تطرقت في المقالات السابقة إلى الابتكارات النوعية وأهميتها ودورها في الريادة والنمو الاقتصادي والمنافسة بين الدول، وعرفت في مقال سابق ماذا نقصد بالابتكار، وأنه ما يجعل من الاختراعات وما هو جديد مفيد قابلا للتنفيذ وللاستخدام، إلا أن الأصل في ذلك كله هو الفكرة أو سلسلة من الأفكار مصدرها الإنسان، ولذا نرى على سبيل المثال أن وادي السيليكون أو "سيليكون فالي" Silicon Valley، اكتسب شهرة واسعة بسبب وجود أفضل العقول المطورة والمنتجة للتقنيات الإلكترونية ومعظم الابتكارات النوعية تأتي من هناك رغم تصنيعها وإنتاجها الذي يتم في الصين، ومعظم العوائد الاستثمارية والاقتصادية تذهب بلا شك لأصحاب الأفكار وملاك الشركات المبتكرة، وبدراسة بسيطة عن نسب العاملين في الولايات المتحدة في هذا المجال، أي الابتكارات النوعية والتقنيات المتقدمة نجد أن أكثر من 50 في المائة من العاملين هم من دول آسيا، ولذا سيكون حديثنا اليوم وبشكل مختصر جدا عن إحدى هذه الدول "الصين"، وكيف استطاعت تعديل اقتصادها القائم على التصنيع "صناعة التقليد" ليصبح معتمدا وبشكل كبير جدا على الابتكار ولعب دور الصانع والمحرك لعجلة الابتكارات، وكيف لها أن تحقق ميزات تنافسية للوصول إلى الصدارة في هذا المجال. بدأت الحكومة الصينية في أوائل الثمانينيات بالإصلاحات الاقتصادية فهي تسعى لتحقيق نمو اقتصادي مستدام وريادي، وعملت على زيادة ميزانيات الإنفاق على البحث والتطوير والابتكار ودعمت بذلك كلا من وزارتي العلوم والتكنولوجيا، ووزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات، حيث تعدان الأعلى من حيث الإنفاق بين الوزارات الصينية، ووضعت خطة للتنمية العلمية والتكنولوجية وحددتها بفترة زمنية معينة لتحقيقها، وحددت لها أهدافا رئيسة ومن هذه الأهداف، رفع نسبة تطوير العلوم والتكنولوجيا في الاقتصاد إلى 60 في المائة، ورفع الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.5 في المائة، وتقليل الاعتماد في التصنيع على التكنولوجيا الأجنبية والملكية الفكرية إلى أقل من 30 في المائة، وبدلا من ذلك تعمل على المنافسة بين الخمسة الأوائل على مستوى العالم في زيادة براءات الاختراع المحلية والاستشهادات الدولية للأوراق العلمية، كما حددت مجالات رئيسة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والدفاعية، ووضعت هدفا استراتيجيا لذلك وهو صدارة الاقتصاد العالمي بحلول عام 2050. واهتمت الحكومة بالعنصر البشري حيث إن عدد سكانها يفوق المليار والـ 400 مليون نسمة، وهيأت البيئة المناسبة لاستقطاب العقول المهاجرة، وتم رفع متوسط الدخل الشهري للفرد، حيث أصبح يصل حاليا إلى أكثر من 1200 دولار، وهيأت كذلك المدن الصناعية النموذجية، منها مدينة شنزن Shenzhen القريبة من هونج كونج التي سمحت بالاستثمار الأجنبي المباشر وتعد مركزا للتكنولوجيا والتجارة الدولية والتمويل، وأطلق عليها اسم وادي السيليكون الصيني، كونها أصبحت موطنا لأكبر الشركات العملاقة في الابتكارات والتكنولوجيا والبحث والتطوير مثل شركة تصنيع الهواتف هواوي Huawei التي تحتل المرتبة الخامسة عالميا، وشركة علي بابا Alibaba، التي تحتل أيضا المرتبة الـ 28 عالميا، والشركة القابضة تينسينت Tencent، وشركة الطائرات دون طيار DJI، وغيرها عديد من الشركات المصنعة للابتكارات والتقنيات عالية الدقة، وأصبح يطلق عليها مدينة ريادة الأعمال حيث يوجد بها نحو ثلاثة ملايين شركة مسجلة، ويتم فيها استقطاب الأفكار والأبحاث من العلماء الباحثين هناك ومجرد أن يتم عمل النموذج الأولي لهذه الأفكار تجد أن الشركات تتسابق على أخذ موافقة المبتكر والباحث للحصول على أحقية الإنتاج، وبالتالي يجد المبتكرون من العلماء والباحثين أنفسهم في تنافس وتسابق مستمرين وتحقيق ثروات طائلة، وبالتالي تم توطين العقول الابتكارية، ما أدى إلى نمو الاقتصاد بمعدل تصاعدي يعد حاليا الأعلى عالميا حيث يقارب الـ 10 في المائة. واهتمت الحكومة الصينية بالتعليم لما يلعبه من دور أساسي في تعديل المنظومة الاقتصادية، وأصبحت الجامعات الصينية تحتل مراتب أعلى على مستوى العالم ومنها جامعة تسينجهوا Tsinghua University، التي تحتل حسب تصنيف Quacquarelli Symonds: Q.S، الترتيب الـ 15 على مستوى العالم عام 2022، والأولى على مستوى جامعات آسيا، ويتوقع أن تنافس على الصدارة على مستوى العالم في مجال البحث العلمي خلال الخمسة أعوام المقبلة، حيث أصبحت معدلات المنشورات العلمية والهندسية لديهم تفوق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ووفقا لتصنيفات مؤشر الابتكار العالمي عام 2021 Global Innovation Index: GII الذي تصدره المنظمة العالمية للملكية الفكرية World Intellectual Property Organization: WIPO ويتضمن أحدث ترتيب عالمي للابتكار لـ 132 اقتصادا عالميا، احتلت الصين المرتبة الـ 12 بين الاقتصادات الأكثر ابتكارا على مستوى العالم، كما يشير أيضا إلى تصدرها المرتبة الأولى بين الاقتصادات الـ 34 ذات أعلى متوسط للدخل. حسب المؤشرات الحالية فإن في توقعاتي للمستقبل القريب أن تحتل مملكة الحزم والعزم مراكز متقدمة وتنافس عالميا في هذا المجال نظرا للدعم غير المحدود للابتكارات والتعليم وفتح أوسع الأبواب لكل من أراد المشاركة سواء من المواطنين أو القادمين من شتى أنحاء العالم من شركات وأفراد في صنع مستقبل مشرق لمركز الشرق الأوسط الجديد، حيث نجد اهتمام القيادة بالبحث والتطوير والابتكار ملاحظا ومواكبا لتحقيق رؤية مملكتنا 2030 ولتحقيق اقتصاد ريادي ومستدام، من خلال إنشاء الهيئات المختصة كتلك الخاصة بالتطوير الدفاعي وتنمية البحث والتطوير والابتكار، والدعم غير المحدود الذي تشهده الجامعات حيث أقر مجلس الوزراء أخيرا باستحداث بند باسم البحث العلمي ضمن ميزانية وزارة التعليم للعام المالي الحالي 2022، يخصص الصرف منه لبرنامج التمويل المؤسسي لدعم البحث العلمي والتطوير في الجامعات وسيزيد فرص التنافس البحثي والابتكار وبالتالي سيزيد عدد الأبحاث وتسجيل كثير من براءات الاختراع، لذا أرى الاستمرار في التركيز على أن يكون هناك توطين واستغلال لمنهجية دولة الصين في استقطاب الباحثين والمبدعين ودعمهم من خلال الهيئات المعنية والشركات المختصة وتمكين براءات الاختراعات القيمة من خلال البدء بتصنيعها ودعم منتجاتهم الأولية وتصنيعها بالتنسيق مع الهيئة العامة للصناعات العسكرية والهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية حتى لا تبقى هذه البراءات والأبحاث والأفكار مجرد أعداد في سجلات هيئات الملكيات الفكرية، بل نتطلع إلى أن تكون ابتكارات فاعلة ومتوافرة وقابلة للتطوير كي نحقق بها تطلعات هذا البلد المعطاء في تحقيق الأسبقية والصدارة في مجال الابتكارات وكذلك تحقيق نمو اقتصادي مستدام.
مشاركة :