الغزو الروسي لأوكرانيا يقلب النظام العالمي

  • 6/4/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تزعزع الاستقرار في أوروبا وضعف الاقتصاد الدولي وانقلب النظام العالمي رأسا على عقب على مدى مئة يوم منذ بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مصر على المضي قدما في حملته رغم تدهور الاقتصاد الروسي والإخفاقات العسكرية. وقبل إطلاق روسيا الغزو في الرابع والعشرين من فبراير الماضي، كان بوتين محاورا دائما ولو فظا للعواصم الغربية، حتى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استقبله في مقر إقامته الصيفي في صيف 2019. لكن القادة الغربيين لا يترددون اليوم في وصفه بـ”دكتاتور” و”مجرم حرب”، بينما بات الرئيس الروسي معزولا وفُرضت عقوبات على مقرّبين منه مثل وزير الخارجية سيرجي لافروف الذي كان في الماضي يجري زيارات متكررة للغرب. أما داخليا، فيبدو أن بوتين يسيطر على الوضع بل وحتى يحظى بالدعم في حربه ضد أوكرانيا، رغم الشائعات المتكررة وغير المؤكدة المرتبطة بوضعه الصحي وعدم الرضا في صفوف المقرّبين منه. وفشلت روسيا في هدفها الأول المتمثل بإطلاق هجوم خاطف أرادت من خلاله السيطرة على كييف، إذ واجهت مقاومة أوكرانية لم يتوقعها الكرملين. غزو أوكرانيا أعاد رسم الخرائط الجيوسياسية والتحالفات العسكرية كما أن العقوبات على روسيا تؤثر على العالم ومع ذلك، باتت القوات الروسية ترسّخ وجودها عميقا في الأراضي الأوكرانية، بينما تبدو موسكو عازمة على انتزاع جميع أراضي منطقة دونباس الناطقة بالروسية. وسبق لروسيا أن أعادت رسم خرائط بشكل صارخ من خلال ضمها شبه جزيرة القرم الأوكرانية المطلة على البحر الأسود عام 2014، علما أن المجتمع الدولي لم يعترف بالخطوة قط. لكن في وقت لا يبدو بوتين في عجلة من أمره للانسحاب، مازالت أهدافه النهائية غير واضحة. وإذا سقطت منطقة دونباس، يمكن أن يكون ميناء أوديسا الاستراتيجي غربا “في خط النار”، وفق ما أفاد خبير الجغرافيا والدبلوماسي السابق ميشال فوشيه. وأكد “الفترة التي بدأت غير مواتية للأوكرانيين”. وبينما وقف الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة صفا واحدا نسبيا (رغم الاختلاف في الاستراتيجيات) حيال الحاجة للضغط على روسيا، لم يكن هذا الموقف السائد على مستوى العالم. ولم تصدر أي إدانة صينية صريحة للهجوم الروسي واستغلت موسكو عزلتها في الغرب لتوطد علاقاتها مع بكين التي كانت مشحونة تاريخيا منذ الحقبة السوفيتية. وبدت الهند، التي تعد حليفة رئيسية لروسيا خصوصا في ما يتعلق بمبيعات الأسلحة، متحفظة أيضا. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حريصا على عدم تقويض العلاقات مع موسكو رغم استخدام أوكرانيا لمسيّرات تركيا. وذكر مدير برنامج الحوكمة والدبلوماسية الأفريقية لدى المعهد جنوب الأفريقي للشؤون الدولية ستيفن غروزد أن معظم دول مجموعة “بريكس” للاقتصادات الناشئة كانت “مترددة للغاية” في إدانة الغزو. وأفاد “أعتقد أن هناك دولا في أفريقيا تقول إنها تفضّل البقاء على الحياد مثل جنوب أفريقيا، لكن يفسّر ذلك على أنه دعم لروسيا في هذا الوضع”. وقبل الرابع والعشرين من فبراير، كانت مسألة انضمام فنلندا والسويد غير المنحازتين تاريخيا إلى حلف شمال الأطلسي بعيدة عن سلم الأولويات السياسية للبلدين الاسكندينافيين. لكن الآن، تقدّمت فنلندا التي تتشارك حدودا برية مع روسيا والسويد التي تعود خلافاتها البحرية مع موسكو إلى قرون، بطلبين للانضمام إلى الناتو. وفي الأثناء، أرسلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون الآلاف من الجنود الإضافيين للمساعدة على حماية حدود دول الناتو مع روسيا في بولندا ودول البلطيق. واتفقت قوى العالم على عقوبات تعد الأشد ضد روسيا، فسعت لقطعها عن الجزء الأكبر من الاقتصاد العالمي وإيذاء بوتين سياسيا. لكن القيود تحمل خطر الإضرار بالمستهلكين خارج روسيا التي تعد مورّدا عالميا رئيسيا للحبوب ومازال الأوروبيون يعتمدون على إمداداتها من الطاقة. واتفق الاتحاد الأوروبي على حظر محدود على النفط الروسي، لكن الغاز سيمثّل خطوة أخرى. الحرب الروسية تغير موازين القوى العالمية الحرب الروسية تغير موازين القوى العالمية ويشعر العالم بأسره بتداعيات الحرب التي تؤثر على النمو الاقتصادي وسلاسل التوريد وقطاعي الغذاء والطاقة. وأثارت المخاوف من أزمة غذائية، خصوصا في دول شمال أفريقيا التي تعتمد على الواردات الروسية. وأشار غروزد إلى أن كل ذلك قد يؤدي إلى تداعيات قد تتمثل بـ”انتفاضات أو تظاهرات. لذا، حتى وإن كان ما يجري بعيدا للغاية، هذا عالم مترابط، ويشعر به سكان جنوب الكرة الأرضية بالتأكيد”. وبين وباء كوفيد - 19 والحرب في أوكرانيا والأزمة الغذائية التي تلوح بوادرها، تواجه أوروبا مخاطر توتر وتقلبات سياسية وتراجع في النشاط الصناعي وموجات هجرة، ما يطرح تحديات على قادتها. وتعاني الشعوب الأوروبية من وضع ضاغط في ظل تضخم شديد وارتفاع أسعار الوقود إلى أعلى مستوياتها وزيادة أسعار المواد الغذائية. وعلى صعيد الغذاء على سبيل المثال، حذرت شركة تأمين القروض أليانز ترايد بأن “الأسوأ آت” مع ترقب زيادة الموازنة الغذائية في الاتحاد الأوروبي بمتوسط 243 يورو للشخص في السنة. وأوضح مدير قسم المخاطر للدول الأوروبية لورنس آلان أنه “على المدى المتوسط، تزيد أزمة كلفة المعيشة الضغط على الحكومات من أجل أن تحد من وطأتها”. ومع تدهور الأوضاع قد تتجه الشعوب الأوروبية إلى خيارات سياسية راديكالية، خصوصا إذا ما قررت الحكومات اعتماد سياسات تقشف لتقويم الأوضاع المالية المتضررة جراء كوفيد - 19 والحرب. وذكّر آلان بأن التقشف المطبق بعد أزمة 2008 “شكل العامل المحفّز خلف صعود أحزاب تُعرف بأنّها معارضة لمؤسسات السلطة مثل سيريزا (اليونان)، وحركة خمس نجوم وليغا (إيطاليا) وبوديموس (إسبانيا) التي طرحت مأزقا على الأحزاب التقليدية”. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حريص على عدم تقويض العلاقات مع موسكو رغم استخدام أوكرانيا لمسيّرات تركيا وأوضحت مديرة التوقعات في وحدة الأبحاث والتحاليل التابعة لمجموعة ذي إيكونوميست أغات دوماريه أن الأمر نفسه ينطبق على فرنسا “حيث القوى السياسية الكبرى الثلاث أصبحت الآن الوسط واليسار الراديكالي واليمين المتطرف”، مع زيادة شعبية أقصى اليمين واليسار على وقع مسألة القدرة الشرائية. وقالت إلفير فابري الباحثة حول موضوع الاتحاد الأوروبي في العولمة في معهد جاك دولور إن “الاقتصاد الأوروبي معرض أكثر من الاقتصاد الأميركي لوطأة العقوبات”. وأشار الدبلوماسي جان دو غلينياستي إلى أن “العقوبات الغربية على روسيا تلقي بثقلها بشكل أساسي على الاتحاد الأوروبي، وتصب لصالح الصين ولا تكلف الولايات المتحدة شيئا”. وأوضحت دوماريه “خذوا مثال صناعة السيارات الألمانية. الوضع معقد للغاية بالنسبة إليهم، واجهوا أزمة أشباه الموصلات (الناجمة عن كوفيد – 19) ثم ارتفاع التكاليف ولاسيما تكاليف المعادن الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، ويضاف إلى ذلك انكشافهم القوي على السوق الروسية”. وفي قطاع صناعة الطائرات، تشتري إيرباص نصف حاجاتها من التيتانيوم من شركة VSMPO - Avisma الروسية (التي تواصل إمدادها)، غير أنها تبحث عن مصادر إمداد أخرى. أما بوينغ، فلا تشتري سوى ثلث حاجاتها من التيتانيوم من روسيا وأعلنت في السابع من مارس أنها أوقفت إمداداتها من الشركة الروسية. وقالت فابري إنه على المدى القريب “ثمة مخاوف من أن يتمسك الرئيس الصيني شي جينبينغ باستراتيجية صفر كوفيد” التي تثير بلبلة في سلاسل إمداد التجارة العالمية. أما على المدى البعيد، فلفتت إلى أن الحرب “تؤثر على الانفصال البنيوي بين الولايات المتحدة والصين”. وفي عالم ينقسم، قالت دوماريه إن “أوروبا قزم بين الصين من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى”. وسيتحتم عليها تعبئة وسائل هائلة لتدبر أمرها ومحاولة الحفاظ على شكل من الاستقلالية. غير أن هذه الوسائل قد تكون محدودة إذ أن هامش المناورة المالية أمام القطاع يتقلص بفعل الضغوط التي تمارس عليه لحمله على زيادة الأجور لموازنة مفاعيل التضخم. القوات الروسية ترسّخ وجودها عميقا في الأراضي الأوكرانية القوات الروسية ترسّخ وجودها عميقا في الأراضي الأوكرانية وقال المحلل الجيوسياسي الفرنسي جان مارك بالنسي “سنشعر خلال الأشهر المقبلة بوطأة الأزمة الأوكرانية في أفريقيا” على المستوى الغذائي. ورأت فابري أن الأزمة الغذائية “مصدر قلق كبير للأوروبيين مع ما يمكن أن تولده من مخاطر نزوح سكاني”. وما يزيد من حدة هذه المخاوف أن أوروبا تواجه حاليا تدفق اللاجئين الأوكرانيين الفارين من الحرب. وفي حال وصول حشود من المهاجرين “يمكن ترقب خلافات” بين الدول الأوروبية كما في 2015 مع أزمة اللاجئين السوريين، بحسب دوماريه. ولفت آلان إلى أن “بعض الحركات ستوظف المسألة سياسيا” ما ستكون له عواقب غير محسوبة “كما في إسبانيا حيث هناك ائتلاف هش جدا” في السلطة مع ترقب انتخابات عامة في 2023. وفي نهاية المطاف حذرت فابري من أنه “في ظل تضخم شديد، قد يهيمن التوتر على المشهد السياسي الأوروبي”. وقد ينقسم الأوروبيون حول مسألة الهجرة، غير أنهم يواجهون منذ الآن مسائل خلافية أخرى ولاسيما بشأن الموقف حيال روسيا. ورأى بالنسي أنه “بالرغم من الخطاب حول وحدة الصف الأوروبي، هناك شقاقات، نرى على صعيد الوقائع أن هناك مشكلة حول التبعية للغاز والنفط الروسيين” لدى بعض الدول. كما أشار إلى أن “هناك طعنا شديدا في محورية الزوج الفرنسي - الألماني” ولاسيما من قبل بعض دول أوروبا الشرقية، متوقعا أن “يستمر ذلك أبعد من الحرب، وقد يثير شقاقات دائمة في الاتحاد الأوروبي”.

مشاركة :