هناك نقاش محتدم في روسيا حول وتيرة التقدم في أوكرانيا. يطالب بعض الخبراء بالانتصارات، ولا يفهمون أسباب النطاق المحدود للإجراءات الروسية. يشير هؤلاء الخبراء، عن حق، إلى أن التباطؤ في الهجوم الروسي يطمئن الأوكرانيين، الذين بدأوا، تحت تأثير الدعاية الأوكرانية والغربية، توهم أنهم ينتصرون في الحرب، على الرغم من استمرار الخسائر الفادحة، ووضعهم السلبي بشكل عام. نتيجة لذلك، يقاوم الجيش الأوكراني بعناد أكبر بدلا من الاستسلام. كما أن ذلك يعطي الغرب سببا للتقليل من الإمكانات العسكرية الروسية، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى زيادة الإمدادات العسكرية لأوكرانيا، حيث يبدأ الغرب في الاعتقاد بأنه من الواقعي تماما تحقيق نصر عسكري لغرب موحد على ما يزعم أنه روسيا الضعيفة. بالإضافة إلى ذلك، فإن إطالة أمد الحرب يزيد من مخاطر زعزعة الاستقرار الداخلي في البلاد بسبب المصاعب الاقتصادية والضغط النفسي من قبل الغرب. في الواقع، لا تزال هذه هي الجبهة الرئيسية للحرب بين روسيا والغرب. كما أن التركيز غير الكافي للموارد (الجيش الروسي في أوكرانيا أقل تعدادا بعدة مرات من الجيش الأوكراني)، على خلفية زيادة إمدادات الأسلحة الغربية لأوكرانيا يشكل تهديدا حقيقيا لتغيير ميزان القوى ضد روسيا. على الجانب الآخر، يشير خبراء (بما فيهم كاتب هذه السطور)، إلى أن الحرب المثالية هي حينما لا يلاحظ سكان البلاد أنها في حالة حرب، ولا يتابعون أحداث الجبهة كثيرا. الآن روسيا قريبة من هذا الوضع، حيث لا تحس البلاد بالحرب، باستثناء المناطق الحدودية، والمخازن مليئة بالمواد الغذائية والسلع، وقد استقر التضخم بعد الارتفاع الأول، وظل معدل البطالة عند مستوى منخفض أيضا. ربما سيصبح الوضع أسوأ قليلا، لكن يمكن، بشكل عام، لروسيا الاستمرار في العيش على هذا الوضع لفترة طويلة جدا. هناك خطر للتدهور التدريجي للصناعة بسبب الصعوبات في الوصول إلى التقنيات الجديدة، لكن هذه العملية ستبدأ في تشكيل تهديد خلال عقود لا سنوات، وحينها قد لا تكون الولايات المتحدة الأمريكية موجودة في شكلها الراهن. يتم تقليل تكاليف الحرب بالنسبة للمواطن الروسي العادي في المقام الأول، من خلال الحد من حجم العمليات العسكرية للجيش الروسي في أوكرانيا. أعيد للتذكير بأن الحرب في أوكرانيا هي حرب روسيا مع الغرب، وليس مع أوكرانيا. والجبهة الرئيسية فيها هي محاولات متبادلة لزعزعة الاستقرار الداخلي. وانتصار روسيا والسيطرة على معظم أوكرانيا يعني بالنسبة لروسيا إنفاقا ضخما على إعالة عشرات الملايين من الأوكرانيين الجياع، الأمر الذي يمكن أن يشكل في حد ذاته زعزعة لاستقرار الوضع الداخلي في روسيا. كذلك فإن هزيمة الجيش الأوكراني، في الوقت نفسه، لن تعني على الأرجح انتصارا لروسيا، بل تعني الانتقال إلى مستوى أعلى من تصعيد المواجهة مع الغرب. والولايات المتحدة الأمريكية تمتلك فعليا موارد غير محدودة في حالة حدوث هذا التصعيد. ففي حالة التحييد الكامل لأوكرانيا، ستشارك بولندا ورومانيا ودول البلطيق في الأعمال العدائية. بعد ذلك، لا يزال لدى الولايات المتحدة الكثير من أوراق اللعب المتبقية، من بقية أوروبا وحتى اليابان، التي بدأت في تشديد مواقفها في جزر الكوريل الجنوبية، المتنازع عليها مع روسيا. ويجب أن نفهم أن النتيجة الأكثر ترجيحا لنزاع عسكري مباشر محتمل بين روسيا ودول "الناتو" هي الحرب النووية. في الوقت نفسه، وبينما يعتقد الغرب أن أداء روسيا ضعيف في أوكرانيا، سينفق الغرب الموارد حفاظا على أوكرانيا، ونطاق التدخل العسكري للغرب في الصراع محدود. إن أسلوب بوتين هو الضربة المفاجئة، ثم محاولة تهدئة الخصم، حتى يتقبل عواقب الضربة. يتم تحقيق ذلك من خلال خفض النشاط إلى حدوده القصوى، وعرض بعض التنازلات. قد لا تعمل هذه الطريقة دائما. على سبيل المثال، بعد إعادة التوحيد السريع لشبه جزيرة القرم مع روسيا، قرر بوتين، على الرغم من حيرة معظم الروس لما يفعل، منح أوكرانيا السفن والدبابات وغيرها من المعدات العسكرية للجيش الأوكراني، الذي كان في شبه جزيرة القرم. لم ينجح هذا الأسلوب، حيث اختارت أوكرانيا التصعيد في دونباس، فتوقفت عودة الأسلحة من شبه جزيرة القرم إليها. كذلك لم ينجح الأسلوب منذ 8 سنوات من المحاولات لإعادة دونباس إلى أوكرانيا مقابل الاعتراف بشبه جزيرة القرم أرضا روسية، والوضع المحايد لأوكرانيا. إلا أن الأسلوب نجح، لو تذكرنا، حينما حاول الغرب، عام 2014 مقاطعة روسيا، بعد إعادة توحيد القرم، ناهيك عن العقوبات. فمن تذكر هذه المقاطعة بعد عامين من فرضها؟ تمت استعادة الحوار مع الغرب، رغم أنه أصبح أكثر عدائية. ومع ذلك، ففي هذه الحالة، كان هذا التكتيك ناجحا. وانطلاقا من حقيقة أن روسيا تواصل بذل قصارى جهدها في الحفاظ على العلاقات مع الشركات الغربية والمستثمرين الغربيين، بما في ذلك الاستمرار في سداد الديون للغرب، فإن قرار بوتين الاستراتيجي هو محاولة الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع الغرب، وإجباره على قبول الحقائق الجديدة، وخاصة حقيقة إدراج أوكرانيا في منطقة النفوذ الروسية. أما الهدف الاستراتيجي التالي، والذي تم تحديده في الإنذار النهائي للضمانات الأمنية، شهر ديسمبر الماضي، هو نزع سلاح أوروبا، وانسحابها من منطقة الهيمنة الأمريكية. لا يهدف بوتين إلى تدمير الغرب، فالحرب التي يخوضها هي الدفاع الذي لابد فيه من الصد وسيكون هذا انتصارا، لأنه سيعني الحفاظ على الوضع الجديد الراهن، والنظام العالمي الجديد. وهذا أسهل في تحقيقه من انتصار عسكري على غرب موحد. خصوصا أن أوروبا، بحزمها من العقوبات، تبذل قصارى جهدها لتعظيم آلامها من قطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، وتقترب تدريجيا من انهيار الاتحاد الأوروبي وفقدان السيطرة الأمريكية على أوروبا. لا أعرف، وربما لا أحد يعرف الآن ما إذا كان اختيار بوتين لأهدافه الاستراتيجية هو الاختيار الصحيح. وهل سيتمكن من إجبار الغرب على الانتقال من حرب التدمير إلى حرب الإملاءات ثم إلى طاولة المفاوضات. لكن التكتيكات الروسية في أوكرانيا مناسبة تماما للمهمة الاستراتيجية التي حددها بوتين. ونعم، في إطار هذا التكتيك، من المفيد لروسيا أن تطيل أمد الحرب. لأن الوضع في أوروبا يتدهور سريعا، ومن أجل النصر لا تحتاج روسيا سوى إلى الانتظار ومزيد من الوقت.. خاصة وأن البديل الوحيد لذلك التكتيك هو التدمير المتبادل بين روسيا والغرب من خلال حرب نووية. المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف رابط قناة "تليغرام" الخاصة بالكاتب المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب تابعوا RT على
مشاركة :