مخاوف مشجعة على التمثيل.. الجيران نموذجًا..

  • 6/14/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كانت العائلة تظن أنني بمجرد كشفي لسر خروفة (أم حمار)، هذا الكائن الخليط بصفات وطباع مزدوجة تجمع بين الإنسان والحمار، ومعرفتي بمن يقوم بدور هذا الكائن الغريب وبعبع الأطفال في الحي، بل في المدينة كلها، كانت تظن بأنني سأثوب إلى رشدي وأكف عن تشخيص دور أم حمار طالما أصبحت واقعًا حيًا أراه يتجسد أمام عيني، وبالتالي سأنصرف عن التفكير في أم حمار وألتفت إلى دروسي وواجباتي اليومية، لكن كل ما توقعته العائلة الكريمة لم يحدث منه ولا أدنى شيء، بل العكس، ازداد ولعي بالتمثيل والمسرح وأصبح ما كنا نتخيله واقعًا ماثلاً أمام أعيننا وبإمكاننا الحوار معه وتشخيصه والإضافة إلى مكوناته المعروفة تصورات جديدة تقترحها مخيلتنا الطفلية المشتعلة بشخصيات وأحداث لم نرها قط في حياتنا وبإمكاننا استحضارها في واقعنا عبر تشخيصها المتخيل. هذا الولع اختلطت مغرياته التخيلية الحلمية بكوابيس مفزعة أراها وكما لو أنها اللحظة تحدث أمامي، حيث تداهمني بعض الهذيانات الغريبة وحالات من الهلع وانحباس النفَس أثناء النوم ليلاً وخاصة في حوش بيتنا الواسع أثناء الصيف، وكنت أتخيل حتى الأبقار التي تحتويها زريبة جدتي الكبرى نوره بنت عبدالله المسيفر، التي احتوتني هي وجدتي لوالدي قُوت بنت علي بن سالم البنزايد الدوسري وأغدغتا علي بحنانهما حتى وفاتهما رحمة الله عليهما، وآلت غرفتهما إلي لتصبح مطبخ كتابتي المسرحية فيما بعد، أراها أشبه بكائنات غريبة مضحكة ومفزعة في نفس الوقت. هذه الأحلام والكوابيس المسرحية التي تحيا معي حتى أثناء النوم، اضطرت الوالد أحمد بن علي الحمدان رحمه الله لأن يعرض حالتي على شيخ دين، وهو قريب له، يدعى صقر الرويعي، والذي مارس بدوره مهمته كبقية شيوخ الدين الأنقياء عندما تعرض عليهم حالات شبيهة أو مثل حالتي، حيث أسدل رأسي بكفه الكريمة وتلا سور المعوذات، ثم بعض الأدعية، ثم طلب مني أن أشرب (المحو) من صحن أبيض صغير، والمحو هو ماء الورد مخلوط بالزعفران ومقروء عليه بعض سور وآيات قرآنية وأدعية تبطل الوساوس والمخاوف التي تداهم النفس. وبعد أن شربت المحو حوّط الشيخ صقر رقبتي بحرز جلدي صغير تدلى بخيط رفيع على صدري، كان يعتقد أنه يمنع المخاوف التي تداهم الإنسان ليلاً بسبب الآيات والأدعية التي يحتويها. ولكن، وكما يبدو أن كل جهود ومحاولات والدي والشيخ صقر الرويعي في إزاحة الروع والمخاوف والكوابيس، لم تجد ولم تتمكن من لجم رغبتي العارمة في تشخيص أو متابعة من يقوم بتشخيص وتخيل هذه الشخصيات الخرافية التي تحيا بيننا، في الخرائب والبيوت المهجورة والأماكن المعزولة والنائية وفي الوادي والمقابر والأزقة الشعبية الطينية الضيقة وفي عين أم الأرواح بالقرب من عين الحنينية بالوادي وفي وجوه بعض الشخصيات الشعبية التي يأخذها شطط المخيلة إلى مسافات بعيدة وغريبة، والتي كان يظن أكثر الناس في مدينتنا الرفاع بأنهم يزاولون الكذب علينا كل يوم، بينما هم يشعلون مخيلتنا بما لم نره حقيقة في الواقع، ومن بين هؤلاء شقيق المعروف سلطان الحكم رحمه الله والد الممثلة المعروفة سبيكه الحكم الذي يحتوي أهل الحي قرب دكانه كل مساء جنوب الرفاع وتبدأ المخيلة في نسج الحكايات والأساطير الشعبية المبتكرة. قلت يبدو أن كل هذه الجهود والمحاولات صارت هباء منثورا، وعدت ثانية وربما بشقاوة اكثر من السابق في مزاولة تجسيدي وبرفقة بعض الأطفال هذه الشخصيات المتخيلة، حتى ظن بعض الجيران أنني جننت ولم يُجد هذا الحرز نفعا معي، بل أصبحت مزعجا لبعض العائلات الجارة خاصة، لأنني سأكون أحد من يعدي أبنائهم بلوثته المخبولة، فراحوا يبتكرون طرقًا كثيرة لصرفي عن هذا الولع الذي ربما يلهي أبنائهم عن دروسهم وعن صلاتهم وعن طاعتهم لأوامر ونواهي أولياء أمورهم، علمًا بأني كنت من التلاميذ المتفوقين في دراستي بالرغم من ولعي بهذه الشخصيات والكائنات التي تنتمي للمخيلة والمسرح، وهذا الأمر يضع بعض العائلات التي تمنع أبناءها عن مرافقتي في حيرة، إذ كيف نمنع أبناءنا عن هذا الصبي وهو (الشاطر) في المدرسة؟ العيب فيه أم في أبنائنا؟ حتى يصلوا إلى نتيجة مفادها أنه بسلوكه هذا سيصرف أبناءنا عن الصلاة وعن طاعتنا، وهذا أمر أهم من الدراسة ذاتها.  المضحك والغريب في الأمر، أن بعض الشخصيات المجاورة بيوتها لبيتنا، أصبحت تخترع وتبتكر بعض الشخصيات الكاريكاتورية المرعبة لتخويفي وكفي عن التخيل وارتجالي لهذه الخروفات وللجم شقاوتي التي أصبحت مزعجة ومحرجة حتى لوالدي ووالدتي، لأجد نفسي في مواجهة أدوار مسرحية أخرى جديدة يصنعها ويبتكرها ويتخيلها من هو ضد ولعي بهذه الارتجالات، ولأجدهم قد أطلقوا على هذه الشخصيات أسماء غريبة يستحضرونها بقوة بمجرد دخولي بيوتهم حتى أفر منها وألوذ إلى مكان آخر، ولكنهم لم يتوقعوا بأنني سأعود في اليوم التالي أو بعد قليل لأتابع تخاويفهم المرتجلة لي. وكانت بعض الأساطير والخرافات الأخرى التي كانت تستخدم لتخويف الأطفال آنذاك، هي أم الخضر والليف وكلبة الغايله وغيرها، وهذه الخرافات وعيت لها بسببهم هم، هؤلاء الجيران الرائعون الذين دون أن يعوا زادوني ولعًا بالمسرح بسبب مشاركتهم معي تخيل ما يمكن أدائه، ودون أن يعلموا أنهم كانوا يمارسون التمثيل معي.  وقد استثمرت هذه المخاوف والأساطير والطقوس في مسرحية (الجاثوم) ومسرحية (ارتحالات نجمة في زمن العتمة) برؤية مشاكسة لهذه النوايا الطيبة لدى بعض بل أغلب الأهالي في مجتمعنا.

مشاركة :