، ومن أبرزها تقرير للاقتصادي الأمريكي، ديتر أرنست، نُشر عام 2020 يقول: يمكن للولايات المتحدة الأمريكية وقف قدرة الصين على تطوير نفسها بوقف واشنطن تصدير منتجاتها في التكنولوجيا المتقدمة إليها. ويُشير مقال نشرته (فورين أفيرز) الأمريكية في شهر مايو عام 2019، أن التقدم الصيني الذي تباهى به الساسة الصينيون عندما نشروا عام 2015 الخطة العشرية تحت عنوان: «صُنِعَ في الصين»، وأعلنوا أن هدفها تحقيق اكتفاء ذاتي بنسبة 70 بالمائة في صناعات التكنولوجيا العالية، وتحقيق سيطرة على الأسواق العالمية عام 2049 (موعد الذكرى المئوية الأولى لتأسيس جمهورية الصين الشعبية) تم تجاهلها في خطاب رئيس الوزراء الصيني، لي كيكيانج، أمام الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الوطني في بكين عام 2019، وهي المرة الأولى التي يتم ذلك فيها، ويعتقد أنها انعكاس لتباطؤ النمو الاقتصادي الصيني في مجال التكنولوجيا المتقدمة. هل المعطيات التي ذكرناها عن الصين هي التي دفعت بالولايات المتحدة الأمريكية للإسراع في تصعيد مواجهتها لخصومها الشرقيين (روسيا والصين)، أم أن الانتخابات الأمريكية النصفية أواخر هذا العام؛ هي التي أدت إلى تصعيد المواجهة بين الأقطاب العالميين، وشملت تكثيف الضغوط على الحلفاء الأوروبيين للاصطفاف خلف واشنطن!.. في كل الأحوال هناك تصعيد للمواجهة ضد كل من روسيا والصين، وستسعى أمريكا وبريطانيا إلى تكثيف جهودهما مع الأصدقاء في الشرق الأوسط (مثلما فعلوا مع الأوروبيين) لضمان وقوف الجميع في صفهم أو قريباً من ذلك، ولن يتأخر هذا الضغط كثيراً، إذ إن حرب الاستنزاف تتطلب وسائل متعددة، وها هي قد بدأت ولابد من تصعيدها. وعلى الجميع العودة إلى البحث عن الموقع الأفضل لهم في هذه المواجهة التي يبدو أن لا (الحياد الإيجابي) ولا (السلبي) سيكون مقبولاً فيها.
مشاركة :