أشجار الفنان جورج مرعب كائنات خارج الزمان والمكان

  • 6/1/2022
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يعامل الفنان التشكيلي اللبناني جورج مرعب الأشجار من حوله، كإله معشوق، يتفنن في تتبعه وإعادة تجسيده، فيظهره تارة غاضبا منتفضا وطورا هادئا مستكينا، فهو لا ينفصل عن الحياة ومسارها الطبيعي المتذبذب بين الحركة والسكون والذي يتحرّك في فلك التغيير المستمر الذي يحيى بفضله الجميع. أن ترسم أشجارا ولا شيء سوى الأشجار في بلد يختفي تحت ركام المصائب المتتالية هو موقف ضد هذه المصائب وضد الركام على حدّ السواء. هذا أكثر ما تعلنه أشجار الفنان التشكيلي اللبناني جورج مرعب في معرضه الجديد في صالة “مارك هاشم” التي بالرغم من تباطؤ وتيرة العرض الفني في صالتها لا زالت تقدم معارض على مستوى تمثيل عال لما يجري على الساحة الفنية الداخلية والعالمية على حدّ السواء. فلسفة شعريّة الفنان استمرّ في استخدام فن الكتابة غير المقروءة حيث أصبح نصه البصري بشكل عام أكثر عصبية وأكثر تفلتا من ذي قبل عنوان المعرض “أشجار” هو أكثر بكثير من مجموعة أشجار نامية في ظل مناخ شرق أوسطي ومحتشدة في غابات لا تخلو من غرائبية مصدرها. من دون شك ما تعنيه تلك الأشجار للفنان جورج مرعب ليس فقط الأشجار على المستوى البيئي، ولكن أيضا على المستوى الفلسفي والشعريّ. يصاحب المعرض بيان صحافي يعرّف بأفكار الفنان وموضوع المعرض بهذه الكلمات “جورج مرعب هو من الفنانين الذين يتنفسون ضوء الشمس، والسماء الزرقاء الملوّحة بأشعتها ومن الذين يتأملون مكامن ضوء النجوم وبريقها الذي يمهد له طريق الغوص في أفكار تدور حول القدر والإيمان بالقدرة الإلهية التي شكلت الحياة وخلقت روعة الأشجار وشموخها”. وبهذا الكلام يؤكد القيّمون على الصالة أن ما يشغل الفنان في هذا المعرض يفوق مجرد تقديم بصري لجمال الأشجار. وليس من الصعب البتة تبيان ذلك من خلال أعماله الفنية متعددة الأحجام التي هي أشبه بنسيج كوني حدث أن تشكلت منه هيئات أشجار هي في مظهرها أقرب إلى كائنات روحية أكثر منها إلى أشجار في حقل مديد أو على رأس جبل يطل على وادي يشجع من عمقه تحليق العصافير صعودا إليها. كما يذكر البيان الصحافي المرافق للمعرض البيئة التي ولد وترعرع فيها الفنان وكان لها أثر كبير في تشكيل مزاجه الفني إذ “يستوحي الفنان أعماله من التفاصيل الصغيرة وشبه المجهرية، من البيئة التي عرفها في قريته ‘كفرشيما’. ومن قناطر منزله.. ومرسمه المفتوح على ضوء الشمس وعطر الزعتر البريّ والياسمين”. وأكثر ما يلفت النظر إلى لوحات جورج مرعب لا سيما فيما يتعلق بالبنية الفنية هو أسلوب الكولاج الذي تبناه في تشكيله لأشجاره لتبدو كأنها هامات ديجيتالية خارج الزمن والمكان. والأهم من ذلك كله هو أن لوحاته خلافا للكثير من الأعمال الديجيتالية أو تلك التي تستوحي من العالم الرقمي والافتراضي والتي تصوّر أشجارا، لم تخسر شيئا من روحانيتها وطبيعتها، بل على العكس بدت في أثيريتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بكونها صورة عن حقيقة ما، لم تكتشف أسرارها الكونية بعد. الأخضر في لوحات الفنان ليس أخضر أوراق الأشجار التي نعرفها، بل هو من عالم آخر شديد الغموض. والضوء في أعماله لا يهدف إلى أن يجعلنا نرى تفاصيل اللوحة-وهي كثيرة- بقدر ما يبدو أنه الناضح من قلب المشهد المرسوم وذلك مع أو من دون رغبتنا في تفكيك عناصره. أما اللون الرمادي الحاضر بقوة في لوحاته ليس دليلا على موت الأشجار، ولا اللون الأحمر هو لون طبيعي ممكن أن نراه متجليا في الطبيعة دون أن يثير في نفوسنا شيئا من الرهبة والتساؤل. ماذا يرسم الفنان في تلك الغابات التي ترفض أن تقدم لنا ذاتها ببساطة مشهدا طبيعيا جميلا نمر من قربه؟ أشجار هادئة الشجر رمز للحياة الشجر رمز للحياة لعل ما قدمه الفنان اللبناني في معارضه السابقة قادر على أن يجعلنا نرى كيف تطور عمله الفني عبر السنوات، وندرك بناء على أية أفكار تكاثرت تلك الأشجار وتحولت إلى هيئات مختلفة، ولكنها هيئات متقاربة في معارضه. أفكار لم تغب البتة في معرضه الجديد هذا، ولكنها هدأت هدوء غير المعني بما سيعثر عليه أي ناظر إليها. إنها أشجار قدرية غير معنية إلا بذاتها وبأحوالها الروحية. معرضه السابق الذي احتضنته صالة مارك هاشم كان كفيلا بأن يؤسس لمعرضه الجديد. معرض باختصار شديد استمر فيه الفنان في استخدام فن الكتابة غير المقروءة حيث أصبح نصه البصري بشكل عام أكثر عصبية وأكثر تفلتا من ذي قبل. في المعرض السابق، تدفقت الخطوط التي رسمها مرعب متشابكة ومتوترة كذبذبات إلكترونية عالية النبرة على قماشة اللوحة التي تلقت كتاباته المُبهمة. كلمات متقطعة ومتواصلة ومتداخلة بفنية يغلب عليها التشويش والثرثرة والحدة، وخاصة من خلال الخطوط التي تميل دون أن تتبنى اللين كمسار بصري ملازم لها. أما اليوم فأشجاره هي كما نصوصه المبهمة التي رسمها سابقا والتي شكلت أشجارا هي الأخرى حبلى بكلمات وأحرف مبهمة. غير أن الاختلاف الأكبر بين المعرضين هو أن السابق كان مشتعلا بعصبية مفرطة أما الثاني فقد هدأت وتيرته وبقي التكثيف التشكيلي الذي عُرف به الفنان، وبوح شعري يلمّح ولا يفصح. ذكر البيان الصحافي أن الأعمال المعروضة في “أشجار” أنجزها الفنان خلال فترة الحجر الصحي. وربما لأجل ذلك تميزت بهدوء مُتماسك دون لجم التعبيرية الجمة، التي هي أيضا من إحدى أهم خصائص أعماله السابقة والحاضرة. يُذكر أن الفنان جورج مرعب من مواليد لبنان 1960، حصل على شهادة الماجيستير في فن الرسم من الجامعة اللبنانية في بيروت، وبعد التخرج غادر إلى إيطاليا، حيث تلقى تعليمه في فن ترميم المعالم التاريخية والجداريات. ومنذ سنة 1992، أقام الفنان معارض فردية عديدة في أوروبا إضافة إلى دبي، وسوريا، وبلجيكا، والبحرين، ومن ضمنها نذكر معرض “أضرار جانبية” سنة 2012، ومعرض “كتابات” سنة 2016، كما شارك في معارض عالمية في فرنسا، وسويسرا، والولايات المتحدة، ومصر.

مشاركة :