نبيل بهجت: خيال الظل أغرم به حكام وأحرقه آخرون

  • 6/12/2022
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

لعب فن خيال الظل ولا يزال دورا مؤثرا على العديد من المستويات، حيث شكل وجوده المنبت الأول لظهور المسرح العربي، وقد انطلقت بدايات نشأته من القصور الحاكمة حيث أغرم به الكثير من المماليك والسلاطين، ولعب أدورا كانت لها تأثيراتها الكبيرة على الواقعين السياسي والاجتماعي، وهو ما يرصده بدقة الكاتب والباحث المصري نبيل بهجت في كتابه الجديد “مسرح خيال الظل المصري من جعفر الراقص حتى الآن”. يقدم كتاب “مسرح خيال الظل المصري من جعفر الراقص حتى الآن” للكاتب والباحث نبيل بهجت، أحد أبرز المتخصصين في مسرح خيال الظل، تتبعا لتاريخ هذا الفن وفلسفته وتطوراته منذ ظهوره وحتى الآن، حيث يشكل صورة لتطوره في الخمسين سنة الأخيرة، والذي ساهمت فيه أجيال متعاقبة وتجارب مختلفة أحدثت تطورا في خيال الظل شكلا ومضمونا من حيث التصميم والتحريك والصناعة وبنية الشاشة ونوعية الإضاءة واستفادت بشكل كبير من إمكانيات العصر. واحتفظ الكتاب في نهايته بآخر رواية شفاهية وشعبية لعدد من البابات التي حرص المؤلف على إثبات نصوصها، وتوثيقها في عمله البحثي. مهد المسرح يقول بهجت في كتابه، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، إن فن خيال الظل ارتبط منذ اللحظة الأولى بالفضاء العام عرضا وإنتاجا لذا كان السؤال عن مشروعيته متكررا، ففي الوقت الذي أباحه القاضي الفاضل في الخبر المنقول عن صلاح الدين، وحمله معه السلطان شعبان للحج (778 هـ) يأمر آخر بحرقه ويجبر أربابه على التوقيع على تعهد بعدم تقديمه، وهو ما يبرز أمرين الأول سلطة الفقيه على الفنون بالمنع والإتاحة وكذلك تذبذبت الآراء حوله. ويبين أن الانتقاء المراوغ كان وسيلة الفنان لتجاوز تلك السلطات، وهو ما نراه في تعليق القاضي الفاضل “رأيت موعظة عظيمة رأيت دولا تقضي ودولا تأتي…” في الوقت الذي كانت الخلاعة والمجون أحد أبوابه ومقاصده، فلم تكن بابة “المتيم” و”الصنائع اليتم” بعيدة العهد عن تلك الفترة، تلك المراوغة الانتقائية دفعت المخايل لتقديم عرض يجسد إعدام طومان باي ليغازل الفنان زهو السلطان الجديد سليم الأول بانتصاراته ويضمن استمراره ومشروعيته مع النظام الجديد آنذاك، ويعجب به السلطان وينقله إلى مقر الخلافة في إسطنبول ليأخذ بذلك جواز مرور إلى أرض الخلافة. نبيل بهجت: مسرح خيال الظل نموذج متكامل للمسرحية من حيث الشكل والمضمون، وإن كان التمثيل فيه من خلال وسيط كان الوعي بالحاجة إلى المشروعية -من خلال السلطة الدينية السياسية – هو الذي جعل من التوبة والعودة إلى لله – في نهاية البابات – منقذا للإنسان من منتقديه، وبابا لمشروعية ما يقدم، إذ يموت المتيم تنبيها للقوم من الغفلة والنوم وعبرة وعظة – على حد قول ابن دانيال – بعد أن يقدم منولوجا عن التوبة والاستغفار، فالأخطاء لم تكن من تلك التي يمكن أن يتجاوز عنها المجتمع بسلطاته؛ لذا جاء الموت كمسوّغ لعرض قصة حياة صاحبه التي أصبحت مقدمة لنتيجة حتمية يجب التحذير منها، وتطل علينا هذه الحيلة/التوبة لنراها أيضا في نهاية عمل “عجيب وغريب”. ويشير بهجت إلى أن خيال الظل شغل العديد من الباحثين والدارسين وحفلت المكتبة العربية بعدد من الدراسات التي حاولت التأصيل لهذا الفن بوصفه النواة الأولى للمسرح العربي، ومنها ما كتبه أحمد تيمور وفؤاد حسين علي وعبدالحميد يونس وإبراهيم حمادة وأحمد أبوزيد وفاروق سعد وغيرهم. وقد أكد الكثير من النقاد أن مسرح خيال الظل نموذج متكامل للمسرحية من حيث الشكل والمضمون، وإن كان التمثيل فيه من خلال وسيط، ولم ينقطع النص المسرحي لخيال الظل عن الأدب العربي، بل جاء متأثرا بالفنون المختلفة، وهو ما يدفعنا إلى اكتشاف الظواهر المسرحية العربية بعيدا عن الآراء التي ترى أن المنتج الغربي للمسرح هو النموذج الذي يجب أن يُحتذى ويُقاس عليه. فالمسرح العربي تأسس على أشكال متعددة من الفرجة مثلت نموذجا للمسرح منذ وقت مبكر وتداخلت تلك الأشكال في الحياة اليومية للجماهير وأصبحت جزءا من مكوناتها وشفرتها الثقافية. ويوضح أن “البابة” هي “لعب خيال الظل”، ويعرفها البعض على أنها “النص الذي يحرك المُخايلُ شخوصه على أساسه”، ويستخدم البعض كلمة “لعبة” وكلمة “فصل” للإشارة إلى عرض خيال الظل، إلا أنه من المتعارف عليه في الدراسات استخدام مصطلح “بابة” للإشارة إلى النص المسرحي لخيال الظل وهو ما تعتمد عليه الدراسة. ويؤكد بهجت أن كتابه يحاول الوقوف على مسرح خيال الظل منذ بدايته الأولى وتناول عدد من القضايا التي ترسم خطا بيانيا لهذا الفن منذ المصادر الأولى التي أشارت إليه حتى الآن بتتبع فنانيه ومواد تصنيعه وأشكاله وأماكن عرضه وشكل مسرحه ونصوصه والمقارنة بين آخر نصوص وصلت إلينا وأقدم ما عرفنا منها، وإشكاليات المصطلح ومن أين جاء وفلسفته وإشكالياته مع السلطة وتطور تقنياته. كما يتتبع بهجت فناني خيال الظل وعروضهم، واقفا على التطورات التي لحقت بمسرح خيال الظل والدمى الخاصة به أيضا، وقدم أيضا بابات حسن خنوفة وسعى للوقوف على بنيتها والتطورات التي لحقت بها على مستوى الشكل والمضمون مقارنة ببنية بابات ابن دانيال، حيث انتقل خيال الظل من الشرق الأقصى واستقر في القاهرة ومنه انتقل إلى ربوع العالم. وعن مصطلح الخيال أوضح بهجت أنه كان يصف نوعا من الأداء التمثيلي المغاير تماما لخيال الظل المعروف، وتطور عن مصطلح الحكاية الذي كان يستخدم لغرض قريب من ذلك، واستقر مصطلح خيال الظل بدلالته المعروفة لدينا الآن بداية من القرن الحادي عشر الميلادي. مراحل التطور ◙ فن له ميزاته التقنية والموضوعية ◙ فن له ميزاته التقنية والموضوعية يتتبع الكتاب أسماء بعض فناني خيال الظل ويحصر بعضهم في تسلسل تاريخي، فجاء جعفر الراقص في القرن الخامس الهجري، وابن دانيال في القرن السابع الهجري، والذهبي وابنه محمد في القرن الثامن الهجري، وابن سودون في القرن التاسع الهجري، وداود العطار المناوي وعلي نخلة والشيخ سعود في القرن الحادي عشر الهجري، وحسن القشاش ودرويش القشاش في بداية القرن الرابع عشر الهجري، ومحمد أبو الروس ومحمود علي صالح ومصطفي الروبي في أواخر القرن الرابع عشر الهجري، وأحمد الكومي والفسخاني في بداية القرن الخامس عشر الهجري، وأخذ عنهما حسن خنوفة باباته “الصياد” و”العساكر” و”علم وتعادير”، وتوُفي خنوفة عام 2004 ميلاديا. ومن جانب آخر تناول شكل الدمى ومسرح خيال الظل فقد أخذ عددا من الأشكال، منها ما هو ثابت ومنها ما هو متنقل، ولقد نقل أحمد تيمور ويعقوب لندواه وعبدالحميد يونس وصفا لأشكال مسارح الظل، وكان مسرح حسن خنوفة متنقلا يحمله معه، وهو عبارة عن شاشة يُلقى عليها الضوء من الخلف. يقول بهجت “تُصنع دُمى خيال الظل من الجلد الشفاف ويقوم اللاعب بتلوينها، وتعتمد على تكرار الوحدات الزخرفية لتكتسب دلالاتها من خلال مفهوم إدراكي كلي لشكل الدُمْية، ووصلت الدمى إلى حالة يُرثى لها مع حسن خنوفة حيث اعتمد على ‘كارتون مُصمّت’ دون أيّ زخارف أو نقوش، ولم يهتم بالتفاصيل الزخرفية والجمالية للدمى”. ويتابع راصدا لنصوص خيال الظل حيث عرف خيال الظل العربي عددا من البابات، لم تخرج عن: “المنارة القديمة”، و”طيف الخيال”، و”عجيب وغريب”، و”المتيم”، و”الضائع اليتم”، و”الشيخ صالح وجاريته السر المكنون”، و”حرب العجم”، و”المنارة الحديثة”، و”علم وتعادير”، و”التمساح والشوني”، و”الشيخ سميسم”، و”أبوجعفر والقهوة”، و”إعدام طومان باي”، و”مسطرة خيال منادمة أم مجير”، و”الفيل المرتجل”، و”الحمام”، و”التياترو والمهندس”، و”العامل المجنون”، و”الأولاني”، و”الغراف”، و”العجائب”، و”الحجية”، و”المعركة البحرية بين النوبيين والفرس”، و”حرب السودان”، و”واقعة البلح والبطيخ”، و”حسن ظني والمركب”. خيال الظل تأثر بالعديد من الفنون التي شكلته، إذ تأثرت تصميماته بالفنون المجاورة من المنمنمات والعمارة وغيرهما ويحلل بهجت آخر نصوص شفاهية وصلت إلينا وهي بابات حسن خنوفة وهي ثلاث بابات “الصياد” وهي صيغة معدلة من “التمساح”، و”علم وتعادير”، وبابة جديدة لم يجد لها أيّ إشارة في المراجع المختلفة هي “العساكر”، وقد جمع البابات الثلاث في آخر الكتاب مقارنا إياها بنصوص ابن دنيال، حيث كان الاستهلال لإعطاء مشروعية الكتابة من خلال الإجابة عن سؤال السائل والبداية الغنائية التي تتجه مباشرة إلى الجمهور والنهاية المرتبطة بالتوبة والندم والاستغفار المؤسس على فعل الموت في “طيف الخيال” و”المتيم” و”الضائع” اليتيم، وذكر الحج كغاية ومقصد في “طيف الخيال” و”عجيب وغريب” من أهم الملامح الأساسية لنص ابن دانيال. يلفت الباحث إلى أن القارئ لنصوص ابن دانيال يلمح منذ الوهلة الأولى تداخلا للنصوص إذا انتقل من الخطابة إلى الشعر بأغراضه المتنوعة إلى أسلوب المقامة في بعض المواضع، وقد رصد العديد من الدارسين هذه الظواهر التي تؤكد أن فنونا سبقت خيال الظل وساهمت في تأسيسه، بل وظلت آثارها باقية في نصوصه شاهدة على هذا التأثير، بل إن علي الراعي يرى أن المقامة دخلت المسرح عن طريق خيال الظل. وعلى هذا فإن التداخل بين الحكاية/الخيال/المقامة شكل نصوص ابن دانيال. وقد تناول خيال الظل موضوعات تتعلق بالنقد السياسي والاجتماعي والعلاقة مع الآخر، كما قدمت بعض العروض الجنسية بهدف التسلية والترفيه. كما حملت بابة “الصياد” تطورا في الشكل والمضمون حيث مزج فيها خنوفة جميع البابات التي تتخذ من الصيد موضوعا لها “الأولاني” و”العجائب” و”التمساح”، وكشف مضمونها عن الفساد المجتمعي وصراع الإنسان ضد السلطة والطبيعة معا وانعدام الحس الإنساني، فكل من يأتي لمساعدته في محنته يطلب مقابلا ماليا مما يُوحي بفساد يعم جميع الأصعدة، بداية من السلطة التشريعية ثم التنفيذية وصولا إلى أفراد المجتمع أنفسهم. وتُعد بابة “العساكر” من البابات الحديثة التي كُتبت بعد الحرب العالمية الأولى وتأثرت في موضوعها بمفاهيم الجندية، وتتشابه إلى حد كبير مع نمْرة “الأراجوز في الجيش” التي يؤديها الفنان صلاح المصري. وجاءت رواية حسن خنوفة لبابة “علم وتعادير” لتخرج عن الأحداث الأصيلة، فلم تحمل إلا بعض الإشارات لقصة الحب مع احتفاظها بالأسماء، إلا أنها كانت في مجملها مجموعة من النّمر اللفظية والحركية. بابات حسن خنوفة ◙ خيال الظل تناول موضوعات تتعلق بالنقد السياسي والاجتماعي والعلاقة مع الآخر، كما قدم عروضا جنسية للتسلية والترفيه أما بالنسبة إلى “بابات حسن خنوفة” فيرى بهجت أنها تتكون من استهلال عبارة عن موسيقى تصاحبها رقصة بالعصا للمقدم، ثم الدعاء والاستغفار والصلاة على النبي، والترحيب بالحضور، وهو بذلك لم يخرج في مجمله عن الاستهلال الدانيالي. وللمقدم مشهد ثابت في جميع البابات، يقدم فيه “نمرة” حركية يعتمد فيها على مشاكسة الشخصية الأخرى، ويُعد هذا المشهد بنية أساسية في بابات حسن خنوفة، وتمهيدا للحدث الرئيسي داخل البابة. وتعتمد بنية البابات عند خنوفة على “النّمر” اللفظية والحركية بشكل يجعل نص البابة عند خنوفة مجموعة من النّمر الحركية واللفظية التي يكثر الاعتماد فيها على عناصر الفكاهة الشعبية من قفشة ونكتة وتلاعب بالألفاظ وغيرها. ويضيف “طرح حسن خنوفة في شخصياته ما هو آدمي وما هو حيواني وما هو جماد، ولم يسع لإبرازها ولم يجعلها ذات أبعاد حقيقية، بل جعلها مجرد وسائل لخلق الفكاهة. واختلفت نهايات بابات حسن خنوفة عن البابات الدانيالية التي تنتهي بالتوبة والعودة إلى الله، أما بابات خنوفة فكانت الاعتدائية سمة أساسية لها بشكل كشف عن تأثره في صياغة هذه النهاية بالأسلوب الذي يُنهي به الأراجوز نمره”. واتفقت بنية بابات حسن خنوفة مع البابات الدانيالية في الاستهلال ومخاطبة الجمهور، واختلفت في اعتمادها على الحوار بشكل كامل وقلة الاستشهاد بالشعر، ومثّل الصوت الفردي البداية الاستهلالية والخاتمة فقط، بعكس البابة الدانيالية التي مثل الصوت الفردي فيها نص البابة، كما غلب عليه الطابع النثري، مما يوحي بتأثر خنوفة بأشكال الدراما الحديثة في اعتماده على الحوار بشكل أساسي، بينما افتقر عرضه إلى الجانب الجمالي من الناحية التشكيلية. ويؤكد بهجت أن فلسفة فن خيال الظل واستراتيجياته تشكلت من خلال المراوغة/المناورة والتستر والمرونة والالتصاق بالواقع والسرية والتسيير والتكرار والإحكام والسهولة والمتعة، ومن جانب آخر تأثر خيال الظل بالعديد من الفنون التي شكلته، إذ تأثرت تصميمات خيال الظل بالفنون المجاورة من المنمنمات والعمارة، وغيرهما، وحملت فلسفتها في تحديد العلاقة بين النور والظل الذي هو أساس فن خيال الظل، وبمقارنة بعض منمنمات العصر الفاطمي ودمى خيال الظل نكشف وجه التطابق في التصميم بشكل يجعلنا نجزم بإمكانية تصميم المنمنمات كدمى في الكثير من الأحيان، ويمكن أن نقارن بينها من خلال الصورة حيث نلاحظ التشابه في تصميم الوجه والعيون وآلية تشكيل مساحات النور والظل، واستخدام الخطوط الداكنة التي تشكل مساحات الزخارف والعناصر الهندسية ومخالفة الطبيعة والميل والتبسيط، وكذلك فالمتأمل للدمى وتحديدًا لمجموعة “كاله” يلمح استخدام الرنوك كأحد العناصر التشكيلة للدمى. يذكر أن الأكاديمي نبيل بهجت قدم لمسرح الظل ما يزيد عن ثلاثين عملا عرضت في عدد كبير من الدول، كما أقام عددا من معارض دمى خيال الظل في باريس ونيويورك وإسطنبول والكويت وغيرها ويسعى منذ وقت لإعادة إحياء هذا الفن ضمن مبادرته في إحياء فن الأراجوز وخيال الظل للحياة الثقافية والفنية.

مشاركة :