منذ أوج انطلاقته الفنية لم تغادر خواتين بغداد لوحات الفنان التشكيلي العراقي محمود فهمي ليس فقط لأهميتهن في وجدانه، بل لأنهن شكلن حضورا شمل معنى الأمومة والحب والعائلة والوطن والأيام الجميلة وجلسات الأصدقاء والأحباب والأمل، والعطور العراقية، وموسيقاها، وأغانيها. لذلك لم تنضب مخيلة الفنان بتجسيده لهن في هيئات تطورت عبر الزمن بداية بأشكالهن “التجريدية” بعض الشيء مرورا بالمكتنزات ووصولا إلى الرشيقات غير النحيلات وغير الشبيهات بالأوروبيات، ولكن الشرقيات حتى النخاع. وخلال شهر مايو الماضي، دعا المنتدى الثقافي العراقي إلى معرض افتراضي للفنان محمود فهمي تحت عنوان “خواتين بغداد” محددا توقيته بالخامس عشر من مايو عند الساعة العاشرة بتوقيت مدينة لوس أنجلس، كي يتسنى للمهتمين من جميع أنحاء العالم متعة التأمل بأعمال هذا الفنان التي شملت نخبة من اللوحات تناولت موضوع “خواتين بغداد” اللاتي اشتهر بهن والذي استمر على تصويرهن منذ سنين كثيرة على قماش لوحاته وقد طرأت عليهن متغيرات عديدة ارتبطت بمزاج الفنان واختلاف الظروف المحيطة به. وإن تُرك للمُشاهد فرصة اختيار عنوان آخر للمعرض فلن يتوانى عن تسميته بـ”مدن الفنان محمود فهمي المائية”، لأن اللوحات التي احتضنها افتراضيا المعرض لم تتحدث عن “خواتين بغداد” لأجل ذاتهن فحسب بقدر ما قدمتهن، من ناحية “لغة” بصرية واظب الفنان على “التحدث” بها، ومن ناحية أخرى قدمتهن مفتاحا ذهبيا مُرصعا بأحجار من اللازورد والألماس الوردي الذي تمكن من إدارته في الأبواب السرية المفضية إلى مدينة عريقة مُعطرة بتاريخها وبأبخرة دجلة والفرات لاسيما تحت شمس العصر وقد زفرت متنهدة، أشعتها اللطيفة. “خواتين بغداد” حضرن في المعرض مُشبعات بالأجواء الصيفية وبرطوبتها المُحببة وبأحوالها اللونية التي تشكلت بها البيوت ذات الشرفات المُطلة والسطوح المُشمسة والأزقة والشوارع التي ألبسها الفنان هدوء غرائبيا ومُقنعا في الآن ذاته. طرقات لا يمر فيها، وعلى سبيل المثال إلا سيارة واحدة، من طراز الخمسينات أو الستينات من القرن الفائت، لا نستطيع رؤية سائقها لأن كل نوافذ السيارة مغلقة، أو طرقات لا يمر فيها إلا راكب دراجة غارق في خياله وغير معنيّ أو غير مُلتفت إلى جميلة من جميلات بغداد الأسطورية التي امتد حضورها الجسدي – الأنثوي عل مدى هيكل مبنى كامل استراحت على سطحه تارة وبرّدت حرارة قدميها في مياه نهر فيروزي اللون تارة أخرى. أجمل ما في لوحات الفنان قدرتها على إيقاظ أفكار ومشاعر وحتى ذكريات عن أشياء عرفها المُشاهد على أرض العراق حتى الشوارع في لوحات الفنان التي تعيش “على ضفافها” أو تتربع على عرش أسطحها خواتين بغداد ظهرت مُحلاة بفاكهة الصيف كالبطيخ ومزدانة بنخيلها المُحمّل بالتمر وطيورها التي تحيلنا مباشرة إلى التفكير في أجمل أنواع طيور العراق لاسيما منطقة الأهوار التي وقعت منذ سنين عديدة تحت ضربات الإهمال والتلوث. لعل أجمل ما في لوحات الفنان هو قدرتها على إيقاظ أفكار ومشاعر وحتى ذكريات عن أشياء عرفها المُشاهد على أرض العراق أو تعرّف عليها من خلال قراءاته أو من خلال عيون من رأوها قبل أن يحلّ الخراب. لوحات الفنان محمود فهمي هي لوحات صممت كي يسترسل الناظر إليها في خياله محاولا استنطاق يوميات أولئك النسوة الباهرات، على أنها يوميات مُشبعة بمعلومات “أنطولوجية” تنطق بحقيقة المدينة وبطباعها الأصلية. ماذا تفعل “خاتون بغداد” خلال النهار؟ من أين وكيف تصعد إلى سطح المنزل؟ هل هي هناك دائما؟ هل الكلّ قادر على رؤيتها؟ ما هي نبرة صوتها عندما تستيقظ؟ كيف تفكر؟ ماذا يهمّها؟ من أين لها ذلك الحضور الطاغي على المدينة؟ هل هي المدينة؟ أم هي حارسة كنوز تلك المدينة المجروحة، ولكنها تتظاهر بأنها مشغولة بأكل الفاكهة أو النوم أو ملاحقة ديك فلت من شباكها؟ أين تخفي خاتون بغداد (لا بل خاتون كل الدول العربية) تلك الكنوز؟ هل في جيبة من جيبات فساتينها التي وسعت واتسعت حتى كادت تطال حدود آفق المدينة؟ إن كانت هذه الكنوز المذكورة آنفا، التي في صلبها نواة إعادة المدينة إلى أحوالها الجنائنية كما في القصص الخرافية، هي كنوز في حوزة خاتون بغداد وتحت حراستها، هل يعني ذلك أنها تعلم كيف ستستخدمها ومتى؟ ◙ خواتين مثيرات للتساؤلات ◙ خواتين مثيرات للتساؤلات إلى جانب كون أعمال الفنان محمود فهمي دعوة قوية إلى الاسترسال في التفكير في أحوال المدن عبر نسائها الماجدات، فإن لها ميزة إضافية وبالغة الأهمية. إنها أعمال فنية على الرغم من إظهارها المرأة بأبهى جمالها وأنوثتها وأجمل ملابسها وهي غالبا منشغلة إما بالنوم أو بأمور عادية جدا غير أنها لا تمتّ بأيّ صلة إلى ما قدمه فن الاستشراق من تشويه خدم مصالح الغرب الاستعمارية، والحديث يطول هنا. خاتون الفنان محمود فهمي وليدة الواقعية السحرية وهي رمز إلى تألق الحياة وابتسامتها وليست كما صورها الفن الاستشراقي بالجارية الكسولة تحت سلطة سيدها والمستلقية في الحرملك والغائبة عن الوعي في نوم تسبب به الملل وجلسات الحمامات ووصلات العبث. خاتون محمود فهمي تستريح على سطح المنازل لتحرسها، وتغط في لوحات أخرى بنوم عميق ليعمّ الحس بالأمان في كل أرجاء اللوحة وتباعا في كل أرجاء المدينة. وتلعب الفتيات الصغيرات بهاماتهن العملاقة في شوارع المدينة النهرية لنشر الفرح وتذكّر جمعات الأهل والتواصل المتين بينهم. خاتون الفنان محمود فهمي وليدة الواقعية السحرية وهي رمز لتألق الحياة وليست كما صوّرها الفن الاستشراقي كما أن لوحات الفنان تعج بعناصر لها دلالات رمزية كالنورس والبطيخ والنهر والبيوت التقليدية والدراجة الهوائية وطير اللقلق والديك والقطة والنخيل واختلاف أوقات النهار وليست عناصر بموجودة لذاتها بداعي “التزيين”. لا غرابة في ذلك لأن فن محمود فهمي مجبول بالأفكار والمشاعر المُضادة لكآبة الواقع وليس تغاضيا عن حقيقته. هو الانبهار والدهشة بالرغم من قتامة الواقع الذي عاشه الفنان قبل أن يهاجر من بلده. والمرأة في لوحاته لا تسكن المدينة ولا تسكن الدار إنما الدار يسكنها والوطن يحملها ويتحدى بها كل بشاعة الحاضر وكل شوق لم يهدئ إليه. يُذكر أن الفنان من مواليد بابل 1962 حاصل على ماجستير فنون جميلة من أوكرانيا. ومن أهم الجوائز التي حصل عليها الجائزة الأولى من جمعية الإمارات للفنون الجميلة في العام 2013 عن ثلاث لوحات له هي “خاتون دجلة”، “الجمعة صباحاً”، و”استراحة فوق السطح”، وحصدت لوحة “خاتون دجلة” الجائزة الأولى في معرض الإمارات للفنون التشكيلية عام 2013 كما عمل رساماً لقصص الأطفال في مراكز الطفولة في الشارقة. وله أيضا حوالي 50 كتابا منشورا للأطفال.
مشاركة :