وقفات مع جمال عبدالناصر في ذكرى خطاب التنحي عام 1967

  • 6/4/2022
  • 01:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

كان‭ ‬يوم‭ ‬التنحي‭ ‬أصعب‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الرئيس‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬فقد‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬أعصابهم‭ ‬وأغمي‭ ‬على‭ ‬كثيرين‭ ‬آخرين،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬متماسكا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬الا‭ ‬عبدالناصر‭ ‬نفسه،‭ ‬واستطاع‭ ‬ان‭ ‬يواجه‭ ‬الموقف‭ ‬الصعب‭ ‬بمغامرة‭ ‬كبرى‭ ‬وكان‭ ‬شديد‭ ‬اليقظة‭ ‬وهو‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭. ‬كان‭ ‬يوم‭ ‬9‭ ‬يونيو‭ ‬اثقل‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الامة‭ ‬العربية،‭ ‬كانت‭ ‬العيون‭ ‬مقروحة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬وأحداثها،‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يزاول‭ ‬عمله‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬حركة‭ ‬الناس‭ ‬العادية‭ ‬كان‭ ‬شعورهم‭ ‬يتسم‭ ‬باليأس‭ ‬والتساؤلات‭ ‬الكثيرة،‭ ‬كان‭ ‬يومًا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬معقولًا‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬فيه،‭ ‬ولكنه‭ ‬جرى‭. ‬كانت‭ ‬الصحف‭ ‬قد‭ ‬خرجت‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬صباح‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬بخبر‭ ‬ما‭ ‬خرجت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الايام‭ ‬السابقة‭.‬ اختفت‭ ‬كل‭ ‬كلمات‭ ‬الانتصار‭ ‬من‭ ‬عناوين‭ ‬الصحف‭ ‬ويوم‭ ‬9‭ ‬يونيو‭ ‬أضيف‭ ‬اليها‭ ‬عناوين‭ ‬حزينة‭ ‬تكاد‭ ‬تكسر‭ ‬القلوب،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬للصحف‭ ‬أن‭ ‬توصل‭ ‬اليها‭ ‬خبر‭ ‬قبول‭ ‬وقف‭ ‬اطلاق‭ ‬النار‭. ‬الذي‭ ‬اذاعته‭ (‬اذاعة‭ ‬القاهرة‭) ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نشراتها‭ ‬الاخبارية‭. ‬وتجاهلته‭ ‬صحيفة‭ ‬الاهرام‭ ‬بينما‭ ‬نشرت‭ ‬الصحف‭ ‬الاخرى‭ ‬أن‭ ‬عبدالناصر‭ ‬سيلقي‭ ‬خطابًا‭ ‬مهمًا‭ ‬في‭ ‬الاذاعة‭ ‬والتلفزيون‭ ‬ولكن‭ ‬جاء‭ ‬انتظار‭ ‬واستقبال‭ ‬هذا‭ ‬الخبر‭ ‬بترقب‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الكثيرين‭ ‬منهم‭ ‬قال‭ ‬يا‭ ‬ترى‭ ‬ماذا‭ ‬سيقول‭ ‬عبدالناصر؟‭ ‬ ‭ ‬كان‭ ‬تركيز‭ ‬عبدالناصر‭ ‬على‭ ‬الموقف‭ ‬الصعب‭ ‬الذي‭ ‬اصبح‭ ‬فيه‭ ‬واصبحت‭ ‬فيه‭ ‬البلاد،‭ ‬وكانت‭ ‬افكاره‭ ‬واعصابه‭ ‬مشدودة‭ ‬حول‭ ‬التصرف‭ ‬الذي‭ ‬يمكنه‭ ‬ان‭ ‬يتخذه‭ ‬ليواجه‭ ‬الموقف‭ ‬امام‭ ‬شعبه‭ ‬والشعب‭ ‬العربي‭ ‬والعالم‭ ‬بأسره‭.‬ كانت‭ ‬الصدمة‭ ‬عنيفة‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬متوقعة‭. ‬ذلك‭ ‬عندما‭ ‬نزل‭ ‬من‭ ‬بيته‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬الى‭ ‬مقر‭ ‬القيادة‭ ‬كانت‭ ‬روحه‭ ‬المعنوية‭ ‬مرتفعة،‭ ‬لكن‭ ‬كانت‭ ‬الصدمة‭ ‬اشد‭ ‬وقعًا‭ ‬عندما‭ ‬شهد‭ ‬بعينه‭ ‬نظامه‭ ‬كله‭ ‬ينفتح‭ ‬امامه‭ ‬بكل‭ ‬المواجهة‭ ‬المعروفة‭ ‬التي‭ ‬واجهه‭ ‬بها‭ ‬المشير‭ ‬عبدالحكيم‭ ‬عامر‭  ‬وشمس‭ ‬بدران،‭ ‬والتي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭ ‬شاهد‭ ‬عيان‭ ‬ان‭ ‬المشير‭ ‬عامر‭ ‬اقترح‭ ‬على‭ ‬عبدالناصر‭ ‬ان‭ ‬يسلم‭ ‬الحكم‭ ‬لشمس‭ ‬بدران،‭ ‬فأجاب‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬افكر،‭ ‬وإنما‭ ‬قال‭ ‬ايضا‭.. ‬بنشوف،‭ ‬وهنا‭ ‬كان‭ ‬الفرق‭ ‬شاسعا‭ ‬بين‭ ‬القولين،‭ ‬فكلمة‭ ‬افكر‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬عبدالناصر‭ ‬متردد‭ ‬في‭ ‬قبول‭ ‬شمس‭ ‬بدران،‭ ‬ولكن‭ ‬كلمة‭ ‬طيب‭ ‬بنشوف‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الموافقة‭ ‬الضمنية،‭ ‬وهكذا‭ ‬عندما‭ ‬نزل‭ ‬عبدالناصر‭ ‬من‭ ‬مبنى‭ ‬القيادة‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬استقر‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬الذين‭ ‬تركهم‭ ‬ان‭ ‬شمس‭ ‬بدران‭ ‬سيتولى‭ ‬الحكم،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬وليدة‭ ‬لحظتها،‭ ‬الامر‭ ‬الذي‭ ‬يفسر‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬قيام‭ ‬المشير‭ ‬عبدالحكيم‭ ‬عامر‭ ‬بإخراج‭ ‬بعض‭ ‬المسجونين‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬الحربي‭ ‬الذين‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬صدرت‭ ‬ضدهم‭ ‬احكام‭ ‬بالسجن،‭ ‬كان‭ ‬سامي‭ ‬شرف‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬مكتبه‭ ‬في‭ ‬قلق‭ ‬شديد‭ ‬وهو‭ ‬يتطلع‭ ‬الى‭ ‬النافذة‭ ‬متسائلًا‭: ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬عبدالناصر‭ ‬الى‭ ‬الآن‭.‬ ‭ ‬وعندما‭ ‬شاهده‭ ‬يجتاز‭ ‬بوابة‭ ‬بيته‭ ‬اخذ‭ ‬يردد‭ ‬في‭ ‬إيقاع‭ ‬مذهول‭.. ‬الحمدلله‭.. ‬الحمدلله‭ ‬ودخل‭ ‬عبدالناصر‭ ‬غرفته،‭ ‬وكان‭ ‬اول‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬أن‭ ‬صفر‭ (‬طبنجته‭) ‬وملأ‭ ‬خزانتها‭ ‬بالرصاص‭ ‬ووضعها‭ ‬في‭ ‬متناول‭ ‬يده،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مطمئنًا‭ ‬الى‭ ‬مشهد‭ ‬القيادة،‭ ‬وكان‭ ‬يتوقع‭ ‬ان‭ ‬يحدث‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬ثم‭ ‬اخذ‭ ‬يباشر‭ ‬اتصالاته‭ ‬تليفونيًا،‭ ‬وكان‭ ‬اولها‭ ‬مع‭ ‬محمد‭ ‬فايق‭ ‬واستمرت‭ ‬طويلا‭ ‬يرسم‭ ‬له‭ ‬عبدالناصر‭ ‬الخط‭ ‬الذي‭ ‬يتبعه‭ ‬في‭ ‬الاذاعة،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬اتصل‭ ‬محمد‭ ‬فايق‭ ‬بسامي‭ ‬شرف‭ ‬ينبئه‭ ‬بالتطورات‭. ‬ثم‭ ‬اتصل‭ ‬عبدالناصر‭ ‬بـ‭(‬محمد‭ ‬حسنين‭ ‬هيكل‭) ‬وكانت‭ ‬الساعة‭ ‬قد‭ ‬جاوزت‭ ‬الثانية‭ ‬صباحًا‭. ‬واستمع‭ ‬عبدالناصر‭ ‬الى‭ ‬حديث‭ ‬طويل‭ ‬كان‭ ‬يحكى‭ ‬فيه‭ ‬تفاصيل‭ ‬ما‭ ‬دار‭ ‬في‭ ‬القيادة‭. ‬‭ ‬ واقبل‭ ‬صباح‭ ‬يوم‭ ‬9‭ ‬يونيو‭.. ‬ولم‭ ‬يعلم‭ ‬احد‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬للمحادثة‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬بين‭ ‬عبدالناصر‭ ‬ومحمد‭ ‬حسنين‭ ‬هيكل،‭ ‬ولكن‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬محمد‭ ‬حسنين‭ ‬هيكل‭ ‬عندما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬صباح‭ ‬يوم‭ ‬9‭ ‬يونيو‭ ‬كان‭ ‬معه‭ ‬خطاب‭ ‬عبدالناصر‭ ‬معدا‭ ‬وجاهزًا‭ ‬وقبل‭ ‬دخول‭ ‬هيكل‭ ‬بيت‭ ‬عبدالناصر‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬غيظ‭ ‬مكبوت،‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬هيكل‭ ‬الى‭ ‬مكتب‭ ‬سامي‭ ‬شرف‭ ‬الذي‭ ‬استدعى‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬الآلة‭ ‬الكاتبة‭ ‬وبعد‭ ‬ان‭ ‬انتهت‭ ‬الكتابة‭ ‬خرج‭ ‬هيكل‭ ‬الى‭ ‬الاهرام،‭ ‬وخرج‭ ‬كاتب‭ ‬الماكينة‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬ترك‭ ‬الاوراق‭ ‬كلها‭ ‬مع‭ ‬سامي‭ ‬شرف‭ ‬وبعد‭ ‬فترة‭ ‬ومن‭ ‬داخل‭ ‬المكتب‭ ‬اخذ‭ ‬سامي‭ ‬شرف‭ ‬يصرخ‭ ‬ويبكي‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬يبكي‭ ‬اهل‭ ‬ميت‭ ‬ساعة‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬بيته،‭ ‬وتحول‭ ‬صراخه‭ ‬الى‭ ‬نحيب‭ ‬وتشنج‭ ‬يهتز‭ ‬له‭ ‬جسده‭ ‬كله‭ ‬ثم‭ ‬رفع‭ ‬التليفون‭ ‬فإذا‭ ‬بالمتحدث‭ ‬هيكل‭: ‬فين‭ ‬سامي،‭ ‬كان‭ ‬الرد‭ ‬انه‭ ‬مش‭ ‬حيقدر‭ ‬يتكلم‭: ‬هو‭ ‬جوه‭.. ‬طيب‭ ‬بيصرخ‭ ‬ليه؟‭ ‬لأن‭ ‬أعصابه‭ ‬تعبت‭ ‬شويه،‭ ‬وختم‭ ‬هيكل‭ ‬اتصاله‭ ‬بعبارة‭: ‬لما‭ ‬يفوق‭ ‬خليه‭ ‬يكلمني‭. ‬ وقبل‭ ‬ان‭ ‬يحين‭ ‬موعد‭ ‬الخطاب‭ ‬استعاد‭ ‬هدوءه‭ ‬وتأهب‭ ‬للخروج‭ ‬قائلًا‭ ‬انا‭ ‬سوف‭ ‬اشوف‭ ‬ترتيبات‭ ‬اذاعة‭ ‬الخطبة‭: ‬يقول‭ ‬سامي‭: ‬انتظرت‭ ‬حتى‭ ‬رأيت‭ ‬من‭ ‬النافذة‭ ‬المواجهة‭ ‬لبيت‭ ‬الرئيس‭ ‬عبدالناصر‭ ‬موكبه‭ ‬يغادر‭ ‬البيت‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬الى‭ ‬قصر‭ ‬القبة،‭ ‬ثم‭ ‬أدرت‭ ‬جهاز‭ ‬التلفزيون‭ ‬كان‭ ‬وجه‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬حزينًا‭ ‬مكتومًا‭.. ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬صلبًا‭ ‬حازمًا‭ ‬وكان‭ ‬ينطق‭ ‬عبارات‭ ‬الخطاب‭ ‬في‭ ‬رصانة‭ ‬ذكرتني‭ ‬بطريقة‭ (‬طه‭ ‬حسين‭) ‬في‭ ‬الالقاء‭ ‬غير‭ ‬انها‭ ‬كانت‭ ‬حزينة‭.. ‬وكانت‭ ‬مهمته‭ ‬صعبة،‭ ‬كان‭ ‬الموقف‭ ‬قاسيًا‭ (‬عبدالناصر‭ ‬قائد‭ ‬الامة‭ ‬ورئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬العربية‭ ‬المتحدة‭: ‬هز‭ ‬اسماع‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬مؤتمره‭ ‬الصحفي‭ ‬منذ‭ ‬عشرة‭ ‬ايام‭ ‬وصوته‭ ‬يجلجل‭ ‬بالنصر‭ ‬والأمل‭... ‬ها‭ ‬هو‭ ‬ينطفئ‭ ‬بالكلمات‭ ‬الحزينة‭ ‬ويعترف‭ ‬بالهزيمة‭ ‬التي‭ ‬منبت‭ ‬بها‭ ‬مصر‭ ‬بل‭ ‬والشعب‭ ‬العربي‭ ‬بأسره‭ ‬ثم‭ ‬كانت‭ ‬مفاجأة‭ ‬قرار‭ ‬التنحي،‭ ‬وجاء‭ ‬اختياره‭ ‬لزكريا‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬خلفًا‭ ‬له‭ ‬مفاجأة‭ ‬اخرى‭ ‬وحركت‭ ‬المفاجأة‭ ‬مشاعر‭ ‬الجماهير‭ ‬الى‭ ‬اقصى‭ ‬حد‭. ‬يقول‭ ‬سامي‭ ‬شرف‭: ‬انتبهت‭ ‬من‭ ‬ذهول‭ ‬بعد‭ ‬سماع‭ ‬الخطاب‭ ‬على‭ ‬ضجيج‭ ‬في‭ ‬الصالة‭ ‬الخارجية‭ ‬للمكتب‭ ‬حيث‭ ‬تجمهر‭ ‬الموظفون‭ ‬يتصايحون،‭ ‬ويتساءلون،‭ ‬وشاهدنا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النافذة‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الشارع‭ ‬منظرًا‭ ‬فريدًا،‭ ‬نساء‭ ‬في‭ ‬ملابس‭ ‬البيت‭ ‬يجرين‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬يصرخن‭ ‬ويولولون‭.. ‬جنود‭ ‬الحرس‭ ‬خرجوا‭ ‬من‭ ‬ثكناتهم‭ ‬القريبة‭ ‬وتجمعوا‭ ‬حول‭ ‬مدخل‭ ‬بيت‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬مئات‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭.. ‬انشقت‭ ‬الارض‭ ‬عنهم‭ ‬يصرخون‭ ‬ويهتفون،‭ ‬يسبقون‭ ‬موكب‭ ‬عبدالناصر‭ ‬وهو‭ ‬يعود‭ ‬الى‭ ‬بيته‭ ‬وسيارته‭ ‬تشق‭ ‬الطريق‭ ‬بصعوبة‭ ‬لتدخل‭ ‬البوابة‭ ‬والجماهير‭ ‬وراءها‭ ‬وعساكر‭ ‬الحرس‭ ‬يناضلون‭ ‬حتى‭ ‬استطاعوا‭ ‬اغلاق‭ ‬البوابة‭ ‬الحديدية‭ ‬على‭ ‬بيت‭ ‬عبدالناصر‭. ‬وما‭ ‬هي‭ ‬الا‭ ‬لحظات‭ ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬الشارع‭ ‬الذي‭ ‬يفصل‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬بيت‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬كتلة‭ ‬متلاطمة‭ ‬من‭ ‬البشر‭.. ‬والصياح‭ ‬والهتاف‭ ‬يشق‭ ‬الآذان‭... ‬صراخ‭ ‬زلزل‭ ‬جميع‭ ‬الاراضي‭ ‬بالتحديد‭ ‬قرب‭ ‬بيت‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬والكل‭ ‬كانما‭ ‬فقدوا‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬مشاعرهم‭.. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الاثناء‭ ‬انشق‭ ‬الباب‭ ‬واندفع‭ ‬منه‭ ‬عبدالحميد‭ ‬سراج‭ ‬وزير‭ ‬داخلية‭ ‬سوريا‭ ‬اثناء‭ ‬الوحدة،‭ ‬كيف‭ ‬حدث‭ ‬هذا‭ ‬وأخذ‭ ‬يصرخ‭ ‬ويبكي‭ ‬ثم‭ ‬وقع‭ ‬مغشيًا‭ ‬عليه‭ ‬فحملناه‭ ‬بمساعدة‭ ‬آخرين‭ ‬الى‭ ‬وضعه‭ ‬على‭ ‬اريكة‭ ‬نحاول‭ ‬إفاقته،‭ ‬وما‭ ‬مرت‭ ‬دقائق‭ ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬المكتب‭ ‬قد‭ ‬ضاق‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬تقاطر‭ ‬فيه‭. ‬منهم‭ ‬سعيد‭ ‬حليم‭ ‬عديل‭ ‬زكريا‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭. ‬هل‭ ‬زكريا‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬يقصد‭ ‬تولي‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وكان‭ ‬السائل‭ ‬هو‭ ‬سعيد‭ ‬حليم‭ ‬وقتها‭ ‬كان‭ ‬المستشار‭ ‬بوزارة‭ ‬الخارجية،‭ ‬لو‭ ‬قبل‭ ‬لضربته‭ ‬بالرصاص‭ ‬وكان‭ ‬حسين‭ ‬كامل‭ ‬بهاء‭ ‬الدين‭ ‬قال‭ ‬ان‭ ‬ثلاثين‭ ‬الف‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬منظمة‭ ‬الشباب‭ ‬مستعدون‭ ‬للزحف‭ ‬على‭ ‬بيت‭ ‬عبدالناصر‭ ‬لإثنائه‭ ‬عن‭ ‬عزمه‭ ‬عن‭ ‬التنحي،‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬المتكلم‭ ‬امين‭ ‬حداد‭ ‬مدير‭ ‬الاذاعة‭ ‬يقول‭ ‬ان‭ ‬لديه‭ ‬برقيات‭ ‬كلها‭ ‬تطلب‭ ‬عدول‭ ‬عبدالناصر‭ ‬عن‭ ‬التنحي‭ ‬ويسأل‭ ‬الرأي‭ ‬في‭ ‬اذاعتها‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬لا‭ ‬مانع‭ ‬من‭ ‬اذاعتها،‭ ‬‭ ‬وبدأت‭ ‬اذاعة‭ ‬البرقيات‭ ‬في‭ ‬الاذاعة‭ ‬والتلفزيون‭... ‬وكان‭ ‬عبدالناصر‭ ‬في‭ ‬غرفته‭ ‬وسمع‭ ‬اذاعة‭ ‬البرقيات‭ ‬فارسل‭ ‬الى‭ ‬محمد‭ ‬فايق‭ ‬ليوقف‭ ‬إذاعتها‭. ‬ ‭ ‬وقطع‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬حيرتي‭ ‬وقال‭.. ‬طيب‭ ‬نادي‭ ‬سامي‭ ‬وخليه‭ ‬يقعد‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭ ‬ولا‭ ‬يتركه‭ ‬قلت‭ ‬وقد‭ ‬تنفست‭ ‬الصعداء‭... ‬حاضر‭ ‬يا‭ ‬افندم‭.‬ ‭ ‬يواصل‭ ‬سامي‭ ‬شرف‭ ‬روايته‭ ‬قائلا‭: ‬احسست‭ ‬وقتها‭ ‬انني‭ ‬اول‭ ‬واحد‭ ‬يعرف‭ ‬ان‭ ‬عبدالناصر‭ ‬قد‭ ‬قرر‭ ‬ان‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬يعطي‭ ‬الاوامر‭ ‬اذن‭ ‬فهو‭ ‬مازال‭ ‬رئيسًا‭ ‬للجمهورية‭ ‬وأخيرا‭ ‬استقر‭ ‬سامي‭ ‬شرف‭ ‬على‭ ‬مكتبه‭ ‬وبدأت‭ ‬الازمات،‭ ‬زكريا‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬يريد‭ ‬ان‭ ‬يذيع‭ ‬بياناً‭ ‬يرفض‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬اختاره‭ ‬له‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬واكد‭ ‬انه‭ ‬لم‭ ‬يعلم‭ ‬بمضمون‭ ‬الخطاب‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عبدالناصر‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬سائر‭ ‬الجماهير،‭ ‬وانه‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬تنحي‭ ‬عبدالناصر‭ ‬ولا‭ ‬يقبل‭ ‬ان‭ ‬يحل‭ ‬محله،‭ ‬والمشير‭ ‬عبدالحكيم‭ ‬عامر‭ ‬يبعث‭ ‬بعض‭ ‬الضباط‭ ‬إلى‭ ‬مبنى‭ ‬الاذاعة‭ ‬لإذاعة‭ ‬بيان‭ ‬يعلن‭ ‬فيه‭ ‬استقالته،‭ ‬وشمس‭ ‬بدران‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يذيع‭ ‬بياناً‭ ‬يعلن‭ ‬استقالته‭ ‬وكانت‭ ‬المسألة‭ ‬فعلاً‭ ‬بدأت‭ ‬بمنتهى‭ ‬الجدية‭ ‬والخطورة‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬ظروف‭ ‬مأساوية‭ ‬وتحرك‭ ‬عبدالناصر‭ ‬وامسك‭ ‬الخيوط‭ ‬بالقول‭: ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬إعادة‭ ‬إذاعة‭ ‬بيان‭ ‬التنحي‭ ‬ويذاع‭ ‬بيان‭ ‬زكريا‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬بعد‭ ‬مراجعة‭ ‬مع‭ ‬محمد‭ ‬حسنين‭ ‬هيكل‭ ‬ولا‭ ‬تذاع‭ ‬أي‭ ‬بيانات‭ ‬سواه،‭ ‬ودق‭ ‬التليفون‭ ‬ورد‭ ‬سامي‭ ‬شرف‭ ‬عليه،‭ ‬فاذا‭ ‬به‭ ‬عبدالحكيم‭ ‬عامر‭ ‬يصرخ‭ ‬ثائراً‭: ‬على‭ ‬آخر‭ ‬الزمن‭ ‬تمنع‭ ‬اذاعة‭ ‬بيان‭ ‬لي‭ ‬يا‭ ‬سامي،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬انصرف‭ ‬الجميع‭ ‬من‭ ‬المكتب‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬ما‭ ‬اذيع‭ ‬لتهدئة‭ ‬الجماهير‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬قرار‭ ‬عبدالناصر‭ ‬ان‭ ‬يتوجه‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬إلى‭ ‬مجلس‭ ‬الأمة‭ ‬ليعرض‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬ثم‭ ‬النزول‭ ‬على‭ ‬ارادة‭ ‬ما‭ ‬يقرره‭ ‬المجلس‭. ‬عندما‭ ‬انتهى‭ ‬عبدالناصر‭ ‬من‭ ‬خطابه‭ ‬كان‭ ‬الوقت‭ ‬قبل‭ ‬الغروب،‭ ‬هاجت‭ ‬جموع‭ ‬الجماهير‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقف‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬تستمع‭ ‬للخطاب‭ ‬من‭ ‬أجهزة‭ ‬الراديو‭ ‬والتلفزيون‭ ‬في‭ ‬المقاهي‭ ‬والمحلات‭ ‬وانفجرت‭ ‬المشاعر‭ ‬المشحونة‭ ‬بأحداث‭ ‬الايام‭ ‬الأربعة‭ ‬والمتساوية‭ ‬نفسياً‭ ‬أمام‭ ‬المفاجأة‭ ‬القاسية‭ ‬التي‭ ‬اختتمت‭ ‬بها‭ ‬الأحداث،‭ ‬كانت‭ ‬الجموع‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬هدى‭ ‬إلى‭ ‬مجلس‭ ‬الأمة‭ ‬ومجلس‭ ‬الوزراء‭ ‬وإلى‭ ‬قصر‭ ‬القبة‭ ‬والبعض‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬الرئيس‭ ‬بمنشية‭ ‬البكري،‭ ‬وفي‭ ‬منتصف‭ ‬الليل‭ ‬ظهرت‭ ‬مجموعة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الجماهير‭ ‬من‭ ‬القرى‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬العاصمة‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬حول‭ ‬مجلس‭ ‬الأمة‭ ‬وميدان‭ ‬التحرير‭ ‬وقصر‭ ‬القبة،‭ ‬وظل‭ ‬الناس‭ ‬رجالاً‭ ‬ونساء‭ ‬واطفالا‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬بلا‭ ‬نوم‭ ‬حتى‭ ‬الصباح‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬مجيء‭ ‬الرئيس‭ ‬الى‭ ‬مجلس‭ ‬الأمة،‭ ‬لم‭ ‬يحركهم‭ ‬احد‭ ‬لا‭ ‬اوامر‭ ‬او‭ ‬تعليمات،‭ ‬كان‭ ‬الاهتمام‭ ‬مركزاً‭ ‬حول‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬ولم‭ ‬يهتم‭ ‬احد‭ ‬باستقالة‭ ‬عبدالحكيم‭ ‬عامر‭ ‬او‭ ‬شمس‭ ‬بدران‭ ‬ويقول‭ ‬محمود‭ ‬الجيار‭ ‬المسؤول‭ ‬في‭ ‬مكتب‭ ‬عبدالناصر‭ ‬ان‭ ‬فكرة‭ ‬التنحي‭ ‬في‭ ‬9‭ ‬يونيو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تمثيلية،‭ ‬اقولها‭ ‬وانا‭ ‬صادق،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬استطاعة‭ ‬عبدالناصر‭ ‬ان‭ ‬يتقدم‭ ‬للشعب‭ ‬باستفتاء‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬البقاء‭ ‬والتخلص‭ ‬من‭ ‬ازدواجية‭ ‬الحكم،‭ ‬فكانت‭ ‬عملية‭ ‬التنحي‭ ‬على‭ ‬ان‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬اعتقده‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬واثقا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الشعب‭ ‬لن‭ ‬يخذله،‭ ‬وان‭ ‬إقدامه‭ ‬على‭ ‬التنحي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬اهداف‭ ‬تحققت‭ ‬كلها‭ ‬بالفعل،‭ ‬أفاق‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬والعربي‭ ‬من‭ ‬صدمة‭ ‬الهزيمة‭ ‬ليواصل‭ ‬طريقه‭ ‬واعطى‭ ‬تفويضه‭ ‬ومساندته‭ ‬الكاملة‭ ‬لعبدالناصر‭ ‬في‭ ‬معركته‭ ‬لكي‭ ‬يعيد‭ ‬تنظيم‭ ‬الجيش‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬التمزق‭ ‬وروح‭ ‬الشليلية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سائدة،‭ ‬والتي‭ ‬وصلت‭ ‬بنا‭ ‬الى‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬عليها‭ ‬وقت‭ ‬التصدي‭ ‬لعدوان‭ ‬إسرائيل‭.‬ لقد‭ ‬دخل‭ ‬عبدالناصر‭ ‬هذه‭ ‬المعركة‭ ‬بثبات‭ ‬وعزم‭ ‬وحسم‭ ‬وخطا‭ ‬خطواته‭ ‬بسرعة‭ ‬منذ‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬اعطاه‭ ‬الشعب‭ ‬فيها‭ ‬اشارة‭ ‬البدء‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬المهمة‭ ‬سهلة‭ ‬وهناك‭ ‬نقطتان‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬التنحي،‭ ‬الأولى‭: ‬ان‭ ‬الخطاب‭ ‬جاء‭ ‬بعد‭ ‬ظروف‭ ‬النكسة‭ ‬ليقدم‭ ‬عبدالناصر‭ ‬برنامج‭ ‬عمل‭ ‬للمرحلة‭ ‬القادمة‭ ‬في‭ ‬تسيير‭ ‬شؤون‭ ‬بلاده‭ ‬بالمنهج‭ ‬الذي‭ ‬يسير‭ ‬عليه‭ ‬ويتقيد‭ ‬به‭ ‬الثانية‭: ‬ان‭ ‬هناك‭ ‬زعما‭ ‬يقول‭ ‬ان‭ ‬عبدالناصر‭ ‬تحمل‭ ‬رسمياً‭ ‬مسؤولية‭ ‬ما‭ ‬حدث،‭ ‬ولكن‭ ‬نص‭ ‬الخطاب‭ ‬لم‭ ‬يبت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسؤولية‭ ‬ولكن‭ ‬اصرار‭ ‬عبدالناصر‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬عبارة‭ ‬انه‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬ان‭ ‬يتحمل‭ ‬هذه‭ ‬المسؤولية‭ ‬كاملة،‭ ‬وفعلاً‭ ‬تم‭ ‬ما‭ ‬اراد‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تمت‭ ‬اضافته‭ ‬الى‭ ‬خطاب‭ ‬التنحي،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬ان‭ ‬تصدق‭ ‬ان‭ ‬عبدالناصر‭ ‬كان‭ ‬ينوي‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬المسؤولية‭ ‬او‭ ‬انه‭ ‬فكر‭ ‬في‭ ‬التخلي‭ ‬عنها‭ ‬لشمس‭ ‬بدران‭ ‬بالذات‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬تدهور‭ ‬القدرات‭ ‬القتالية‭ ‬للجيش‭ ‬ذلك‭ ‬ان‭ ‬عبدالناصر‭ ‬الزعيم‭ ‬ولمعرفته‭ ‬الدقيقة‭ ‬بشمس‭ ‬بدران‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬ان‭ ‬يتحمل‭ ‬امام‭ ‬التاريخ‭ ‬مسؤولية‭ ‬تسليمه‭ ‬حكم‭ ‬البلاد‭ ‬لشخص‭ ‬مثل‭ ‬شمس‭ ‬بدران‭ ‬بعد‭ ‬الصراعات‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬تسبب‭ ‬فيها‭ ‬داخل‭ ‬الجيش‭ ‬وفي‭ ‬دوائر‭ ‬السلطة‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬السابقة‭ ‬على‭ ‬النكسة‭ ‬من‭ ‬محاولة‭ ‬فرض‭ ‬سيطرته‭ ‬على‭ ‬البلاد،‭ ‬ذلك‭ ‬ان‭ ‬مجيء‭ ‬شمس‭ ‬للحكم‭ ‬كان‭ ‬سيفجر‭ ‬الصدام‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬العسكرية‭ ‬والمدنية‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬ان‭ ‬شمس‭ ‬بدران‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يضمن‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬تأييد‭ ‬الجيش‭ ‬كله‭ ‬له‭.‬ ‭ ‬ان‭ ‬عبدالناصر‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬ان‭ ‬يتولى‭ ‬الحكم‭ ‬زكريا‭ ‬محيي‭ ‬الدين،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الوارد‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬ولم‭ ‬يفصح‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬لأحد‭ ‬الا‭ ‬ساعة‭ ‬إلقائه‭ ‬الخطاب‭ ‬مباشرة‭ ‬امام‭ ‬الجماهير،‭ ‬وكان‭ ‬اختياره‭ ‬لزكريا‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬محسوباً‭ ‬بحساب‭ ‬دقيق،‭ ‬فاذا‭ ‬ما‭ ‬سار‭ ‬موضوع‭ ‬التنحي‭ ‬الى‭ ‬غايته،‭ ‬فان‭ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬ان‭ ‬الجماهير‭ ‬قد‭ ‬انفضت‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬فيكون‭ ‬عندئذ‭ ‬مطمئناً‭ ‬الى‭ ‬انه‭ ‬ترك‭ ‬امر‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬أياد‭ ‬يرى‭ ‬انها‭ ‬امينة‭ ‬وانها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التفاهم‭ ‬مع‭ ‬الغرب‭ ‬بدون‭ ‬ان‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬معه‭ ‬ضغائن‭ ‬سابقة‭.‬ اما‭ ‬اذا‭ ‬رفضت‭ ‬الجماهير‭ ‬التنحي،‭ ‬فهذا‭ ‬يعني‭ ‬التمسك‭ ‬بقيادة‭ ‬عبدالناصر‭ ‬وبسياسته‭ ‬وتجديد‭ ‬الثقة‭ ‬فيه‭ ‬والبيعة‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬الاختبار‭ ‬قد‭ ‬وضع‭ ‬امام‭ ‬الجماهير‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬وكان‭ ‬اختباراً‭ ‬سياسياً‭ ‬مهماً‭ - ‬وهو‭ ‬الاختيار‭ ‬بين‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬المناوئة‭ ‬للغرب‭ ‬او‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬المهادنة‭ ‬مع‭ ‬الغرب‭.‬ لقد‭ ‬عدل‭ ‬عبدالناصر‭ ‬عن‭ ‬قرار‭ ‬التنحي‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬الجماهير‭ ‬وحقق‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التنحي‭ ‬كل‭ ‬اهدافه،‭ ‬وكان‭ ‬اكبر‭ ‬هذه‭ ‬الاهداف‭ ‬واهمها‭ ‬انه‭ ‬اثبت‭ ‬للاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الامريكية‭ ‬انه‭ ‬مازال‭ ‬الرجل‭ ‬القوي‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والوطن‭ ‬العربي‭ ‬رغم‭ ‬النكسة،‭ ‬وان‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬ان‭ ‬يتعامل‭ ‬معه‭ ‬دون‭ ‬غيره‭.. ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬تمثيلية‭ ‬اذن،‭ ‬وانما‭ ‬كانت‭ ‬مغامرة‭ ‬محسوبة‭ ‬تضع‭ ‬في‭ ‬حسبانها‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬مصير‭ ‬البلاد‭ ‬ولقد‭ ‬جرت‭ ‬الاحداث‭ ‬فيها‭ ‬كما‭ ‬حسبها‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬تماماً‭: ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬قصة‭ ‬التنحي‭.. ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬ملحمة‭ ‬عاشها‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬والعربي‭ ‬بمشاعر‭ ‬صادقة‭ ‬تجاه‭ ‬قائد‭ ‬تاريخي‭ ‬اسمه‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬الذي‭ ‬ستبقى‭ ‬ذكراه‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬أبناء‭ ‬مصر‭ ‬والامة‭ ‬العربية‭ ‬رغم‭ ‬مرور‭ ‬الزمان‭. ‬

مشاركة :