كان يوم التنحي أصعب يوم في تاريخ الرئيس جمال عبدالناصر، فقد كثير من الناس أعصابهم وأغمي على كثيرين آخرين، ولم يكن متماسكا في هذا اليوم الا عبدالناصر نفسه، واستطاع ان يواجه الموقف الصعب بمغامرة كبرى وكان شديد اليقظة وهو يقوم بها. كان يوم 9 يونيو اثقل يوم في حياة الامة العربية، كانت العيون مقروحة من تلك الليلة وأحداثها، ما من أحد يريد أن يزاول عمله ولا حتى حركة الناس العادية كان شعورهم يتسم باليأس والتساؤلات الكثيرة، كان يومًا لم يكن معقولًا ما جرى فيه، ولكنه جرى. كانت الصحف قد خرجت على الناس صباح ذلك اليوم بخبر ما خرجت به في الايام السابقة. اختفت كل كلمات الانتصار من عناوين الصحف ويوم 9 يونيو أضيف اليها عناوين حزينة تكاد تكسر القلوب، كان من الصعب للصحف أن توصل اليها خبر قبول وقف اطلاق النار. الذي اذاعته (اذاعة القاهرة) من خلال نشراتها الاخبارية. وتجاهلته صحيفة الاهرام بينما نشرت الصحف الاخرى أن عبدالناصر سيلقي خطابًا مهمًا في الاذاعة والتلفزيون ولكن جاء انتظار واستقبال هذا الخبر بترقب من بعض الناس حتى أن الكثيرين منهم قال يا ترى ماذا سيقول عبدالناصر؟ كان تركيز عبدالناصر على الموقف الصعب الذي اصبح فيه واصبحت فيه البلاد، وكانت افكاره واعصابه مشدودة حول التصرف الذي يمكنه ان يتخذه ليواجه الموقف امام شعبه والشعب العربي والعالم بأسره. كانت الصدمة عنيفة ولم تكن متوقعة. ذلك عندما نزل من بيته في طريقه الى مقر القيادة كانت روحه المعنوية مرتفعة، لكن كانت الصدمة اشد وقعًا عندما شهد بعينه نظامه كله ينفتح امامه بكل المواجهة المعروفة التي واجهه بها المشير عبدالحكيم عامر وشمس بدران، والتي يقول فيها شاهد عيان ان المشير عامر اقترح على عبدالناصر ان يسلم الحكم لشمس بدران، فأجاب عبدالناصر، افكر، وإنما قال ايضا.. بنشوف، وهنا كان الفرق شاسعا بين القولين، فكلمة افكر تعني أن عبدالناصر متردد في قبول شمس بدران، ولكن كلمة طيب بنشوف كان فيها نوع من الموافقة الضمنية، وهكذا عندما نزل عبدالناصر من مبنى القيادة كان قد استقر في وعي الذين تركهم ان شمس بدران سيتولى الحكم، ولم تكن هذه الفكرة وليدة لحظتها، الامر الذي يفسر من ناحية أخرى قيام المشير عبدالحكيم عامر بإخراج بعض المسجونين في السجن الحربي الذين كانت قد صدرت ضدهم احكام بالسجن، كان سامي شرف في غرفة مكتبه في قلق شديد وهو يتطلع الى النافذة متسائلًا: لماذا لم يعد عبدالناصر الى الآن. وعندما شاهده يجتاز بوابة بيته اخذ يردد في إيقاع مذهول.. الحمدلله.. الحمدلله ودخل عبدالناصر غرفته، وكان اول ما فعله أن صفر (طبنجته) وملأ خزانتها بالرصاص ووضعها في متناول يده، لم يكن مطمئنًا الى مشهد القيادة، وكان يتوقع ان يحدث أي شيء ثم اخذ يباشر اتصالاته تليفونيًا، وكان اولها مع محمد فايق واستمرت طويلا يرسم له عبدالناصر الخط الذي يتبعه في الاذاعة، بعد ذلك اتصل محمد فايق بسامي شرف ينبئه بالتطورات. ثم اتصل عبدالناصر بـ(محمد حسنين هيكل) وكانت الساعة قد جاوزت الثانية صباحًا. واستمع عبدالناصر الى حديث طويل كان يحكى فيه تفاصيل ما دار في القيادة. واقبل صباح يوم 9 يونيو.. ولم يعلم احد بالتفاصيل للمحادثة الطويلة التي جرت بين عبدالناصر ومحمد حسنين هيكل، ولكن الذي عرف فيما بعد أن محمد حسنين هيكل عندما جاء في الحادية عشرة من صباح يوم 9 يونيو كان معه خطاب عبدالناصر معدا وجاهزًا وقبل دخول هيكل بيت عبدالناصر كان على وجهه غيظ مكبوت، ثم عاد هيكل الى مكتب سامي شرف الذي استدعى الكاتب على الآلة الكاتبة وبعد ان انتهت الكتابة خرج هيكل الى الاهرام، وخرج كاتب الماكينة بعد ان ترك الاوراق كلها مع سامي شرف وبعد فترة ومن داخل المكتب اخذ سامي شرف يصرخ ويبكي مثل ما يبكي اهل ميت ساعة خروجه من بيته، وتحول صراخه الى نحيب وتشنج يهتز له جسده كله ثم رفع التليفون فإذا بالمتحدث هيكل: فين سامي، كان الرد انه مش حيقدر يتكلم: هو جوه.. طيب بيصرخ ليه؟ لأن أعصابه تعبت شويه، وختم هيكل اتصاله بعبارة: لما يفوق خليه يكلمني. وقبل ان يحين موعد الخطاب استعاد هدوءه وتأهب للخروج قائلًا انا سوف اشوف ترتيبات اذاعة الخطبة: يقول سامي: انتظرت حتى رأيت من النافذة المواجهة لبيت الرئيس عبدالناصر موكبه يغادر البيت في طريقه الى قصر القبة، ثم أدرت جهاز التلفزيون كان وجه جمال عبدالناصر حزينًا مكتومًا.. ولكنه كان صلبًا حازمًا وكان ينطق عبارات الخطاب في رصانة ذكرتني بطريقة (طه حسين) في الالقاء غير انها كانت حزينة.. وكانت مهمته صعبة، كان الموقف قاسيًا (عبدالناصر قائد الامة ورئيس الجمهورية العربية المتحدة: هز اسماع العالم في مؤتمره الصحفي منذ عشرة ايام وصوته يجلجل بالنصر والأمل... ها هو ينطفئ بالكلمات الحزينة ويعترف بالهزيمة التي منبت بها مصر بل والشعب العربي بأسره ثم كانت مفاجأة قرار التنحي، وجاء اختياره لزكريا محيي الدين خلفًا له مفاجأة اخرى وحركت المفاجأة مشاعر الجماهير الى اقصى حد. يقول سامي شرف: انتبهت من ذهول بعد سماع الخطاب على ضجيج في الصالة الخارجية للمكتب حيث تجمهر الموظفون يتصايحون، ويتساءلون، وشاهدنا من خلال النافذة في وسط الشارع منظرًا فريدًا، نساء في ملابس البيت يجرين في الطريق يصرخن ويولولون.. جنود الحرس خرجوا من ثكناتهم القريبة وتجمعوا حول مدخل بيت عبدالناصر، مئات من الرجال والنساء.. انشقت الارض عنهم يصرخون ويهتفون، يسبقون موكب عبدالناصر وهو يعود الى بيته وسيارته تشق الطريق بصعوبة لتدخل البوابة والجماهير وراءها وعساكر الحرس يناضلون حتى استطاعوا اغلاق البوابة الحديدية على بيت عبدالناصر. وما هي الا لحظات حتى كان الشارع الذي يفصل بيننا وبين بيت جمال عبدالناصر كتلة متلاطمة من البشر.. والصياح والهتاف يشق الآذان... صراخ زلزل جميع الاراضي بالتحديد قرب بيت عبدالناصر، والكل كانما فقدوا التحكم في مشاعرهم.. وفي هذه الاثناء انشق الباب واندفع منه عبدالحميد سراج وزير داخلية سوريا اثناء الوحدة، كيف حدث هذا وأخذ يصرخ ويبكي ثم وقع مغشيًا عليه فحملناه بمساعدة آخرين الى وضعه على اريكة نحاول إفاقته، وما مرت دقائق حتى كان المكتب قد ضاق على من تقاطر فيه. منهم سعيد حليم عديل زكريا محيي الدين. هل زكريا قبل ذلك كان يقصد تولي الحكم في مصر وكان السائل هو سعيد حليم وقتها كان المستشار بوزارة الخارجية، لو قبل لضربته بالرصاص وكان حسين كامل بهاء الدين قال ان ثلاثين الف فرد من منظمة الشباب مستعدون للزحف على بيت عبدالناصر لإثنائه عن عزمه عن التنحي، ثم جاء المتكلم امين حداد مدير الاذاعة يقول ان لديه برقيات كلها تطلب عدول عبدالناصر عن التنحي ويسأل الرأي في اذاعتها وقلت له لا مانع من اذاعتها، وبدأت اذاعة البرقيات في الاذاعة والتلفزيون... وكان عبدالناصر في غرفته وسمع اذاعة البرقيات فارسل الى محمد فايق ليوقف إذاعتها. وقطع جمال عبدالناصر حيرتي وقال.. طيب نادي سامي وخليه يقعد في مكتبه ولا يتركه قلت وقد تنفست الصعداء... حاضر يا افندم. يواصل سامي شرف روايته قائلا: احسست وقتها انني اول واحد يعرف ان عبدالناصر قد قرر ان يبقى في مكانه ما دام قد بدأ يعطي الاوامر اذن فهو مازال رئيسًا للجمهورية وأخيرا استقر سامي شرف على مكتبه وبدأت الازمات، زكريا محيي الدين يريد ان يذيع بياناً يرفض الدور الذي اختاره له عبدالناصر، واكد انه لم يعلم بمضمون الخطاب من قبل عبدالناصر إلا من سائر الجماهير، وانه لا يقبل تنحي عبدالناصر ولا يقبل ان يحل محله، والمشير عبدالحكيم عامر يبعث بعض الضباط إلى مبنى الاذاعة لإذاعة بيان يعلن فيه استقالته، وشمس بدران هو الآخر يريد أن يذيع بياناً يعلن استقالته وكانت المسألة فعلاً بدأت بمنتهى الجدية والخطورة أن تتحول إلى ظروف مأساوية وتحرك عبدالناصر وامسك الخيوط بالقول: لا يجب إعادة إذاعة بيان التنحي ويذاع بيان زكريا محيي الدين بعد مراجعة مع محمد حسنين هيكل ولا تذاع أي بيانات سواه، ودق التليفون ورد سامي شرف عليه، فاذا به عبدالحكيم عامر يصرخ ثائراً: على آخر الزمن تمنع اذاعة بيان لي يا سامي، بعد ذلك انصرف الجميع من المكتب على أساس ما اذيع لتهدئة الجماهير ثم كان قرار عبدالناصر ان يتوجه اليوم التالي إلى مجلس الأمة ليعرض وجهة نظره ثم النزول على ارادة ما يقرره المجلس. عندما انتهى عبدالناصر من خطابه كان الوقت قبل الغروب، هاجت جموع الجماهير التي كانت تقف في الشارع تستمع للخطاب من أجهزة الراديو والتلفزيون في المقاهي والمحلات وانفجرت المشاعر المشحونة بأحداث الايام الأربعة والمتساوية نفسياً أمام المفاجأة القاسية التي اختتمت بها الأحداث، كانت الجموع تجري في الشوارع على غير هدى إلى مجلس الأمة ومجلس الوزراء وإلى قصر القبة والبعض إلى بيت الرئيس بمنشية البكري، وفي منتصف الليل ظهرت مجموعة كبيرة من الجماهير من القرى القريبة من العاصمة في الشوارع حول مجلس الأمة وميدان التحرير وقصر القبة، وظل الناس رجالاً ونساء واطفالا في الشارع بلا نوم حتى الصباح في انتظار مجيء الرئيس الى مجلس الأمة، لم يحركهم احد لا اوامر او تعليمات، كان الاهتمام مركزاً حول عبدالناصر، ولم يهتم احد باستقالة عبدالحكيم عامر او شمس بدران ويقول محمود الجيار المسؤول في مكتب عبدالناصر ان فكرة التنحي في 9 يونيو لم تكن تمثيلية، اقولها وانا صادق، لم يكن في استطاعة عبدالناصر ان يتقدم للشعب باستفتاء من اجل البقاء والتخلص من ازدواجية الحكم، فكانت عملية التنحي على ان الشيء الذي اعتقده انه كان واثقا من أن الشعب لن يخذله، وان إقدامه على التنحي كان له اهداف تحققت كلها بالفعل، أفاق الشعب المصري والعربي من صدمة الهزيمة ليواصل طريقه واعطى تفويضه ومساندته الكاملة لعبدالناصر في معركته لكي يعيد تنظيم الجيش في مصر بعيداً عن التمزق وروح الشليلية التي كانت سائدة، والتي وصلت بنا الى الحالة التي كنا عليها وقت التصدي لعدوان إسرائيل. لقد دخل عبدالناصر هذه المعركة بثبات وعزم وحسم وخطا خطواته بسرعة منذ اللحظة التي اعطاه الشعب فيها اشارة البدء ولم تكن المهمة سهلة وهناك نقطتان في خطاب التنحي، الأولى: ان الخطاب جاء بعد ظروف النكسة ليقدم عبدالناصر برنامج عمل للمرحلة القادمة في تسيير شؤون بلاده بالمنهج الذي يسير عليه ويتقيد به الثانية: ان هناك زعما يقول ان عبدالناصر تحمل رسمياً مسؤولية ما حدث، ولكن نص الخطاب لم يبت في هذه المسؤولية ولكن اصرار عبدالناصر جاء في قوله عبارة انه على استعداد ان يتحمل هذه المسؤولية كاملة، وفعلاً تم ما اراد وهذا ما تمت اضافته الى خطاب التنحي، لقد كان من الصعب ان تصدق ان عبدالناصر كان ينوي التخلي عن المسؤولية او انه فكر في التخلي عنها لشمس بدران بالذات المسؤول عن تدهور القدرات القتالية للجيش ذلك ان عبدالناصر الزعيم ولمعرفته الدقيقة بشمس بدران لم يكن على استعداد ان يتحمل امام التاريخ مسؤولية تسليمه حكم البلاد لشخص مثل شمس بدران بعد الصراعات الطويلة التي تسبب فيها داخل الجيش وفي دوائر السلطة خلال السنوات السابقة على النكسة من محاولة فرض سيطرته على البلاد، ذلك ان مجيء شمس للحكم كان سيفجر الصدام بين القوى العسكرية والمدنية في البلاد فضلا عن ان شمس بدران لم يكن يضمن هو نفسه تأييد الجيش كله له. ان عبدالناصر كان من البداية يفكر في ان يتولى الحكم زكريا محيي الدين، وهذا هو الوارد في الخطاب ولم يفصح عن ذلك لأحد الا ساعة إلقائه الخطاب مباشرة امام الجماهير، وكان اختياره لزكريا محيي الدين محسوباً بحساب دقيق، فاذا ما سار موضوع التنحي الى غايته، فان هذا يعني ان الجماهير قد انفضت من حوله فيكون عندئذ مطمئناً الى انه ترك امر البلاد في أياد يرى انها امينة وانها قادرة على التفاهم مع الغرب بدون ان يكون لها معه ضغائن سابقة. اما اذا رفضت الجماهير التنحي، فهذا يعني التمسك بقيادة عبدالناصر وبسياسته وتجديد الثقة فيه والبيعة لأن هذا الاختبار قد وضع امام الجماهير بطريقة غير مباشرة، وكان اختباراً سياسياً مهماً - وهو الاختيار بين الاستمرار في السياسة المناوئة للغرب او العمل على المهادنة مع الغرب. لقد عدل عبدالناصر عن قرار التنحي تحت ضغط الجماهير وحقق من هذا التنحي كل اهدافه، وكان اكبر هذه الاهداف واهمها انه اثبت للاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية انه مازال الرجل القوي في مصر والوطن العربي رغم النكسة، وان على كل منهما ان يتعامل معه دون غيره.. فلم تكن تمثيلية اذن، وانما كانت مغامرة محسوبة تضع في حسبانها الحرص على مصير البلاد ولقد جرت الاحداث فيها كما حسبها جمال عبدالناصر تماماً: تلك هي قصة التنحي.. وقد كانت ملحمة عاشها الشعب المصري والعربي بمشاعر صادقة تجاه قائد تاريخي اسمه جمال عبدالناصر الذي ستبقى ذكراه في وجدان أبناء مصر والامة العربية رغم مرور الزمان.
مشاركة :