أخرجت بريطانيا كلّ ما فيها من رقيّ ولمسات حضاريّة للاحتفال بمرور 70 عاماً على صعود الملكة اليزابيث إلى العرش في العام 1952. تميّزت الاحتفالات، التي استمرت أربعة أيّام في نهاية الأسبوع الفائت، بلمسة سحريّة بما في ذلك حفلة موسيقية وغنائية، شارك فيها مشاهير كبار من طينة ديانا روس وانديا بوتشيللي ورود ستيوارت، قبالة قصر باكنغهام في لندن. لا يتقن مثل هذا النوع من اللمسات سوى البريطانيين. أظهر هؤلاء من دون عقد وبكلّ عفويّة مدى تعلقهم بالملكة ذات الـ 96 عاماً من العمر ومدى امتنانهم لما قدمتّه للبلد. عبّر المواطن العادي عن مدى الوفاء لملكة لا تمتلك أي صلاحيات فعلية في مجال ممارسة السلطة، لكنّها كانت شاهداً على مرحلة من أهمّ مراحل التاريخ الحديث للمملكة المتحدة. تحولت بريطانيا في عهد اليزابيث الثانيّة، شيئاً فشيئاً، من إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس إلى مجرّد دولة عاديّة في بحث دائم عن دور يعيد لها بعضاً من أمجادها. بقي من بريطانيا العظمى ملكة عظيمة لا أكثر أشرفت في سبعين عاماً على عملية الهبوط الآمن والهادئ لبريطانيا من دولة عظمى إلى دولة عاديّة. احتاجت بريطانيا إلى سلسلة من الخضات لتدرك أن العالم تغيّر فعلاً وأنّ عليها التأقلم مع هذا التغيير وأنّ الزمن طوى صفحة لا يمكن ان تتكرّر من التاريخ. احتاجت إلى كلّ تلك الخضات كي تستوعب أنّ عالم ما بعد الحرب العالميّة الثانيّة ليس مثل ما عالم ما قبل هذه الحرب التي انتهت في العام 1945. بعيد صعودها إلى العرش، وكانت لا تزال في العشرينات من عمرها، جالت اليزابيث الثانية في مناطق مختلفة من العالم. لم تدرك الحكومات البريطانيّة في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانيّة مغزى التحوّلات الكبيرة التي يمرّ فيها العالم. في العام 1954، في طريق عودتها بحراً من استراليا، زارت ملكة بريطانيا برفقة زوجها الأمير فيليب عدن. توقفت في احد اهمّ الموانئ العالمية وفي مدينة كانت تمتلك مواصفات المدن الراقية. لم تدرك وقتذاك، أنّها باشرت من عدن وداع الإمبراطوريّة البريطانيّة التي كانت خسرت جوهرة التاج في العام 1949 عندما استقلت الهند وقامت في الوقت ذاته دولة باكستان بتدخل مباشر من ونستون تشرشل. كان تشرشل يخشى أن تكون الهند ممراً للاتحاد السوفياتي إلى بحر العرب. من هذا المنطلق رسم بخط يده حدود باكستان... لكنّ الهزة الكبرى لبريطانيا كانت في العام 1956 في وقت كان انطوني ايدن رئيساً للوزراء. كان العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي- الإسرائيلي الذي استهدف مصر، بعد تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس، فرصة كي تكتشف المملكة المتحدة معنى الغضب والنفوذ الأميركيين. دفعت حكومة ايدن ثمن شنّ حرب من وراء ظهر الولايات المتحدة. كانت رسالة الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور واضحة. امر، عبر وزير خارجيته جون فوستر دالس، رئيس الوزراء البريطاني بوقف الحرب والإنسحاب من قناة السويس. لم تكن هناك حاجة أميركية إلى ابلاغ التعليمات الأميركيّة إلى فرنسا وإسرائيل... في ظلّ القرار الأميركي الحاسم. بعد العام 1956، وضعت بريطانيا نفسها في حماية الأميركي. واشنطن تأمر ولندن تنفّذ. دخلت بريطانيا الإتحاد الأوروبي وخرجت منه من منطلق انّ مرجعيتها الأولى والأخيرة هي الولايات المتحدة. ملأت الولايات المتحدة، نسبياً، الفراغ الذي خلفه الانسحاب البريطاني من شرق السويس والخليج العربي بين 1968 و 1971. جاءت مارغريت تاتشر التي غيّرت بريطانيا ابتداء من العام 1979 بعدما أعادت الحياة إلى الاقتصاد، لكن البريطانيين وجدوا في كلّ وقت أن المؤسسة الملكيّة تبقى ضمانتهم الأولى والأخيرة وذلك على الرغم من غياب الدستور البريطاني المكتوب واستناد هذا الدستور إلى مجموعة من الأعراف والمبادئ والخطوط العريضة المتعارف عليها. تجعل هذه الخطوط العريضة والمبادئ ما يقوم عليه الدستور من النظام في المملكة المتحدة، التي تضمّ إنكلترا واسكتلندا وويلز وايرلندا الشماليّة، مملكة دستوريّة. في مرحلة معيّنة واجهت تاتشر الملكة التي تسلّحت في كلّ وقت بأنّها لجميع البريطانيين وضمانة لهم وليست طرفاً حزبياً. لا تزال بريطانيا تمتلك نكهة خاصة بها. عرفت كيفية المحافظة على المؤسسة الملكية وعرفت المؤسسة الملكية التكيف مع التطورات التي مرت بها قوة استعمارية ما كانت لتصمد في وجه المانيا النازيّة لولا الشخصية الإستثنائيّة لونستون تشرشل ولولا التدخل العسكري الأميركي الحاسم في الحرب... ولولا المؤسسة الملكيّة التي لعبت دوراً خلال تلك الحرب في المحافظة على وحدة الشعب وتعزيز صموده. تظلّ بريطانيا دولة أوروبيّة متميّزة. تكمن أهمّية إليزابيث الثانيّة في انّها امتلكت القدرة على التكيّف مع الأحداث من خلال ثقافتها السياسيّة الواسعة، وهي ثقافة ليس مسموحاً لها بإظهارها في العلن. إنّها ملكة تعرف حدودها مثلما باتت تعرف حدود الدور البريطاني في هذا العالم الذي تغيّر بعد الحرب العالميّة الثانية والذي لا يزال يتغيّر في ضوء انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة وممارسات فلاديمير بوتين الباحث عن أمجاد روسية وسوفياتيّة غير موجودة سوى في كتب التاريخ ولدى بعض المرضى نفسياً في لبنان وغير لبنان...
مشاركة :