ظل التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، منذ تأسيسه في مطلع تسعينات القرن الماضي، حزبا أيديولوجيا علمانيا، يتخذ من الأمازيغية قضية نضالية محورية، ولم يتوان عن التحالف مع السلطة لمّا تعلق الأمر بوقف مسار انتخابي استحوذ عليه الإسلاميون، فكان أن تراجعت شعبيته في قواعده الخلفية، ودخل في دوامة التصنيف الجهوي. لكن مع مجيء القيادي محسن بلعباس، الذي سعى على مدار عشر سنوات لفتح آفاق الحزب مع مختلف التيارات السياسية والأيديولوجية، وقطع روابطه مع السلطة، استطاع الحزب أن يتحول إلى قاطرة أمامية تقود قوى لا زالت عصية على آليات الترويض والتدجين، وأن يخرج من بوتقته الضيقة التي كانت تنحصر في منطقة القبائل فقط. ضرب بلعباس نموذجا حيا للممارسة الديمقراطية ولتقليد التناوب على القيادة، حيث انسحب بمحض إرادته من قيادة الحزب، وفسح المجال أمام منافسة داخلية في المؤتمر الأخير، أفضت إلى انتخاب عثمان معزوز، أمينا عاما جديدا. ويعتبر بلعباس، من الجيل الجديد للطبقة السياسية سواء داخل الحزب أو داخل المشهد الحزبي، فهو من الشباب القلائل الذين تقلدوا مسؤولية القيادة وعملوا على مراجعة عقيدته السياسية رغم مخاطر المواجهة وعدم تكافئها، حيث أخرج التجمع من علاقاته المشبوهة مع دوائر السلطة، وعمل على انفتاحه على مختلف التيارات السياسية والأيديولوجية، فكان جالسا إلى جانب الإخوان والسلفيين والديمقراطيين والعلمانيين، في تكتل تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي. أزمة لا خصومة بلعباس يحاول أن يكون نموذجا حيا للممارسة الديمقراطية ولتقليد التناوب على القيادة بلعباس يحاول أن يكون نموذجا حيا للممارسة الديمقراطية ولتقليد التناوب على القيادة يبدو أن الرجل رغم سنه الشاب، فهم كما فهم غيره من السياسيين، أن الأزمة السياسية في البلاد ليست خصومة سياسية ولا أيديولوجية كما كان يروّج لها في السابق، وإنما بين معارضة تبحث عن تكافؤ الفرص وشفافية الوصول إلى السلطة، وتكريس حق المعارضة والأقلية مهما كانت. ولذلك كان التعايش بينه وبين قيادات سياسية من مختلف التيارات بداية من العام 2012، ولم يمانع من الجلوس إلى جانب جاب الله أو كمال قمازي أو نورالدين مقري، من أجل بلورة خارطة طريق تفتح المجال للبلاد لدخول تعددية سياسية حقيقية وسباق سياسي شفاف، عكس سلفه سعيد سعدي، الذي كان معاديا في الشكل والمضمون للتيارات المحافظة والإسلامية. ◙ السلطة الحاكمة يطالبها بلعباس بتحديد أسباب تفاقم الهجرة غير الشرعية لاسيما مع تصاعد أرقام الأدمغة الجزائرية المهاجرة ويروي ضالعون في الشؤون الحزبية بالجزائر، أن الحزب تأسّس في مكاتب جهاز الاستخبارات مطلع تسعينات القرن الماضي، وكان الغرض منه هو منافسة أعرق أحزاب المعارضة في البلاد المزعج للسلطة آنذاك "جبهة القوى الاشتراكية"، وشق صفوف منطقة القبائل التي كانت تمثل القاعدة الخلفية له، خاصة في ظل وجود رموز ومناضلين من الحركة الثقافية البربرية غير مقتنعين بتصورات القوى الاشتراكية. كان ميلاد الحزب بنفس الخلفية الأيديولوجية والسياسية تقريبا، لكن الفارق بينهما أن القيادي المؤسس سعدي كان ضمن ما عرف بـ"لجنة إنقاذ الجمهورية"، من قبضة الإسلاميين، ودعم الجيش في خيار وقف المسار الانتخابي، فكان مرة يدخل منافسا للسلطة في الانتخابات كـ"أرنب سباق"، ومرة في الحكومة، ومرة يكون صاحب كتلة نيابية في البرلمان، ولم تنقطع روابطه بدوائر السلطة، مما أثر على شعبيته وصار حزبا جهويا في بعض المحافظات فقط، ولا يستطيع إيجاد حتى ممثل له إذا حاول الترشح في ربوع البلاد الأخرى. بدا المؤتمر الخامس منعطفا حاسما في مساره السياسي والأيديولوجي بعد تنحي سعدي، وانتخاب بلعباس أمينا عاما له، فرغم أنه ينحدر من قلب منطقة القبائل "تيزي وزو" ويعد من الجيل الجديد في الحزب، إلا أنه استطاع نشر مراجعاته السياسية والأيديولوجية، بشكل أخرج الحزب من الجهوية ومن أحضان السلطة، والانفتاح على مختلف القوى والتيارات مع الحفاظ على أسس عقيدته. إرساء تقاليد جديدة متاعب عديدة سيخوضها بلعباس فرديا مع القضاء والأمن ترجع إلى مواقفه السياسية المناهضة للسلطة متاعب عديدة سيخوضها بلعباس فرديا مع القضاء والأمن ترجع إلى مواقفه السياسية المناهضة للسلطة منذ انفجار تكتل تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي، انحاز بلعباس إلى القطاع الراديكالي في المعارضة، فكان واحد من الفاعلين في الحراك الشعبي منذ فبراير 2019، وأسس تكتلاً جديداً بمسمى "البديل الديمقراطي"، ضم مجموعة من الأحزاب والشخصيات المستقلة، التي تؤمن بمطالب التغيير الشامل والدخول في مرحلة انتقالية، ومقاطعة كل الاستحقاقات السياسية والانتخابية التي قدمتها السلطة، بما فيها تعديل الدستور والانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية التي انتظمت في العام نفسه. وبعد تنحيه الطوعي عن الاستمرار في قيادة الحزب في المؤتمر الأخير، من أجل تكريس الممارسة الديمقراطية ومبدأ التداول، لا يُعرف إن كان بلعباس سيعتزل النشاط السياسي كلية، أم يبقى في صفوف الحزب كواحد من قيادييه السابقين، لكن الثابت أن الرجل مقبل على متاعب سيخوضها فرديا مع القضاء والأمن تعود في الغالب إلى مواقفه السياسية المناهضة للسلطة. بلعباس موجود تحت الرقابة القضائية وتم استدعاؤه أكثر من مرة للأمن والقضاء للتحقيق معه في العديد من القضايا التي تحمل في باطنها أبعادا سياسية، ولتمهيد المسألة تم رفع الحصانة البرلمانية عنه، باعتباره كان نائبا عن حزبه خلال العهدة الماضية، وهو القرار الذي قابله بتجاهله تماما للدعوة التي وجهت إليه من طرف اللجنة المختصة، لأنه كان يعلم بأن الأغلبية الموالية للسلطة داخل البرلمان ستزيح عنه الحصانة. التعايش بين بلعباس وبين قيادات سياسية من مختلف التيارات دفعه إلى السعي لبلورة خارطة طريق تفتح المجال للبلاد لدخول تعددية سياسية حقيقية، عكس سلفه سعيد سعدي، الذي كان معاديا في الشكل والمضمون للتيارات المحافظة والإسلامية وكان في أكثر من مناسبة ضيفا على فرق التحقيق التابعة لأجهزة الأمن والقضاء، التي فتحت معه قضية وفاة مغربي قضى خلال ممارسة مهامه كحرفي، وكان بصدد تشييد مبنى شخصي له في إحدى ضواحي العاصمة، فضلا عن سماحه لقوى سياسية وجمعيات وشخصيات باستعمال مقر الحزب لممارسة أنشطة غير مرخصة، وهو ما تعتبره وزارة الداخلية خروجا عن المجال الحيوي للحزب السياسي بشكل عام. وظل الرجل وفيا لمبادئه وهو في آخر كلمة له يوجهها إلى مندوبي المؤتمر، حيث شدد على ضرورة "تنظيم حوار وطني حقيقي لتجاوز انعدام الثقة بين السلطة والشعب"، في رد له على المبادرة السياسية التي تستعد السلطة لتنفيذها تحت عنوان "لمّ الشمل"، وأظهر شكوكه في نوايا السلطة استغلال الطبقة السياسية لتمرير أجنداتها السياسية والاقتصادية، كما انتقدها بالقول إن "السلطة تفتقد لخطة إصلاح اقتصادي تساهم في تحرير المجال من قيود سياسة الريع، الذي تسبب في انهيار القدرة الشرائية والبطالة وارتفاع الأسعار وتراجع الدينار مقابل العملة الصعبة". وطالب الحكومة، بتحديد أسباب تفاقم الهجرة غير الشرعية والعمل على معالجتها في أسرع وقت، لاسيما وأن العدد الحقيقي للأدمغة الجزائرية التي هاجرت خاصة فئة الأطباء أكبر بكثير من الأرقام الرسمية المقدمة، وهو الواقع الذي لا زالت تنظر إليه الحكومة بعين أمنية خالصة دون الغوص في الأسباب الأخرى. ولم يفوّت فرصة ظهوره الأخير على منصة الخطاب، لإثارة تماطل الحكومة في إقرار تعويضات مالية لعديد الفئات التي تضررت من جائحة فايروس كورونا، رغم الأغلفة المالية التي رصدتها من أجل تعويض الكوادر الصحية والأطباء الذين كانوا في الصفوف الأمامية في مواجهة الجائحة. لا قبائل بلا الجزائر انتماؤه إلى منطقة القبائل لم يقف عائقا أمام مراجعاته السياسية والفكرية انتماؤه إلى منطقة القبائل لم يقف عائقا أمام مراجعاته السياسية والفكرية ولرفع اللبس الذي يثيره بعض الخصوم السياسيين بشأن موقف الحزب من مسألة التهديدات التي تحيط بالمنطقة بسبب نشاط حركة استقلال القبائل "ماك"، أكد التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية أنه يدين دعاوى الحركة الانفصالية، وشدد على حتمية الوحدة الوطنية والترابية للجزائر بالقول "لا قبائل دون الجزائر ولا جزائر دون القبائل". بلعباس، بقدر ما وضع الحزب الذي ناضل فيه على سكة جديدة، بقدر ما كلفه خصومات حتى مع رموز المنطقة، خاصة أولئك المعروفين بقربهم من السلطة في صورة عدد من رجال الأعمال، ورغم ذلك كان أول المنتقدين لقرار رجل الأعمال البربري يسعد ربراب، القاضي بوقف صدور صحيفة "ليبرتي" الناطقة بالفرنسية، وخاطبه بالقول "لقد قدمت منبرا إعلاميا جادا قربانا للسلطة من أجل استمرار مصالحك، ولم يشفع لها مرور 30 عاما على صدورها وقدرتها على الاستمرار، لتكون ورقة تسوية بينك وبين السلطة". ◙ حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، ومن خلفه بلعباس، يبدو مشروع قوة سياسية تمكنت من كسب مصداقية لافتة لدى الحلفاء وكان المؤتمر السادس لحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، قد انتخب قيادته الجديدة، وسط حضور لافت لرموز المعارضة السياسية من أحزاب وجمعيات وشخصيات مستقلة، ممّا أعطى الانطباع بأن المؤتمر ندوة سياسية للمعارضة التي أفل نشاطها وحضورها منذ انتخاب عبدالمجيد تبون، رئيسا للجمهورية في أواخر العام 2019. وتحوّل مؤتمر التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية إلى ندوة سياسية غير معلنة للمعارضة بعدما وجهت الدعوة للعديد من رموز المعارضة الحزبية والشخصيات المستقلة والجمعيات، على غرار عبدالعزيز رحابي، أحمد بن بيتور، ورئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الاجتماعي غير المرخص له كريم طابو، والقيادي السابق في جبهة القوى الاشتراكية علي العسكري، وعدد من المحامين والحقوقيين، كنورالدين بن يسعد ومصطفى بوشاشي، وزبيدة عسول. ويبدو أن الحزب ومن خلفه الرجل، الذي استطاع جمع كل تلك القوى والوجوه من المعارضة، هو مشروع قوة سياسية تمكنت من كسب مصداقية لافتة لدى الحلفاء بفضل العقيدة السياسية التي بثها فيها بلعباس، وأن الأخير رغم التنحي لا يفكر في التقاعد السياسي، وقد يراه الشارع الجزائري في مبادرات أو مشروعات سياسية أخرى. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :