لماذا يميل مزيد من الدول إلى صيغة الحكم الذاتي المغربي كحل لقضية الصحراء الغربية؟ لأن الحرب جربت وحسمت لكن النزاع استمر، ولأن الوساطات العربية وغير العربية استهلكت وأوقفت لعدم استجابة الجزائر، كذلك مبادرات المغرب ومحاولاته مع الجزائر لبناء تسوية ثنائية، ولأن مهمة الأمم المتحدة طوال العقود الثلاثة الماضية لم تتوصل إلى تنظيم استفتاء على تقرير المصير، ولأن التفاوض بين المغرب و«جبهة بوليساريو» لم يحرز أي تقدم، والأهم لأن الحال في مخيمات تندوف في الجزء الجزائري من الصحراء لا تزال بدائية مقارنة مع التجربة التي أنشأها المغرب ويواصل تطويرها في الجزء الأكبر من الصحراء تحت سيادته وتعتبر ناجحة وواعدة اقتصادياً وتنموياً، وأخيراً لأن معايير هذه التجربة تجعلها صالحة لأن تكون نموذجاً جاهزاً لحل سلمي دائم في مقابل خيار «الصراع المفتوح» الذي تتبناه الجزائر، لاستنزاف المغرب. هي قضية بين دولتين عربيتين توسط فيها جيمس بيكر كمبعوث أممي ثم استقال قائلاً، إنه «لا حل لها». فالمغرب اعتبر دائماً أن الصحراء الغربية جزء لا يتجزأ من أرضه واستثمر في تنميتها وجعل أقاليمها وساحلها ومدنها مكاناً حيوياً يستطيع السكان الصحراويون العيش فيه. أما الجزائر فلم تتصرف رسمياً على أن لها «حقاً» تاريخياً في هذه المنطقة، لكنها دعمت «جبهة بوليساريو» في القتال ضد المغرب ورفض سيادته على الصحراء، كما لا تزال تعتبرها منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي محوراً لسياستها الخارجية، وتستمر في التعامل معها على أنها من قضايا تصفية الاستعمار وتطالب الأمم المتحدة بالإشراف على إقامة «حكم ذاتي» فيها. أما إسبانيا، دولة الاستعمار السابق، فتخلت منذ خمسة عقود عن دورها الإداري في تلك المنطقة، لكن الأمم المتحدة والدول الثلاث، المغرب والجزائر وموريتانيا (تخلت لاحقاً عن أي مطالبة)، ظلت تعتبر إسبانيا مرجعية تحديد هوية الأرض والشعب. واستناداً إلى ذلك، جاء إعلان مدريد، للمرة الأولى منذ بدء النزاع، دعمها الحكم الذاتي المغربي للصحراء 18 مارس الماضي، بمثابة صدمة أخرى للجزائر، بعد صدمة اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء (19 ديسمبر 2020). على الرغم من امتعاضها الشديد من القرار الأمريكي، الذي اقترن بإعادة العلاقات المغربية- الإسرائيلية، فإن الجزائر لم تتوسع في انتقاده ولم تلوح بالرد عليه، ثم أنها محصت التفاصيل ووجدت أن واشنطن لم تغلق الباب أمام حل دبلوماسي على أساس التفاوض لتطبيق قرارات الأمم المتحدة. غير أن العبارة الأمريكية التي تصف الحكم الذاتي المغربي بأنه «الاقتراح الجاد والواقعي والأساس الوحيد لحل عادل ودائم لتحقيق السلام»، غدت لاحقاً صيغة معتمدة وإن مع بعض التعديل، سواء في مناقشات مجلس الأمن التي تعتبر مبادرة الحكم الذاتي الاقتراح الوحيد العملي بعد إخفاق محاولات تنظيم استفتاء على تقرير المصير للصحراويين، أو في مواقف دول عربية وغربية، باعتبارها «الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية» لحل القضية. ومع أن الموقف الإسباني ظل في الإطار ذاته (اعتراف مبدئي بالحكم الذاتي مع إبقاء الحل النهائي في كنف الأمم المتحدة)، إلا أن الجزائر اعتبرته «خيانة» و«خداعاً» لها وقررت عملياً «معاقبة» مدريد بإيقاف التعامل التجاري معها، فيما أوحى قرارها تعليق «معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون» بأنها تستعد لمزيد من الضغوط، وقد توقف فجأة إمدادات الغاز عن إسبانيا على الرغم من تأكيد سابق من الجزائر بأنها لن تفسخ العقود المبرمة وستفي بالتزاماتها. الواقع أن الجزائر عولت دائماً على موقف إسباني (وأوروبي) محايد وغامض باعتباره داعماً لموقفها حيال الصحراء، لكنها باتت تشعر منذ الاعتراف الأمريكي وتفعيل التطبيع المغربي - الإسرائيلي بأن الملف يهتز بين يدي دبلوماسيتها، لذلك اعتزمت الذهاب إلى أقصى التشدد، بدءاً بقطع كامل للعلاقات للمغرب 24 أغسطس 2021، ثم وقف العمل بأنبوب الغاز المار بالمغرب نوفمبر 2021، وأخيراً بتكثيف المناورات العسكرية بالقرب من الحدود المغربية استباقاً لمناورات متعددة الأطراف تقودها الولايات المتحدة في منطقة تشمل جزءاً من الصحراء. تحاول مدريد حث الاتحاد الأوروبي على التدخل في الأزمة، باعتبار أن وقف التجارة يمثل انتهاكاً لاتفاق الشراكة الأوروبية - الجزائرية. وما يقلق إسبانيا أن رد الجزائر على التحذير الأوروبي الأولي زاد الإيحاء بأنها مصممة على التحدي وتشعر بأنها في موقع قوة، انسجاماً مع خطواتها منذ سحب سفيرها غداة صدور الموقف الإسباني الجديد من قضية الصحراء، والاقتناع السائد أن السفير لن يعود إلى مدريد ما لم تنته الأزمة على النحو الذي تريده الجزائر. ومن الواضح أن التصعيد يستهدف دفع مدريد إلى سحب موقفها أو التراجع عنه، لكن حكومة بيدرو سانشيز كانت أعلنت أن موقفها اتخذ بناء على «قرار سيادي». ومن خطوات التصعيد، مثلاً، وقف التعاون في مكافحة الهجرة النظامية، والامتناع عن استقبال المهاجرين غير الشرعيين الذين تقرر إسبانيا ترحيلهم، والأزمة المفتعلة لوقف ضخ الغاز في حال باعت إسبانيا أي كمية منه إلى المغرب. لا شك أن «العقوبات» سلاح مؤثر سياسياً، خصوصاً في زمن الأزمات الاقتصادية، إذ إن وقف النشاط التجاري يعرض عشرات القطاعات والشركات الكبرى لخسائر فادحة، وتستخدمه الجزائر بمثابة تحذير مسبق للدول التي تفكر في إعلان مواقف صريحة من قضية الصحراء، كما فعلت ألمانيا وهولندا، وكان ملاحظاً أن الجزائر استبقت خطواتها ضد إسبانيا باتفاقات تقارب غير مسبوق مع إيطاليا. وبات متداولاً مغاربياً وحتى أوروبياً أن الجزائر في صدد تفعيل علاقاتها مع أحزاب إسبانية مناوئة للحزب الاشتراكي الحاكم، وأنها لا تخفي سعيها إلى إسقاط حكومة سانشيز، علماً بأن تقاربه مع المغرب أثار خصومه في اليمين (حزب الشعب) واليمين المتطرف (فوكس) والوسط الليبرالي الذين يعتبرون أن ليس لديه الدعم ولا التفويض لتغيير موقف إسبانيا في شأن الصحراء، لكن مبادرة سانشيز أرادت من جهة إعادة ضبط الهجرة الشرعية عبر جيب سبتة المغربي، ومن جهة أخرى إنعاش مناطق الجنوب الإسباني بعد أن تأثر اقتصادها بشدة خلال القطيعة مع المغرب (بدءاً من مايو 2021). التوازن الدبلوماسي بين المغرب والجزائر في صدد أن يصبح مستحيلاً أوروبياً، خصوصاً مع ازدياد مجالات التعاون والاستثمار بين المغرب ودول أوروبية عدة، تحديداً بالنسبة إلى الطاقة المتجددة والعمل الحثيث لمد أنابيب الغاز النيجيري إلى أوروبا عبر المغرب. وفي الأثناء يراقب الأوروبيون عن كثب تنامي التنسيق الجزائري مع روسيا خصوصاً في مالي ومنطقة الساحل الأفريقي... *ينشر بالتزامن مع موقع النهار العربي.
مشاركة :